يضرب القلقُ العميق الناس والسياسيين على السواء: الناس بسبب قرب رفع الدعم عن المحروقات والأدوية والطحين ومواد غذائية أساسية، برغم الفذلكات الكثيرة التي تحاول تغطيه الكارثة بالمساحيق؛ والساسة لادراكهم بأنهم على مشارف لحظة المواجهة المصيرية عشية انفجار الغضب الشعبي الذي لا أحد غير الله يعلم الى أين سيصل: فوضى عارمة أم ثورة عاقلة تثمر برنامجا وتفرز قيادة وتطمئن الناس.
دخلت السلالة السياسية المتعددة الطوائف والانتماءات والمفتقرة إلى أي مشروع سياسي اقتصادي انقاذي حقيقي، في لعبة الخطر الأكبر، حيث تتواجه بفتح وفضح الملفات وتبادل الاتهامات عبر القضاء والاعلام، وهي لذلك ستلجأ أولا الى حماية حاشيتها القريبة بكل الوسائل وسوف تستشرس في ذلك، أو تنزل الى الشارع في استعراضات تحمل شعارات مختلفة لفرض واقع امني وخطوط تماس تُشبه ما كانت عليه الأوضاع قبل الحروب الاهلية المتفرقة.
بالمقابل، فان الاحتقان الشعبي يكاد يبلغ ذروته، وهو مُرشّح للانفجار في أية لحظة. والخطير في الأمر هذه المرة، أن هذا الغضب سيكون متفلتا من أي ضوابط بحيث ينفجر في أي منطقة وقد ينزلق الى متاهات أمنية أو حزبية او مذهبية وطائفية، خصوصا اذا ما قرّرت السلالة السياسية ضرب أي تحرك شعبي قد يهدد بقاءها.
مشهدٌ كهذا سيكون مثاليا لمن يريد اختراق لبنان طولا وعرضا، فثمة من يريد فرض واقع جديد ينسجم مع قطار صفقة التطبيع والدفع باتجاه تصعيد عسكري داخلي او خارجي، وأطراف اخرى ترى ان في الكارثة الحالية، امكانية لاعادة النظر بالنظام اللبناني. هذا يعني أن الامور مُرشحة لكل الاحتمالات وليس بينها ما هو جيد.
هذا هو الواقع الآن بلا مواربة وبعيدا عن الاحتيال المتبادل بين أهل السلالة السياسية المتعددة الطوائف والانتماءات تارة بين بعضهم البعض ومرات ضد الشعب.
نحن أمام لحظة الفوضى غير الخلاقة أبدا. ولذلك فان الخلاص خرج من يد سياسيي الخراب الشامل، ولم تمتلكه بعد أي فئة شعبية قادرة على تعبئة الشارع وضبطه وطرح مشروع سياسي-اقتصادي-مالي انقاذي، وفرز قيادة تستطيع ان تقود وتحاور في الداخل ومع الخارج.
يُمكن للجزائر والعراق ان يلعبا دورا مهما جدا، لو عرفت السلطة كيف تحاورهما، فمن يعرف نخوة البلدين حيال اخوانهم يُدرك انهما قد يقدمان كل التسهيلات وصولا الى مجانية النفط لفترة محدودة. ومصر المحتاجة اصلا للمساعدة، تحرم اهلها منها وتعمل بجهد حاليا لضمان أدوية وعلاجات للبنان
الخلاص يحتاج معجزتين، الأولى، ستبقى معجزة، والثانية قد تتحقق:
أما المعجزة الأولى فهي أن يتم تشكيل حكومة باقصى سرعة ممكنة، تضمن عدم رفع الدعم، وتبدأ بالافراج عن ودائع الناس، وتؤمن الغذاء والماء والكهرباء والطبابة بالحدود المقبولة. تكون حكومة انقاذ حقيقي مع مشروع واضح، وخطة عمل لكل وزير مع برنامج التنفيذ، على أن يتكفل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بتأمين المخارج المالية المُلحة عبر الاتحاد الاوروبي وصندوق النقد الدولي وبعض المساعدات العربية. هنا يُمكن للجزائر والعراق ان يلعبا دورا مهما جدا، لو عرفت السلطة كيف تحاورهما، فمن يعرف نخوة البلدين حيال اخوانهم يُدرك انهما قد يقدمان كل التسهيلات وصولا الى مجانية النفط لفترة محدودة. ومصر المحتاجة اصلا للمساعدة، تحرم اهلها منها وتعمل بجهد كبير حاليا لضمان أدوية وعلاجات للبنان. ويمكن تفعيل ذلك مع دول عربية او غير عربية اخرى تنتج ادوية. هل هذا ممكن؟ على الارجح لا، لان السلالة السياسية الآيلة للانقراض، غارقة بمشاكلها السطحية وغائبة عن وعي التفكير بحلول، ومتصارعة على مذبح المحاور.
أما المعجزة الثانية فتكمن في تنسيق سريع لتحرك شعبي مطلبي، يكون عماده طلاب الجامعات وبعض المؤسسات الاخرى مثل النقابات المهنية ونقابة المحامين وعدد من القضاة والضباط والاعلاميين والاطباء المقبولين شعبيا. يتم طرح مشروع من نقاط انقاذية مُلحة لها علاقة بحياة الناس، ويصار الى الاتفاق على قيادة مؤقتة للتحرك تخاطب الاعلام والسلطة والخارج، فالحوار ضروري مع وجود ضغط في الشارع، وتحافظ على سلمية التحرك وشموليته، بحيث تكون الافكار جاذبة لمعظم الناس وليست رافعة شعارات صدامية، لان هكذا شعارات ستدفع “الشعوب” للدفاع عن قادتها وزعمائها بدلا من التعاطف مع الحركة المطلبية.
هل هكذا معجزة قابلة للتحقيق؟ نعم، وهي الوحيدة القادرة على توجيه الغضب الشعبي باتجاه وطني سلمي صحيح لوضع اسس الانقاذ اولا، ثم الاصلاح في المرحلة الثانية.
لعل خطأ السلالة السياسية المتعددة المشارف والطوائف، تمثل سابقا في اليقين باحتمال سحق غضب الناس وامتصاص التحرك الشعبي خصوصا مع المساعدة التي قدمتها جائحة كورونا، ولعل مغالاة التحركات الشعبية تمثلت في اليقين بحتمية اسقاط كل الطبقة السياسية السابقة دون الاخذ بعين الاعتبار شعبية هذه الطبقة وقلق ناسها ايضا.
الآن ثمة فرصة للانقاذ والاصلاح، حتما لن تأتي من السياسيين، اولاً لعجزهم، وثانياً لان ثمة صراعا كبيرا يدور في المنطقة بين محورين، ولبنان احد اهم ساحات الصراع، لكن الفرصة يُمكن ان تأتي من الشعب اذا أحسن هذه المرة صب غضبه في إطار انقاذ اصلاحي يفرض نفسه على الداخل والخارج ويحمي الوطن وحدوده ويمنع الاختراقات ويحظى بحماية المؤسسة العسكرية. هي معجزة طبعا لكنها اقرب الى التحقيق من معجزات السلطات المتعاقبة التي لم تتحقق بل زادت الشعب فقرا والوطن تدميرا.
غير هذا، فان لبنان امام الفوضى العارمة مع كل مآسيه الاقتصادية والمالية وخصوصا الأمنية تماما كما حصل في سوريا وليبيا وربما أسوأ، فما يحصل في لبنان ليس أمرا عابرا ولا هو فقط بسبب غباء معظم الطبقة السياسية وانما مرتبط وسيرتبط أكثر بحسابات اقليمة ودولية خطيرة.