هذا الإعلان، يعيد إلى الذاكرة القريبة، ما أورده محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس دولة الإمارات وحاكم إمارة دبي عن بيروت في كتابه “قصتي” الصادر عام 2018، إذ يقول:”بيروت أذهلتني صغيراً وعشقتها كبيراً، كانت شوارعها النظيفة وحاراتها الجميلة وأسواقها الحديثة في بداية الستينيات مصدر إلهام لي، وحلم تردد في ذهني أن تكون دبي كبيروت يوماً ما”.
تلك الصورة عن بيروت، أو عن لبنان عموماً قبل أن تأكله الحرب ولم يستطع بنوه أن ينتزعوه من بين أنياب الذئاب أو من تحت أقدام الفيلة، تعيد إستحضار ما كان عليه لبنان في تاريخ مضى، ربما لا يعرفه كثيرون أو أن كثيرين يفترضون أن الحالة اللبنانية الراهنة والمحطمة هي ذاتها الحالة التي عاشها اللبنانيون ولم يعرفوا عنها بديلاً ولا تبديلاً.
ذاك حديث الإفك،
فبيروت هي “درة تاج آل عثمان” كما وصفها غليوم الثاني امبراطور ألمانيا عندما جال على “المدن العثمانية” عام 1898.
لكن ماذا عن الصواريخ اللبنانية؟
في عدد كانون الثاني/ يناير 1964، نشرت مجلة “الجندي اللبناني” على غلافها الخارجي صورة لتجربة صاروخية لبنانية، وجاء في التفاصيل:”في الساعة الحادية عشرة والنصف من يوم 21 تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، أي في اليوم السابق لعيد الإستقلال، أطلق الصاروخ اللبناني أرز 4، إن هذه التجارب العلمية التي تجري بإشراف قيادة الجيش، هي ما يضع لبنان في مصاف الدول المتقدمة التي تسير بخطى واسعة إلى غد مزدهر”.
صحيفة “الحياة”، كانت نشرت تحقيقاً مطولاً بعد يوم واحد من التجربة الصاروخية المذكورة آنفاً، فقالت:”جرى ظهر أمس الخميس إطلاق الصاروخ اللبناني الأرز 4، وهو الصاروخ الرابع الذي يطلقه لبنان عبر الفضاء معتمداً على الخبرة اللبنانية وحدها، وهو يشكل مرحلة من عدة مراحل وتجارب يقوم بها النادي اللبناني للصواريخ”.
وبحسب “الحياة” أيضاً، فإن لبنان “أطلق صاروخين: هنيبعل السائل والأرز الجامد، وقد انطلق هنيبعل عبر المنجنيق من منطقة ضبيه، وهنيبعل يندفع بالوقود السائل، والأرز وهو من سلسلة صواريخ تندفع بالوقود الجامد”، وأما صحيفة “الأنوار”، فعنونت على رأس صفحتها الأولى “الأرز يقطع 425 كلم ويقع جنوبي قبرص”.
لم تنقطع التجارب الصاروخية اللبنانية إلا بعد سنوات تحت وطأة ضغوط غربية ثقيلة، وقيل قبل العام 1967 وقيل بعده، وإنما بعدما وصل مدى الصواريخ إلى 600 كلم، وفي واقع الحال، أن هذا الجانب من التصنيع اللبناني لم يكن فريداً، بل إن مجالات التصنيع الأخرى، لم تكن أقل شأناً، وجاء عنوان صحيفة “لسان الحال” في الثالث عشر من نيسان/ أبريل 1960 “أول سيارة لبنانية” مع صورة للسيارة المصنعة والمجمعة لبنانياً على كامل الصفحة الأولى.
في 25 نيسان/ أبريل 1953، جاء عنوان صحيفة “الحياة” على الشكل الآتي:”بيروت تحتل مكان القاهرة والإسكندرية عالمياً وتتحول إلى مركز لدفع رؤوس الأموال والبورصة”
في مجال التصنيع، نشرت مجلة “الرائد العربي” في عددها الرابع والصادر في شباط/ فبراير1961، وقائع ندوة اقتصادية، قال فيها طلحة اليافي المدير العام لـ”بنك التسليف الزراعي والصناعي” إن لبنان “يُعتبر اليوم، من أكثر بلدان الشرق الأوسط تصنيعاً”، وعلى ما يقول اليافي، “يعطي الإحصاء الصناعي قائمة بـ 1861 مؤسسة تبلغ قوتها العاملة الكلية 25013 عاملاً، أي أكثر من 10 بالمئة من القوة العاملة للسكان”.
وكتب سمير مقدسي في “الرائد العربي” أيضاً (كانون الثاني/ يناير 1961) “أن قيمة الإنتاج الصناعي بقياس الأسعار الجارية، قد إرتفع من 190 مليون ليرة لبنانية عام 1947 إلى 400 مليون ليرة لبنانية عام 1957، بينما إرتفعت الأموال الموظفة في الصناعات المختلفة في الفترة ذاتها من 110 ملايين ليرة لبنانية إلى 375 مليون ليرة لبنانية، وفي عام 1959 إرتفعت هذه التوزيعات إلى 434 مليون ليرة”.
وفي تقرير منشور (29 آب/ أغسطس2020) على موقع “عربي 21” ورد أنه “خلال عقد الستينيات، حقّق الإقتصاد اللبناني مؤشرات قوية ـ كانت بمثابة العصر الذهبي للبنان ـ حيث فاق المعدل السنوي للنمو الـ 5 بالمئة، وفي عام 1963، سجل لبنان المركز الرابع عالمياً في النمو الاقتصادي بعد الولايات المتحدة، وفرنسا، وسويسرا، وظل معدل التضخم دون مستوى 1.5 بالمئة، ونما قطاع الزراعة 6.3 بالمئة، وساهم بنسبة 12 بالمئة من الناتج المحلي، كما نما قطاعا الصناعة والخدمات 5 بالمئة، وبلغت نسبة مشاركة هذين القطاعين في الناتج المحلي 68 بالمئة، وارتفعت الصادرات سنوياً بمعدل 14.5 بالمئة مقابل 5.1 بالمئة فقط نمواً في الواردات، وتراوح سعر صرف الليرة مقابل الدولار بين 3 و3.5 ليرات للدولار الواحد”.
هذه المؤشرات والنسب، كان أشار إلى نظائرها الخبير الإقتصادي توفيق كاسبار في كتابه عالي القيمة “إقتصاد لبنان السياسي 1948 ـ 2002″، وفيه يقول:”بقي ميزان المدفوعات فائضاً في كل عام، من 1951 إلى 1975، ما عدا عام 1967 الذي حدث فيه عجز بسيط، وكانت الموازنات في فائض معظم الأوقات في حين أن العجز كان عادة نادراً وضئيلاً، لذلك بلغ صافي الدين العام أقل من واحد في المائة من إجمالي الناتج المحلي عام 1974”.
ماذا عن الليرة اللبنانية؟
في 25 نيسان/ أبريل 1953، جاء عنوان صحيفة “الحياة” على الشكل الآتي:”بيروت تحتل مكان القاهرة والإسكندرية عالمياً وتتحول إلى مركز لدفع رؤوس الأموال والبورصة”، ونقلت “الحياة” عن الدوائر المالية قولها “إنها تتوقع أن تشهد بيروت تحولاً أساسياً في مركزها المالي والإقتصادي بالنسبة للدول الأجنبية وتحويل لبنان إلى قاعدة لدفع الأموال الأجنبية في منطقة الشرق الأوسط”.
“الرائد العربي”: كلما بدأت قيمة الليرة اللبنانية في الإرتفاع فإن إتجاهاً للتحول من العملات الأجنبية إلى الليرة اللبنانية يأخذ بالظهور، مما يسرّع في إرتفاع قيمة الليرة اللبنانية، وإن توقع إرتفاع قيمة الليرة اللبنانية قد يؤدي إلى زيادة كبيرة في الطلب على الليرة اللبنانية
وفي عام 1965، نشرت “الحياة” تقريراً لمندوبها الإقتصادي بعنوان “النقد اللبناني يصبح نقداً عالمياً”، قال فيه:
“إهتمت الأوساط المالية إهتماماً كبيراً بمشروع الإتفاق المالي الجديد، الذي نشرت “الحياة” تقرير الرئيس (حسين) العويني عنه، واعتبرته كفالة دولية بضمانة وسلامة النقد اللبناني ومعاملته على قدم المساواة مع الدولار، والواقع أن هذا المشروع هو خطوة تمهيدية نحو رفع النقد اللبناني إلى مستوى النقد النادر الحر المماثل للعملات الدولية الصعبة، أو القابلة للصرف والتعامل في مختلف المصارف والبيوتات العالمية المالية، كما هي حالات الدولار والإسترليني والفرنكات الفرنسية والسويسرية”.
وفي واقع الحال، أن سلامة النقد اللبناني، مثلما ورد في تقرير “الحياة”، كان سبقه تدفق مالي أجنبي ضخم إلى لبنان وأدى إلى تحويل كبير في الودائع المالية في المصارف الوطنية من العملات الأجنبية إلى العملة اللبنانية، وهذه السردية تفتح الباب أمام إعادة قراءة تجربة المصرفي يوسف بيدس (بنك أنترا)، والتي تعمّق فيها الكاتب كمال ديب في كتابه “يوسف بيدس وإمبراطورية انترا” عن “دار النهار” (2014).
دخول الأموال الأجنبية بكثرة إلى لبنان قاربته أيضاً مجلة “الرائد العربي” في عددها الصادر في تشرين الأول/ أكتوبر 1961 فقالت إن إرتفاع الودائع بالعملات الأجنبية لدى المصارف الوطنية وإرتفاع قيمة الليرة اللبنانية المستمر في السوق الحرة خلال عام 1960 وما رافقه من فائض كبير ومستمر في الخزينة العامة، “أدى إلى ضغط غير متوقع على السيولة بالنسبة للعملة المحلية لدى البنوك، ولكن، كلما بدأت قيمة الليرة اللبنانية في الإرتفاع فإن إتجاهاً للتحول من العملات الأجنبية إلى الليرة اللبنانية يأخذ بالظهور، مما يسرّع في إرتفاع قيمة الليرة اللبنانية، وإن توقع إرتفاع قيمة الليرة اللبنانية قد يؤدي إلى زيادة كبيرة في الطلب على الليرة اللبنانية”.
حسناً، تلك هي الحال مع إرتفاع سعر صرف الليرة اللبنانية في الستينيات، وبصرف النظر عن تقلبات الأسعار وعدم الثبات بالنسبة للأسعار المرتبطة بالمواد الإستهلاكية أو ما يمكن أن ينعكس من تداعيات معينة، إلا أن الأمر الجدير بالتوقف عنده ينحصر بقوة النقد اللبناني، تلك القوة التي كادت تحوله إلى عملة دولية صعبة، أو على الأقل إلى عملة إقليمية على مستوى دول الشرق الأوسط، أي ما يشبه “اليورو” وقبل ظهور الأخير بعقود، وفي ذلك لا بأس من العودة إلى نقاشات تلك الفترة، وبالتحديد إلى ما دار على صفحات “الرائد العربي” التي كانت تجمع في مدارها نخبة الأقلام والقامات الفكرية والمالية والإقتصادية اللبنانية والعربية.
يقول إلياس سابا في عدد مجلة “الرائد العربي” المؤرخ في شباط/ فبراير1961:”يعتز اللبنانيون بقوة نقدهم شبه الاسطورية ويعتبرونها مظهراً أميناً من مظاهر مناعة لبنان الإقتصادية وسبباً جوهرياً من أسباب رفاهيتهم المادية، واللبنانيون عموماً قلما يفاخرون بما أحرزوه كشعب وكمجتمع منذ الإستقلال، وبمعزل عن أي تأثير خارجي، حتى ولو غير مباشر، مثلما يفاخرون بما تمكنوا بدهائهم وقدرتهم من تحقيقه في الحقل الإقتصادي، فالجهد هنا والتفوق لبنانيان”.
ويتابع سابا قائلا: “حان للبنان، في رأينا، أن يرى أن الوقت قد جاء ليخلع عنه ثوب التراخي وتمشية الحال وإتباع سياسة عدم التدخل والتخطيط والتدبير في الحقل الإقتصادي لدرجة الفوضى العامة، وأن يبدأ باتباع نهج جديد يصحّح حياته الإقتصادية ويؤمن مستقبله الاقتصادي والإجتماعي، أما في مجال تثبيت قيمة نقده الخارجية، فعليه أن يقوم بكل ما من شأنه أن يعزز الليرة اللبنانية كنقد مناطقي يشمل الشرق العربي بكامله”. نقد مناطقي على مستوى الإقليم، “يورو عربي” من لبنان قبل اليورو الأوروبي، بعقود وسنوات.
في أيار/ مايو 1975، أي بعد حادثة باص عين الرمانة، وقبل إشتعال لبنان بالحرب الأهلية، أصدر البنك الدولي تقريراً عن لبنان تضمن الآتي: “لبنان يهدف إلى مستوى معيشي أوروبي، ويجب مقارنته ببلد أوروبي منخفض الدخل”
لنترك جانباً العيوب والنواقص التي إعتورت النظام الإقتصادي والمالي حتى العام 1975، ومعها عورات النظام السياسي، حيث يمكن أن يوجد مماثلات ونظائر لها في كل أنظمة العالم، ولكن ماذا عن النجاحات والمميزات التي عرفها لبنان حتى لحظة إشتعاله في حروب أهلية لا تعرف نهايات ولا خاتمات. أين غدت تلك النجاحات؟ وماذا أضاف اللاحقون إلى ما نجح به السابقون؟
لا شيء.
كأنها حفلة إنتقام مما سبق، أو حفلة جماعية تشترك بها الجماعة بـ”لحس المبرد”، وعلى قاعدة التلذذ بالدم الذي يتدفق من داخل البطون والأوردة.
كتب الخبير الإقتصادي لويس حبيقة في صحيفة “الشرق” القطرية بتاريخ 19 ـ 12ـ 2012:”في سنة 1960 بلغ الناتج المحلي الإجمالي اللبناني 830 مليون دولار، وكان دخل سنغافورة 700 مليون دولار”.
وفي أيار/ مايو 1975، أي بعد حادثة باص عين الرمانة، وقبل إشتعال لبنان بالحرب الأهلية، أصدر البنك الدولي تقريراً عن لبنان تضمن الآتي: “لبنان يهدف إلى مستوى معيشي أوروبي، ويجب مقارنته ببلد أوروبي منخفض الدخل”.
وقبل سنوات الحرب بقليل، راحت شركات مثل “سوناطراك” الجزائرية، و”رينو” الفرنسية، فضلاً عن شركات كبرى في الهند، تدرّج تعاملاتها التجارية بالعملات الدولية الكبرى ومن ضمنها الليرة اللبنانية.
يبقى قول أخير عن مطار بيروت:
في عام 1957، كتبت صحيفة “الحياة” فقالت:”مطار بيروت سابع مطار في العالم”.
أين بيروت حاليا؟ أين مطارها؟ أين الصواريخ اللبنانية؟ أين العملة الوطنية؟ أين لبنان من العالم؟
بل: أين لبنان من المريخ؟
أين لبنان الآن؟
الآن، يتحارب السياسيون على جثة وزارة فيما الناس تصرخ وتسأل: أين الرغيف؟