لم يكن خبر الوفاة مُتوقّعاً، ولا أن وباءً قد يحلُّ فيصيب منه مقتلاً. “أبو الياس” الموزعة ساعاته للعمل والعمل، يكتنز طيبة من ثرى تربية طهرانية الشفافية ونظافة السلوك والاستقامة، وتَعتَمِل في حناياه فوائض من عطاء ومساعدة ولهفة وذائقة مرح تُبدّد مرارة الغربة البعيدة عن أمٍ شارفت على تخوم إنحناة الظهر إلى الركبتين، وعائلة صغيرة من زوجة وأطفال وأخوة وأخوات ينتظرونه كما حلول العيد في قريتهم المطلة على تاريخ من مقارعة إحتلال إسرائيلي، وإلى حيث كان “ابو الياس” يحصي سني عمره بانتظار التقاعد في قريته الجنوبية.
يوميات من تبادلٍ شعوري مُتعاكس عاشه “أبو الياس”، شقيق زينب، ومثله شباب الغربة والاغتراب، فإن نالوا شعور الأمان تجاه عوائلهم في الوطن، فلن يجدوا الشعور بطمأنينة الوحدة حيث هم.
لقد كان فيروس كورونا سريعاً، مُبهماً، قنّاصاً، وحاطب ليل، تسلّل إلى جسد “أبو الياس” من مكان ما، من مرور ما، ومن كثرة احتراز على كثير من قلق! فالأمر سيّان مع هذا الوباء إلى أن يحين الإمساك به صريع لقاح لم يأت بعد.
خبر الموت كانت قد سبقته حفنة موات من نوع صادم. فالوباء أصاب جسد “أبو الياس”، واقترن تشخيصه بعاهة الانزلاق إلى الخطأ، فالغربة القاتلة، التي أقعدت الرحيل عن الرحيل إلى تراب الدحنون والغَوَردَن.
ثمة إجراءات لم تستطع أن تفي بالغرض، والإعداد للرحيل المضاد إلى أرض الوطن.. وثمة الكثير من تقاليد اجتماعية قَسَت بشروطها على قرار الرحيل.. ولكن ثمة العديد من أصدقاء “أبو الياس” كانوا العون في غربته، وغربتهم، وغربة الأهل عن إبنهم المصاب. أصدقاء صدقوا في محنته، وكأنهم كانوا يختبرون مِحَن غربتهم، فاستفاقوا على جهودٍ فيهم لم تهدأ، وفي محاولات منهم لتدارك بعض من لائحة المفاجآت، مواساة منهم لأنفسهم، ولعائلة “أبو الياس” البعيدة.. والكثير من أصدقاء زينب شقيقة “أبو الياس” ومعارفها من زملاء أيام مهنة العمل في صحيفة “السفير”، فلم يألُ جهداً لإجراءات تواسي غربة الأهل الحزينة/ القلقة/ المُتقلّبة على نار السؤال وتلقّي الجواب الشافي لحال ومصير غربة الجسد المُصاب/المتوفي.
صعق الموت صديقتنا زينب، وعائلتها، وصعق الوباء بممنوعاته الدنيوية والأخروية حال الاشتياق لعبور العودة المعاكسة.. لطمأنينة الزيارات الصباحية لمثوى مسقط رأسه والولادة، لعلّه في تلك الصباحات يستمع من ذاكرة الأحبة الزائرين إلى قصائد نظمها والده المرحوم حسن حسون، ولأشعار وهتافات خلّدتها التظاهرات المطلبية للقوى والأحزاب الوطنية في مرحلة ما قبل العام 1975 وأجملها ذاك الذي نَظَمَه وأعلى الهتاف به أبو حسن شقيق “أبو الياس” وزينب عندما قال متحدّياً: “مين بيقدر يغتالك يا ثورة مين/ لو نظّمت عمّالك والفلاحين”.
رحم الله “أبو الياس”، وقد أدرك قبل رحيله موات تلك الثورة وعمالها والفلاحين.