منذ أربع سنوات، باتت بيروت موطنًا لي ولزوجي. لذلك، أنظر إلى المحنة التي تعرضت لها العاصمة اللبنانية، بعد الانفجار الضخم في مينائها، على أنها مأساة شخصية. تقع شقتنا السكنية في الجبل المطل على بيروت، فوق الميناء مباشرة، أو بالأحرى فوق ذلك الجزء منها، وللمصادفة يحمل اسم “الكرنتينا” (المحجر الصحي). قبل أمد طويل، كانت السفن المشبوه بأنها يمكن أن تسبب الأوبئة تعزل في ذلك المكان، واليوم، وحتى الأيام الأولى من شهر آب/أغسطس 2020، كانت رؤوس الماشية البرازيلية والأوكرانية تحجز هناك في الحجر الصحي، وهي مواش تنقل عن طريق البحر إلى لبنان لتصبح مكونات شهية في وجبات المطبخ اللبناني.
بالإضافة إلى ذلك، كان هذا القسم من مرفأ بيروت بمثابة منصة لتفريغ وتحميل السفن، كما يتضح من وجود خمس رافعات عملاقة، حمراء وزرقاء، تبدو من الناحية الجمالية كطابور حرس على رصيف المرفأ. في الليل، يكون المرفأ مضاءً، ما يخلق مشهدا صناعيا أنيقا للغاية في بلد أبعد ما يكون عن البلد الصناعي. والمثير للدهشة أن هذه الرافعات “الحراس” قد نجت من الانفجار، وأريد أن أصدق أن هذه علامة إيجابية. بعد كل شيء، فنحن نبحث دائمًا عن بعض العلامات والرموز والتلميحات التي تتوافق مع حالتنا الذهنية.
يوجد في العاصمة اللبنانية حي قديم يسمى الأشرفية. إنه أحد الأحياء الأكثر تضررًا من الانفجار. كانت الأشرفية مكان المشي المفضل لدي، ليس لأنها تتيح للمرء أن يشعر بجو بيروت القديمة فحسب، بل لأن هذا الحي مرتبط باسم أغاتانغل كريمسكي، الذي عاش هنا بين 1896 و1898. استأجر الكاتب والعالم الأوكراني شقة في هذا الحي الأرثوذكسي، وقد وصفه بالتفصيل في مجموعته “قصص بيروتية” (نقله إلى العربية عماد الدين رائف، رياض الريس للكتب والنشر، 2017) وفي رسائله إلى والده وشقيقه وشقيق زوجته.
لم أتمكن أنا وأصدقائي اللبنانيين تحديد مكان المنزل الذي عاش فيه كريمسكي بالضبط. لكن، بعد “تمشيط المنطقة” بشوارعها الضيقة الصغيرة، حيث لا تزال المباني التاريخية وبعض الشركات العائلية التقليدية القديمة قائمة، توصلت إلى استنتاج مفاده أن عدم وجود نتائج لن يخيب ظني: لقد أحببت عملية “فك شفرة” خريطة إقامة أغاتانغل كريمسكي في لبنان وعرض فانتازيا عن رحلة تاريخية وثقافية للأوكرانيين حول موضوع “بيروت أغاتانغل كريمسكي”.
أعتقد أنه سيكون من المشرف للسلطات اللبنانية أن تعيد إعمار هذه المنطقة كما كانت. ومع ذلك، فإن الحقيقة التي لا جدال فيها هي أنها ستكون مختلفة بالفعل، لأن البيوت التي أعجب بها كريمسكي، حيث شرب القهوة واشترى فاكهته المفضلة، أي العنب، للأسف لا يمكن ترميمها
خلال فترة الانتداب الفرنسي هنا، في موقع البيوت القديمة، بنيت فيلات ذات واجهات مبهرة ومبان متعددة الطبقات على الطراز الشرقي الحديث. تهاوت هيبتها في العقود الأخيرة تحت وطأة الهندسة المعمارية الحديثة للمباني السكنية الشاهقة. والمنطقة المذكورة، التي اختارها الكاتب الأوكراني للتنزه، تقع بالقرب من “الكرنتينا”، حيث تتدفق مياه نهر بيروت آتية من الجبل (أطلق عليه كريمسكي اسم بيروتيانكا) لتصب في البحر الأبيض المتوسط. هنا، كما ذكر، كانت حدائق خلابة، بستان خوخ، وجلال زيتون، مروج خضراء، وأشجار نخيل فخورة، أشجار توت ولوز، وعرائش عنب النبيذ… بالطبع، في القرن العشرين، تحول كل شيء إلى كتل إسمنتية، تطل من بينها بين الفينة والأخرى بقايا حدائق وبساتين فتنعم عين الناظر ببعض الطراوة.
أما الآن، فكل ذلك تحول إلى أنقاض.
بطبيعة الحال، في غضون بضعة أشهر، ستبعث الحياة في هذه المدينة من جديد، لكن للأسف سيتقلص عدد ملامح بيروت القديمة.. بيروت أغاتانغل كريمسكي.
إلى جانب الأشرفية (في الخط الأول بعد الميناء البحري)، يقع شارعان تاريخيان شهيران: الجميزة ومار مخايل (القديس ميخائيل). إنها منطقة مسيحية قديمة كذلك، فيها مبان تاريخية من تلك المباني التي كانت تستخدم للتجارة العائلية، تتخللها أبنية الطراز الشرقي الحديث، يعود بناؤها إلى عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين. حتى وقت قريب، كانت المقاهي والمطاعم ذات الساحات الخلابة، والحانات، والمعارض الفنية الحديثة، ومحال بيع الكتب الضئيلة المساحة، والمتاجر القديمة تكتظ بالناس هنا. كانت الموسيقى الحية صادحة، والشباب يقرأون الأشعار، وكانت البوهيمية الفنية والأدبية تتسكع في الأزقة، وتفوح رائحة القهوة، والنرجيلة (الشيشة)، ورائحة الطعام اللذيذ، وينتشر عبق صابون زيت الزيتون الشهير. تنتمي هذه الأماكن أيضًا إلى “خريطة أغاتانغل كريمسكي البيروتية”.
لكنها لم تعد موجودة اليوم.
أعتقد أنه سيكون من المشرف للسلطات اللبنانية أن تعيد إعمار هذه المنطقة كما كانت. ومع ذلك، فإن الحقيقة التي لا جدال فيها هي أنها ستكون مختلفة بالفعل، لأن البيوت التي أعجب بها كريمسكي، حيث شرب القهوة واشترى فاكهته المفضلة، أي العنب، للأسف لا يمكن ترميمها… قبل عدة سنوات، في عيد الاستقلال اللبناني، نشرت إدراجًا فكاهيا على موقع الفايسبوك، أصبح هذا الإدراج في ما بعد مطبوعًا في روايتي “أجنبية في سيارة حمراء” (ترجمتها قيد الطبع، الدار العربية للعلوم ناشرون): “عزيزي لبنان، أشكرك على تعليمك لي بعض الأشياء المهمة: أن أبقى هادئة وابتسم في أي موقف غير متوقع (وبعد ذلك ستحل الأمور نفسها بنفسها)، والقدرة على العيش في وضع “بين بين” (يسمي علماء الأنثروبولوجيا ذلك بالدبلوماسية اليومية)، وأنه من الممكن تمامًا الاستغناء عن بعض الأشياء التي نعتبرها إلزامية (على سبيل المثال قواعد المرور والإملاء)، ولكن بدون بعض الأشياء الأخرى (مثل التبولة، الحمص، الفلافل، حرفا “العين” و”الغين”، وكلمة “حبيبي”) ستبدو الحياة بلا أي معنى”.
عندما كتبت هذه الكلمات، كانت الأكثر صدقًا في العالم. مما لا شك فيه، أن اللبنانيين سيعودون إلى حياتهم الطبيعية على هذا النحو في المستقبل، لأن التفاؤل والقدرة على الخروج من الأزمات بكرامة “في دماء اللبنانيين” وثقافتهم.
لكن ليس الآن. الكارثة شديدة جدًا، وسبقتها عوامل سلبية كثيرة. المجتمع اللبناني اليوم غارق في لهيب السخط، إنه يغلي بالغضب، إنه يحتج. وكما تظهر الأحداث الأخيرة، فإن اللبنانيين لن يتمكنوا من الهدوء والابتسام في هذا الوضع المأسوي. لكن لا يمكننا الشك في أن اللبنانيين سيعيدون بناء بيروت كما فعلوا غير مرة. ونحن، الباحثين عن الآثار الأوكرانية في الشرق، سنرسم مرة أخرى خريطتنا التاريخية والثقافية “بيروت أغاتانغل كريمسكي”.
(*) ترجمة عماد الدين رائف لمقالة الكاتبة والباحثة الأوكرانية البروفيسورة مارينا هريميتش (زوجة السفير الأوكراني في لبنان إيهور أوستاش) في جريدة “سلوفو بروسفيتي” الثقافية الأسبوعية، العدد 33 (1085) بتاريخ 19 آب/أغسطس 2020.