كثيرون حول العالم يذكرونه.. انه مدافع منتخب كولومبيا الذي أدخل هدفا في مرمى فريقه عن طريق الخطأ في مباراة منتخب بلاده ضد الولايات المتحدة في مونديال امريكا ١٩٩٤، فدفع حياته ثمنا لذلك الخطأ عندما أطلق مسلحون غاضبون النار عليه فأردوه قتيلاً عقب عودة المنتخب الى بوغوتا العاصمة.
كانت التكهنات تشير الى فوز كولومبيا ببطولة المونديال خاصة بعد الأداء القوى لها في التصفيات التمهيدية ضد بيرو والأورغواي وسحقها للأرجنتين في بوينس إيرس، ثم تصاعدت الآمال بوقوعها في المجموعة الأولى المتواضعة نسبيا بالمونديال والتي ضمت الولايات المتحدة ورومانيا وسويسرا، الا ان الحظ عاندها في مباراة رومانيا ثم كانت قاصمة الظهر هدف أسكوبار الذى ولج الشباك من كرة عكسية لمهاجم المنتخب الأمريكي جون هاركس بملعب روز بول بكاليفورنيا فتبخرت آمال الفريق.
كان رد الفعل عاصفا ومأساويا في كولومبيا وخاصة في أوساط عصابات المخدرات التي راهنت بملايين طائلة من الدولارات على فوز المنتخب وخاصة مجموعات تاجر المخدرات الأشهر هناك ويدعى، ويا للمصادفة، بابلو أسكوبار، الذين نفذوا عملية الاغتيال.
شيّع ما يقارب المائة وثلاثون الفاً من الكولومبيين يتقدمهم رئيس الجمهورية وقتها سيزار جافاريا نجمهم أسكوبار الذي كان يكنى بجنتلمان كرة القدم أو “ال كاباييرو دل فوتبول” ووثّقت شركة ESPN الرياضية سيرة حياته في فيلم أسمته The Two Escobars تظهر في الفيلم شقيقة أسكوبار وهي تؤكد لطفلها ان خاله لن يقتل وان كولومبيا تحبه، إلا أن حدس طفلها كان أكثر صدقاً.
وقد عالج الفيلم العلاقة بين الرياضة وعنف المجتمع والجريمة وخاصة تجارة المخدرات.. الا أن جنون المستديرة كان أكبر من ذلك فتنشب حرب شاملة بين دولتين هما هندوراس والسلفادور عندما قام مهاجرون من السلفادور بإتلاف منشآت في هندوراس عقب هزيمة منتخب بلادهم.
على أن مأساة أسكوبار “لم تجعل الحياة تتوقف” كما كان قد كتب في مقال له بصحيفة “بوغوتا” مواسياً شعب بلاده عقب خروج كولومبيا من المنافسة وقبيل اغتياله، فظلت كرة القدم أهم عناصر القوة الناعمة للدول والشعوب، وتم الاقرار بدورها الحيوي في قمة الألفية بنيويورك عام ٢٠٠٠ والقرارات اللاحقة للجمعية العامة للأمم المتحدة بما في ذلك قرارها في اب/اغسطس من عام ٢٠١٣ القاضي بإعلان السادس من نيسان/ ابريل من كل عام يوماً دولياً للرياضة ودورها في جهود السلام والتنمية في ذكرى ميلاد الالعاب الأولمبية الحديثة في اثينا عام ١٨٩٦.
لا ريب ان للرياضة وخاصة كرة القدم دورها الرائد في التنمية الإنسانية والترويج لقيم تتجاوز حواجز اللغة والثقافة وخاصة تحقيق الاندماج الاجتماعي ومكافحة التمييز ضد الأقليات وافشاء التسامح والاحترام وادماج اللاجئين والمهاجرين ومكافحة الصور النمطية، واصبحت كذلك جسرا رابطاً بين المجتمعات وآلية للتفاهم وحوار الحضارات والثقافات وأداة لتلاقى الشعوب وتعارفها متجاوزة للنظم السياسية والأيدولوجيات.
وتستنهض كرة القدم على وجه خاص قيم المواطنة والتلاحم والروح القومية، وهى المرآة التي تنظر الامم عبرها الى نفسها وتقديم صورتها الايجابية للعالم.. لم يكن تاريخ اللعبة كله حبا وتعاونا، ولم تعد كرة القدم تملك قدرة التأثير على السياسة فحسب بل اصبحت وجها من وجوهها وتعبيراتها منذ قيام إمبراطورية الفيفا عام ١٩٠٤ والتي تفوق عضويتها الآن عضوية الأمم المتحدة وانشاء أول مسابقة لكأس العالم في الأرغواي عام ١٩٣٠، وتسللت التعبيرات والمواقف السياسية كذلك للمنافسات القارية والإقليمية.
تفخر بلادنا انها حرمت جنوب افريقيا من المشاركة في اول بطولة افريقية اقيمت بالسودان عام ١٩٥٧ بسبب سياسات الفصل العنصري التي كانت تتبعها، ثم جاء حرمان الأخيرة لذات السبب في البطولة التي استضافتها انجلترا عام ١٩٦٦ رجعا لصدى ابعادها قبل ذلك بالخرطوم.. ظلت الظلال السياسية وافرة في العديد من المنافسات.. وأدى الحاق اسرائيل بالمجموعة الاسيوية بديلا عن الاوروبية الى رفض كوريا الشمالية التباري معها، كما لم يسمح ليوغسلافيا بالمشاركة عام ١٩٩٤ بسبب العقوبات المفروضة عليها في اعقاب حرب البوسنة والهرسك.. وقد أدت الهدنة الاولمبية التي تعلن بين الحين والآخر في مناطق النزاعات الى ايجابيات متعددة تماثل الزيارة التي قام بها الى بيونغ يانغ نجم كرة السلة الأمريكي الشهير دنيس رودمان لصديقه الرئيس كيم جونغ أون المولع بكرة السلة فكان لذلك أثره في بناء ما كان قد تم من خطوات لاحقة في علاقات البلدين المضطربة.
بهدفي تيرى والغربال تسللت الأفراح للديار السودانية وحجز المنتخب مقعدا له مع الكبار انتظارا لنهائيات الكاميرون التي سيتردد فيها اسم السودان بأضعاف ما توفره ميزانيات اعلامنا المتواضعة.
أعاد الانتصار بعض أريج ايام زاهيات كان لبلادنا فيها شرف تأسيس هذه البطولة القارية واسهامات أخرى.. يقول الكاتب الأورغوياني الشهير ادوارد غاليانو في كتابه (كرة القدم بين الشمس والظل) إن “كرة القدم هي مرآة العالم، وأنها مزيج من المعاناة والفرحة، والتمرد والغضب، والوجع والنشوة، والحب والبؤس، والصراع بين الحرية والخوف، والمجد والاستغلال واولئك الذين يستخدمونها كمنجنيق دعائي” ورحم الله الشاعر معروف الرصافي وهو يقول في قصيدته كرة القدم:
إن الجسوم إذا تكون نشيطة / تقوى بفضل نشاطها الأحلام