

في السنوات الأخيرة، بدا أن المنطقة تتجه نحو تبريد نسبي للمحاور الإقليمية: مصالحات وصيغ تهدئة، لكن هذا التبريد لم يحمل علامات الاستقرار بل تسكين لجراح لا تلتئم. كل ما في الأمر انها هدنة مسمومة؛ سلام مُعلّق فوق حقل ألغام، حيث الفتن الطائفية والعرقية والجراح الاجتماعية لم تُعالَج، بل تُركت لتختمر، ولتكون وقودًا جاهزًا لإشعال الجمر تحت الرماد كلما استدعت المصلحة. وبالفعل بقيت تلك الفوهات الملتهبة في حالات جهوزية لأي محرّك داخلي أو خارجي.
***
المصطلح الذي ظهر في أدبيات الجماعات الجهادية (“إدارة التوحش”) كان يُقصد به خلق بيئات من الفوضى والهلع لإعادة تشكيل المجتمعات. لكن المدهش أن هذا المفهوم خرج من الأدبيات المتطرفة ليصبح تكتيكًا معتمدًا لدى دول كبرى: ترك مساحات من العنف والفوضى دون حسم، لتُستخدم كأدوات ضبط وإدارة.
-
في العراق بعد 2003: سمح فراغ السلطة الذي تركه الاحتلال الأميركي بولادة فوضى طائفية مقصودة، تُستخدم للضغط السياسي وإعادة تشكيل الخريطة المجتمعية.
-
في سوريا بعد 2011: تحولت البلاد إلى ساحة تجريب لمعادلات “دع الفوضى تتوسع لتُرغِم الخصوم على التفاوض”، وهو ما استفادت منه قوى إقليمية ودولية لتثبيت مكاسبها.
-
في ليبيا بعد 2011: تُركت الميليشيات لتتناحر، بينما تحولت البلاد إلى مساحة تفاوض غير معلنة بين أوروبا وروسيا وتركيا، ضمن نموذج “فوضى مضبوطة”.
بهذا المعنى، الجرائم الاسرائيلية اليومية في غزة أو غيرها ليست انحرافات عابرة، بل جزء من بنية مدروسة: ترك المجتمعات تنهك، لتصبح أكثر طواعية لحلول تُفرض من الخارج.
***
يوازي هذا البعد الاستراتيجي اقتصاد حرب ضخم: المنطقة هي المختبر الأكثر نشاطًا لتجريب الأسلحة الجديدة.
-
غزة: ميدان لاختبار القنابل الذكية والذخائر الدقيقة في مساحات مأهولة ومكتظة.
-
سوريا: منصة لتجريب التكتيكات الجوية الروسية والأسلحة الكيميائية وفعالية الدفاعات الغربية.
-
اليمن: حقل تجارب للطائرات المسيّرة وأنظمة الدفاع الجوي.
وفقًا لتقارير SIPRI، استحوذت منطقة الشرق الأوسط على أكثر من 32% من تجارة السلاح العالمية بين 2018 و2022، لتصبح أكثر مناطق العالم استهلاكًا للسلاح نسبةً إلى عدد السكان. الدم هنا ليس نتاج الفوضى فحسب، بل منتَج استراتيجي يُسوّق عبره السلاح ويُعاد تدوير النفوذ.
***
وسط هذه اللعبة، يصبح الإنسان أرخص عناصر المعادلة: اللاجئ أداة تفاوض في صفقات إعادة التوطين، والمهاجر الرخيص أحد أعمدة اقتصاديات الخليج وأوروبا، والمقاتل وقودًا يُستنزف في حروب الوكالة. القيمة البشرية في هذه السوق تُقاس بالجدوى لا بالكرامة: من قيمة الرهينة في المساومات، إلى ثمن العامل في اقتصاديات الظل، إلى تكلفة المقاتل في ساحات الوكالة.
***
الغرب يتعامل مع هذه الفظائع بوجهين:
-
وجه علني أخلاقي في المؤتمرات، يتحدث عن “القانون الدولي” و”حقوق الإنسان”.
-
ووجه براغماتي خفي يبرر استمرار صفقات السلاح ودعم الأنظمة بحجة “حفظ الاستقرار”.
حتى تقارير “هيومن رايتس ووتش” (منظمة العفو الدولية)، التي توثق الفظائع اليومية، تتحول إلى أدوات ضغط سياسية أكثر منها منصات للمساءلة أو التغيير.
ليست الجرائم اليومية في المنطقة أعراضًا جانبية لحروب عشوائية، بل جزء من نظام ضبط استراتيجي، حيث تتحكم القوى الكبرى بما يشبه مايسترو الدم: تتحكم بجرعات الفوضى، وتضبط توقيت اشتعال الجبهات أو تبريدها، وتعيد رسم الخرائط عبر إدارة التوحش لا القضاء عليه، ولا يمكننا اهمال الجذور السيكولوجية للدول، حيث تبقى الغرائز عنصرا محرّكاً للتوثب على ملكيات الغير، والاستحواذ على الثروات، رفقة الرغبات بغرز الأنياب في اللحم، كمتعة مقترنة بالأمان، حيث عودة الانسان الأول إلى كهفه حاملاً الطريدة، لتكون غذاء للقبيلة.