قبل قيام الحرب العالمية الأولى فى 1914، كانت مصر تملك العديد من الأحزاب الفاعلة مثل الحزب الوطنى الذى أسسه مصطفى كامل، حزب الأمة الذى ترأسه محمود باشا سليمان، حزب الإصلاح على المبادئ الدستورية المقرب من الخديوى عباس والذى أسسه الشيخ على يوسف، الحزب الوطنى الحر المنحاز للإنجليز والذى أسسه محمد وحيد الأيوبى وأيدته بعض الجاليات الأجنبية الموجودة فى مصر، حزب المصريين المستقلين والذى عبر عن بعض الأقباط وخصوصا هؤلاء الذين تخوفوا من الاتجاهات الإسلامية للحزب الوطنى وقد أسسه أستاذ الحقوق أخنوخ فانوس وهو أيضا أحد الداعمين والمنظمين للمؤتمر القبطى الأول الذى عقد فى 1911 بمدينة أسيوط للمطالبة بحقوق الأقباط، حزب مصر الفتاة الذى أسسه إدريس راغب وسعى إلى استلهام تجربة حزب تركيا الفتاة داعيا إلى التحديث منحازا للبريطانيين باعتبارهم القادرين على تحديث مصر، حزب النبلاء والمقرب أيضا من الخديوى والذى جمع بين نقيضين حيث دافع عن الخديوى والدولة العثمانية، وفى الوقت ذاته دعا إلى التعاون مع البريطانيين من أجل تحديث الدولة المصرية!
مما لا شك فيه أن تلك التعددية الحزبية قد أثرت الحياة السياسية المصرية، إلا أنها عانت من مشكلتين رئيسيتين، الأولى، أن معظم هذه الأحزاب لم تكن تعمل بشكل مؤسسى وتعتمد بالأساس على عدد محدود من القادة المؤسسين والمفكرين المنحازين، والثانية، أن بعض هذه الأحزاب تحول فى النهاية إلى مجرد أدوات فى يد الخديوى أو الاحتلال البريطانى أو البرجوازية المصرية لتحقيق مصالح ضيقة بعيدا عن المسألة المصرية الوطنية!
***
مع قيام الحرب العالمية الأولى، تغيرت الأمور سريعا فى مصر، حيث أعلنت الدولة العثمانية انحيازها إلى الإمبراطورية النمساوية المجرية؛ وبالتالى فقد أصبحت فى حرب علنية مع بريطانيا، ومن ناحية ثانية، فقد قامت بريطانيا بإعلان الحماية على مصر لتأمين المجرى الملاحى ولسحب البساط من الدولة العثمانية التى أضحت تعانى من الوهن بعد عزل السلطان عبدالحميد الثانى قبل الحرب بسنوات معدودة، وقد تطلب ذلك عزل الخديوى عباس حلمى، بينما كان فى زيارة اعتيادية لإسطنبول وتعيين السلطان حسين كامل (عم الخديوي)، وبهذا القرار فقد انتهت السيادة الاسمية للدولة العثمانية على مصر، وخصوصا وأن حسين كامل حصل على لقب سلطان (نفس لقب رأس الدولة العثمانية)، وليس لقب خديوى كما جرت العادة منذ اسماعيل!
كان أشهر مكانين لاجتماعات الثوار هما بيت الأمة (بيت زغلول)، والجامع الأزهر، كما أن ما ميز هذه المظاهرات هى انضمام الأقباط لها بالإضافة إلى المرأة، ليدرك الإنجليز خطورة الموقف وعدم حسن تقدير ردة فعل الشعب على طرد الزعماء، وهو ما أدى إلى عودة الوفد بقيادة زغلول من المنفى
وقد عاشت مصر سنوات عجاف أثناء الحرب العالمية الأولى، فقد ازدادت الأسعار وتدهورت الخدمات وعانى الفلاحون والموظفون والعمال من جشع الإنجليز الذين استغلوا كل الموارد المصرية الطبيعية والبشرية من أجل دعم الدولة البريطانية فى حربها، فتم استعباد الجنود المصريين وإساءة معاملتهم مما ولّد غضبا مكتوما تراكم عبر سنوات الحرب الأربع لدى الشعب المصري!
***
هنا كان سعد زغلول على موعد مع التاريخ، فالنائب الذى اشتهر بمعارضته للإنجليز كوَّن وفدا مصريا ضم أيضا أسماء لامعة مثل القاضى والمحامى عبدالعزيز فهمى، والسياسى على شعراوى (زوج هدى شعراوي) وقامت فكرة الوفد على استغلال ظروف الصلح وانتهاء الحرب العالمية الأولى والدعوى إلى مؤتمر باريس للتسوية وانتشار أفكار حق تقرير المصير للمطالبة بإنهاء الاحتلال البريطانى لمصر والحصول على الاستقلال! وتوجه الوفد بالفعل إلى مقر دار الحماية البريطانية وتقابلوا مع الحاكم البريطانى «ريجنالد ونجت» ليطالبوا بالاستقلال المصرى وإنهاء الحماية والحصول على علاقات صداقة ندية مع الدولة البريطانية مع التعهد باحترام الالتزامات الدولية والمالية لمصر، مع تقديم طلب آخر بالسفر إلى باريس لحضور مؤتمر الصلح!
ورغم موافقة بريطانيا فى البداية، إلا أنه عندما ذهب الوفد للحصول على التصاريح اللازمة للسفر إلى فرنسا فقد تم رفض إصدار هذه التصاريح ولاحقا تم القبض على بعض أعضاء الوفد (سعد زغلول، محمد محمود، اسماعيل صدقى، وحمد الباسل)، وتم نفيهم فى اليوم التالى إلى جزيرة مالطا!
إثر انتشار خبر نفى الوفد المصرى، اندلعت مظاهرات حاشدة لم يتوقعها حتى أعضاء الوفد نفسه، ورغم أن هذه المظاهرات كانت فى البداية تطالب بعودة الوفد من المنفى إلا أنها وبعد أيام قليلة انتشرت فى كل ربوع الجمهورية من مدن وريف، بين الأعيان وبين العامة تطالب بالاستقلال وطرد الاحتلال الإنجليزى.
كانت المظاهرات التى اندلعت فى آذار/ مارس من عام 1919 عنيفة وغير منظمة، ولكن سرعان ما بدأت فى صنع قياداتها الميدانية، التى أخذت تنظم المظاهرات والاجتماعات السرى منها والعلنى.
باختصار كانت ثورة 1919 هى بمثابة انطلاق لقوى اجتماعية وسياسية جديدة مهدت لاحقا للجمهورية المصرية بعد ذلك بعقود قليلة
كان أشهر مكانين لاجتماعات الثوار هما بيت الأمة (بيت سعد زغلول)، والجامع الأزهر، كما أن ما ميز هذه المظاهرات هى انضمام الأقباط لها بالإضافة إلى المرأة، ليدرك الإنجليز خطورة الموقف وعدم حسن تقدير ردة فعل الشعب على طرد الزعماء، وهو ما أدى إلى عودة الوفد بقيادة سعد زغلول من المنفى بعد أيام قليلة من قرار النفى وسُمح له بالسفر إلى مؤتمر باريس لكن مطالب الوفد المصرى قوبلت بالرفض هناك! فعاد زغلول إلى مصر وأخذ فى الالتحام بالشعب بشكل أكبر، بل وكثيرا ما خالف رأى الأغلبية من أعضاء الحزب عندما كان قرارهم يتعارض مع الإرادة الشعبية، فقد كانت رؤية زغلول تتلخص فى أن الوفد هو مجرد وكيل عن الشعب المصرى، ليتم نفى زغلول ثانية وهذه المرة إلى جزيرة سيشيل!
***
رغم نفى سعد زغلول فى أكثر من مناسبة، إلا أن الحقيقة تقول إن الثورة قد أفرزت قوى اجتماعية جديدة أصبحت أكثر تأثيرا فى المعادلة السياسية الوطنية المصرية، بحيث لم تعد الأخيرة قاصرة فقط على النخبة البورجوازية المثقفة ولكنها أدت إلى إبراز العديد من القوى الاجتماعية الأخرى وفى مقدمتها الفلاحون والعمال والمثقفون (الأفندية)، هذا فضلا عن الأقباط والمرأة!
فالفلاحون والذين عبروا عن نفسهم للمرة الأولى سياسيا فى ثورة عرابى، تعرضوا لمزيد من التنكيل والتجبر من قبل قوات الاحتلال بعد فشل الثورة العرابية، وذاقوا المزيد من الذل والمهانة، ولم تفلح بعض سياسات الإنجليز الإصلاحية (كقانون الإصلاح الزراعي)، فى محو ألم الذل والإهانة والاستعباد والذى وصل ذروته فى حادثة دنشواى (1906)، فكان الفلاحون أحد أهم عناصر ثورة 1919 وقد استمر كفاحهم ضد المستعمر حتى قامت الجمهورية.
كما كان العمال أيضا أحد أهو وقود الثورة وخاصة بعد أن تضررت الصناعات المصرية بسبب سياسات الإنجليز فى الحرب العالمية الثانية من ناحية، وبسبب وعى العمال المصريين بالحركات العمالية العالمية من ناحية ثانية، وأخيرا فقد كان المثقفون وخصوصا من أبناء العمال والفلاحين الذين تمكنوا من القراءة والكتابة وحصل بعضهم على تعليم جيد وانخرط معظمهم فى الحركات العمالية والحزبية النقابية من أهم عناصر ثورة 1919 وخاصة وأن ثورة الوعى التى تكونت لديهم لم تقابل سوى بخيبة الأمل بسبب ضيق الحال واقتصاد فرص الترقى السياسى والاجتماعى على أبناء الطبقة البرجوازية وهو أحد أسباب أن ثورة 1919 كانت تلقب أيضا بثورة الأفندية!
باختصار كانت ثورة 1919 هى بمثابة انطلاق لقوى اجتماعية وسياسية جديدة مهدت لاحقا للجمهورية المصرية بعد ذلك بعقود قليلة.
(*) بالتزامن مع “الشروق”