بعد إنتهاء حرب يونيو/ حزيران 1967، نفذت الأجهزة الأمنية “الإسرائيلية” العديد من المحاولات لاغتيال رئيس منظمة التحرير الفلسطينية وحركة فتح ياسر عرفات (أبو عمار)، لكنها باءت جميعها بالفشل، وأبرزها هجوم “اسرائيلي” واسع على منطقة الكرامة الاردنية التي كانت تضم المقر الرئيسي لحركة فتح وبضعة قواعد للمنظمات الفلسطينية الاخرى. وقد مني الجيش “الاسرائيلي” خلال الهجوم بخسائر كبيرة في الارواح ناهيك عن تعرضه إلى هزيمة معنوية كبيرة.
يقول الكاتب الإسرائيلي رونين بيرغمان ان فشل “عملية الكرامة”، جعل القيادة “الاسرائيلية” تقرر إتباع سياسة متشددة حيال اية غارات داخل الحدود الاردنية، ما ولد حالة من الاحباط والعجز داخل صفوف الجيش “الإسرائيلي”. ويستشهد بيرغمان بمحاضر اجتماعات القيادة العسكرية في تلك الفترة ليشير الى حجم الاهتمام الذي باتت توليه هذه القيادة لياسر عرفات الذي بات يتمتع بشعبية واسعة في صفوف الشباب الفلسطيني. ويضيف الكاتب استنادا الى هذه الوثائق ان الهم الرئيس لقيادة اجهزة الاستخبارات انصب على محاولة تحديد مكان وجود عرفات والعمل على تصفيته ولكن كل هذه الجهود ذهبت هباء منثورا، وقد وصل اليأس بهذه الاجهزة الى درجة موافقتها على خطة غريبة مقتبسة من فيلم هوليودي منتج عام 1962 بعنوان ”Manchurian Candidate”، وتقوم حبكة الفيلم على فكرة قيام ضابط استخبارات صيني بغسل دماغ اسير حرب اميركي وتنويمه مغناطيسيا قبل ان يرسله الى الولايات المتحدة لاغتيال الرئيس الاميركي. وقد اتى بهذه الفكرة عالم نفسي من اصول سويدية يعمل في صفوف البحرية “الاسرائيلية” واسمه “بنيامين شاليت”. وقد ادعى “شاليت” ان باستطاعته القيام بالامر نفسه وان يكون الهدف ياسر عرفات، وقال “شاليت” في اجتماع ضمه الى رئيس جهاز “امان” اللواء “اهارون ياريف” انه اذا تم تسليمه سجين فلسطيني، من بين الاف السجناء في السجون “الاسرائيلية”، وكان هذا السجين يتمتع بالمواصفات المطلوبة، فانه قادر على غسل دماغه وتنويمه مغناطيسيا ليصبح قاتلا مبرمجا ويرسله عبر الاردن لينضم الى صفوف حركة فتح بانتظار اللحظة المناسبة لقتل عرفات. وافقت اللجنة الاستخبارية على هذه الخطة واختار جهاز “الشين بيت” عدة مرشحين مناسبين وارسلهم الى “شاليت” لاجراء المقابلات معهم حتى يختار افضلهم للمهمة. بعد مقابلات مطولة، اختار “شاليت” من اعتبره الافضل بينهم، وهو من مواليد مدينة بيت لحم وعمره 28 سنة، قوي البنية ولا يتمتع بذكاء كبير ومن السهل التأثير عليه ولم يكن يبدو عليه انه كثير الالتزام بقيادة ياسر عرفات، وكان خلال فترة اعتقاله يعيش في قرية صغيرة قرب مدينة الخليل في الضفة الغربية وكان مجرد ناشط على مستوى قاعدة حركة فتح، وقد اعطته الاستخبارات “الاسرائيلية” اسما حركيا لتنفيذ المهمة هو “فتحي”.
رافي سوتون: “فكرة غبية ومجنونة وتذكرني بافلام الخرافات العلمية القائمة على الخيال الواسع والتضليل”
ويمضي بيرغمان بالقول ان الوحدة 504 في جهاز “امان” كلفت بتأمين البنى التحتية الضرورية للمهمة على الرغم من اعتراض قادتها على كامل الخطة التي وصفها قائد قاعدة الوحدة في القدس “رافي سوتون” بانها “فكرة غبية ومجنونة وتذكرني بافلام الخرافات العلمية القائمة على الخيال الواسع والتضليل”.
لم يأخذ أحد بإعتراض “سوتون” ومضى “الشين بيت” بتنفيذ الخطة. لهذه الغاية، تم تخصيص منزل من عشر غرف وضع بتصرف العالم نفسي “شاليت” الذي امضى ثلاثة اشهر من العمل المضني على “فتحي” مستخدما تقنيات عدة من التنويم المغناطيسي، وكانت الرسالة التي يراد غرسها في رأس “فتحي” هي “فتح جيدة، منظمة التحرير جيدة، عرفات سيء يجب التخلص منه”.
يضيف بيرغمان انه بعد مرور شهرين على عملية غسل الدماغ والتنويم المغناطيسي، بدا كأن “فتحي” قد تلقى الرسالة جيدا. فتم الانتقال الى المرحلة الثانية من الخطة وهي ان يوضع “فتحي” في غرفة جهزت خصيصا للمهمة بحيث يوضع في يده مسدس وتبدأ صور عرفات بالقفز امامه من زوايا مختلفة في الغرفة، ويقال له أطلق النار عليها مباشرة من دون تفكير مسبق، والهدف ان يطلق النار تماما بين عيني الصورة بهدف القتل.
خلال عملية اعداد السجين “فتحي” للمهمة، قام رئيس جهاز “امان” المدعو “اهارون ياريف” ومعه “اهارون ليفران”، وهما اثنان من ثلاثة رجال يشكلون وحدة القتل المتعمد في الجهاز، بزيارة مقر التدريب وراقبا عن كثب عمل “شاليت”. وينقل بيرغمان عن “ليفران” قوله إن “فتحي” وقف في وسط الغرفة فيما كان “شاليت” يتحدث اليه وكأنهما يجريان محادثة عادية، وفجأة ينقر “شاليت” يده على الطاولة فينطلق “فتحي” بالدوران حول الطاولة، حيث كان يتحرك بصورة الية كردة فعل على اي اشارة يطلقها له “شاليت”، ثم وضعه في غرفة اخرى حيث اظهر لنا “شاليت” كيف رفع “فتحي” المسدس واطلق النار كلما ارتفعت امامه صورة لياسر عرفات من بين احدى قطع الاثاث، لقد كان الامر مثيرا جدا”.
اراد جهاز “امان” ان يؤجل تنفيذ العملية ولكن “شاليت” اصر على ان “فتحي” في اقصى حالات التنويم المغناطيسي وانه لا بد من انتهاز هذه الفرصة
في منتصف ديسمبر/ كانون الاول عام 1968، اعلن “شاليت” انه بات بالامكان الانطلاق نحو تنفيذ العملية. وهكذا فقد حددت ساعة الصفر في التاسع عشر من ديسمبر/ كانون الاول حيث كان من المقرر ان يقوم “فتحي” بالسباحة عبر نهر الاردن نحو الاراضي الاردنية. في تلك الليلة، هبت عاصفة قوية وتساقط المطر بلا انقطاع وطافت مياه النهر على ضفتيه على غير عادتها في تلك الاوقات، اراد جهاز “امان” ان يؤجل تنفيذ العملية ولكن “شاليت” اصر على ان “فتحي” في اقصى حالات التنويم المغناطيسي وانه لا بد من انتهاز هذه الفرصة. فقام موكب كبير بمرافقة “فتحي” من القدس ومعهم “شاليت” نفسه الذي قال بضعة كلمات مرتبطة بالتنويم المغناطيسي لـ”فتحي” قبل القائه في النهر حيث كان يمشي على ارض النهر وعلى ظهره حقيبة سوداء فيها امتعته، وما ان مشى مسافة قليلة حتى باتت المياه تغمره بالكامل ولم تعد اقدامه تطأ الارض واخذ التيار المائي يجرفه وبات غير قادر على المضي نحو الجانب الاردني من النهر وغير قادر على العودة، فانقذ الموقف سائق يعمل في الوحدة 504 يدعى “اوفاد ناتان”، وكان قوي البنية ومفتول العضلات، اذ قفز في الماء مخاطرا بنفسه وربط حبلا بينه وبين “فتحي” وقاده الى الجانب الاردني حيث تأكد ان اقدامه باتت على البر الاردني وعاد الى رفاقه في الجانب “الاسرائيلي” حيث كان “رافي سوتون” يراقب العملية وهو يرتجف من البرد. وقف “فتحي” على الجانب الاخر ملوحا بالوداع ورفع اصابعه على شكل مسدس كأنه يطلق النار بين عيني هدف متخيل. ينقل رونين بيرغمان عن “سوتون” قوله ان شاليت عبر عن سعادته باستجابة مريضه وكانت عندها الساعة الواحدة فجرا.
بعد خمس ساعات من عملية الانزال، وصلت الى الوحدة 504 رسالة من احد عملائها في الاردن تقول ان شابا فلسطينيا ناشطا في صفوف حركة فتح في بيت لحم سلم نفسه الى مقر للشرطة الأردنية في منطقة “الكرامة” الاردنية واخبر أحد ضباط الشرطة الاردنية ان الاستخبارات الاسرائيلية حاولت غسل دماغه ليقتل عرفات وقام بتسليم المسدس الذي اعطاه له مشغلوه. وقال مصدر من داخل حركة فتح ان الحركة استلمت “فتحي” من الشرطة الاردنية بعد ثلاثة ايام حيث القى خطابا حماسيا يدعم فيه ياسر عرفات.. وكان مصير الفيلم الهوليودي الفشل الذريع.