بدأ المشروع الصهيوني في فلسطين على شكل هجرات استيطانية متتابعة، بلغت ذروتها في فترة الانتداب البريطاني الذي فُرض – حسب نص صك الانتداب العام 1922 – لتنفيذ وعد بلفور (1917) لصالح إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، عبر جعل “الدولة المنتدبة مسؤولة عن وضع البلاد في أحوال سياسية وإدارية واقتصادية تضمن إنشاء الوطن القومي اليهودي”، ومن ضمن سياساته تسهيل هجرة اليهود إلى فلسطين، وقمع أي محاولات احتجاج فلسطينية على توسع الاستيطان وتعزيز قدرات الحركة الصهيونية من أجل تسلم فلسطين بعد انتهاء الانتداب.
أقرت إسرائيل بعد الإعلان عن قيامها العام 1948 بفترة قصيرة، رزمة قوانين لتعزيز الاستيطان اليهودي، واستهداف الوجود الفلسطيني ضمن سياسة التطهير العرقي الزاحف أو المباشر. ويجري ذلك عبر تواطؤ السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية في إسرائيل مع الحركات الاستيطانية الساعية إلى اقتلاع الفلسطينيين وزرع المستوطنين بدلا منهم.
من أبرز القوانين التي سُنّت في إسرائيل لتعزيز الاستيلاء الاستيطاني على الأملاك الفلسطينية، قانون أملاك الغائبين للعام 1950، ويتيح هذا القانون للسلطات الإسرائيلية الاستيلاء على أملاك الفلسطينيين الذين هُجّروا أو نزحوا أو تركوا “حدود دولة إسرائيل” حتى تشرين الثاني/ نوفمبر 1947، وخاصةً في إثر الحرب، باعتبار أنهم “غائبون”. وتعتبر كل أملاكهم (بما فيها الأراضي، البيوت وحسابات البنوك وغيرها) بمثابة “أملاك غائبين” تنتقل ملكيّتها لدولة إسرائيل، ويديرها وصيّ من قبل الدولة.
قوانين تستهدف الاستيلاء على الأرض
تضاف إلى هذا القانون سلسلة قوانين أخرى الهدف منها تعزيز الاستيلاء على الأرض تحديدا، ومنها قانون مكانة المنظمة الصهيونية العالمية/ الوكالة اليهودية لأرض إسرائيل للعام 1952، وقانون الكيرن كييمت لإسرائيل (الصندوق القومي اليهودي) للعام 1953، والميثاق بين حكومة إسرائيل وبين المنظمة الصهيونية العالمية والوكالة اليهودية لأرض إسرائيل للعام 1954، وقانون أساس: أراضي إسرائيل، وقانون أراضي إسرائيل وقانون إدارة أراضي إسرائيل للعام 1960، والميثاق بين حكومة إسرائيل والصندوق القومي اليهودي للعام 1961.
وتشكل المعركة الحالية التي تهدف إلى سيطرة المستوطنين المدعومين من قبل الحكومة الإسرائيلية على منازل المواطنين الفلسطينيين في حي الشيخ جرّاح بمدينة القدس أحد أبرز مظاهر التواطؤ بين مؤسسات الدولة القضائية والتنفيذية من جهة والمستوطنين من جهة أخرى.
تواطؤ متعدد الأطراف
وإن لم يتم اللجوء لقانون أملاك الغائبين في مسعى سلطات الاحتلال للسيطرة على حي الشيخ جرّاح، كون أهله مقيمين فيه، فإن السنوات الأخيرة – بحسب تقرير لحركة “السلام الآن” صدر في أواخر 2018- شهدت جهداً منظماً للمنظمات الاستيطانية مدعومة من قبل مسؤولين في الحكومات الإسرائيلية ومن قبل ما يسمى “الوصي على أملاك الغائبين”، لتحقيق هذه الغاية مستندين في كل القضايا المرفوعة أمام المحاكم الإسرائيلية على قانون “الشؤون القانونية والإدارية للعام 1970″، والذي يتضمن في تفسيراته منح أشخاص الحق في “استعادة” أملاك غير مسكونة، كانت مملوكة لهم قبل العام 1948 أو الحصول على تعويض إن كانت هذه الأملاك مسكونة.
تشكل المعركة الحالية التي تهدف إلى سيطرة المستوطنين المدعومين من قبل الحكومة الإسرائيلية على منازل المواطنين الفلسطينيين في حي الشيخ جرّاح بمدينة القدس أحد أبرز مظاهر التواطؤ بين مؤسسات الدولة القضائية والتنفيذية من جهة والمستوطنين من جهة أخرى
قانون عنصري
ويتيح القانون فقط لليهود الذين يدعون أنهم خسروا أملاكا خاصة بهم في القدس الشرقية، لأنها وقعت تحت سيطرة الأردن العام 1948، المطالبة باستعادة هذه الأملاك، ولا يسري القانون على غربي القدس، وهذا يعني أنه يسري على اليهود الذي تركوا القدس الشرقية، ولا يسري على الفلسطينيين الذين هُجّروا من غربها.
وحسب تقرير “السلام الآن” فإن قراءة في بروتوكولات العملية التشريعية التي مر بها مشروع قانون “الشؤون القانونية والإدارية للعام 1970” قبل إقراره، تظهر أن أعضاء الكنيست الذي طرحوا مشروع القانون كانوا يسعون إلى خلق وضع يتيح لليهود فقط “استعادة” أملاك غير مسكونة، أو الحصول على تعويض مالي إذا كانت مسكونة. وبرغم أن أعضاء الكنيست أشاروا إلى العلاقة الخاصة (الانتماء) بين السكان ومساكنهم، إلا أن القانون والمنظومة التي أقيمت من أجل تطبيقه من قبل الوصي على أملاك الغائبين يتم استغلالها من قبل مستوطنين لا توجد بينهم وبين المالكين الأصليين (اليهود) أي علاقة. أي أنه تمت إقامة منظومة تستغل هذا القانون من أجل السيطرة ليس فقط على الأملاك غير المسكونة، بل أيضاً على الأملاك المسكونة من قبل فلسطينيين، ونقل ملكية هذه العقارات إلى المستوطنين.
وتؤكد “السلام الآن” أن هذه العملية باتت إجراء حكومياً ومحاولة لعرض القضية وكأنها “خلاف شخصي بريء” من أجل استعادة أملاك خاصة. وبرغم أن اليهود الذي كانوا يسكنون هذه الأملاك قبل العام 1948 حصلوا على مساكن بديلة من قبل الحكومة الإسرائيلية، لكنهم أيضا حصلوا في السنوات الأخيرة على تعويضات من المستوطنين، بهدف خدمة الأيديولوجيا الاستيطانية الساعية إلى طرد الفلسطينيين وإحلال اليهود مكانهم، عبر ادعاء المستوطنين ملكية هذه البيوت.
فانتازيا قانونية منفصلة عن الواقع
كما يشير التقرير إلى المعضلة التي وجدت إسرائيل نفسها في مواجهتها بعد توسيعها مساحة القدس بضم 70 كيلومترا مربعا لها العام 1967. إذ بات على القضاء الإسرائيلي معالجة أمر سكان القدس الفلسطينيين، وذلك عبر فانتازيا قانونية من الصعب جدا تخيلها، لانفصالها عن أي واقع ممكن. فمثلا يعتبر القانون الإسرائيلي سكان القدس الفلسطينيين “مقيمين دائمين” بناء على قانون دخول إسرائيل، وكأنهم آتون إليها لزيارة أقارب لهم، وليست هي – إسرائيل – التي جاءت إليهم – كقوة احتلال – وهم المواطنون في مدينتهم. وكذلك يسري الأمر على قانون الغائبين الذي تم فرضه على فلسطينيي القدس الذين يسكنون الضفة، وقد يكونون على بعد أمتار عن أملاكهم التي تمت مصادرتها.
ومثل هاتين الحالتين جاء قانون “الشؤون القانونية والإدارية للعام 1970″، ليخلق الوضع التالي: السكان الفلسطينيون الذين يسكنون في بيوت كانت مملوكة ليهود قبل العام 1948، يتم النظر إليهم باعتبارهم مستأجرين محميين، وينظر إلى المستوطنين باعتبارهم مالكي هذه البيوت، لتتعامل المحكمة مع القضية وكأنها خلاف مدني بين مستأجر (فلسطيني) ومالك (يهودي). نشير هنا إلى الملاحظة أعلاه بأن المستوطنين الحاليين الساعين للسيطرة على الشيخ جرّاح لا علاقة تربطهم باليهود الذين قد يكونون سكنوا في البيوت قبل العام 1948.
القانون يسري على الفلسطينيين في القدس الشرقية
وعن عنصرية القانون من خلال سريانه فقط في القدس الشرقية، يشير التقرير إلى أن 20 ألف فلسطيني هربوا او أجبروا على الهرب من غربي المدينة، فيما هرب أو أجبر على الهرب 2000 يهودي من شرقها، خاصة من الحي اليهودي في البلدة القديمة. وطالما أن الأمر يتعلق بالأملاك، فإن القانون يفترض أن يكون قد وضع لمعالجة ما يراه ظلما تاريخيا حل باليهود، عبر إعادة أملاك اليهود لأصحابها الأصليين. لكن هذا القانون خلق الوضع التالي: في مدينة واحدة ونتيجة للحرب ذاتها توجد فئتان سكانيتان، كلتاهما فقدتا أملاكهما نتيجة للحرب العام 1948، لكن مجموعة قومية واحدة فقط لها الحق لتعديل الظلم التاريخي عبر استعادتها أملاكها، والمجموعة الثانية التي تقيم على بعد مئات الأمتار فقط من أملاكها في غربي المدينة، لا تستطيع استعادة هذا الأملاك، وهذه هي الخطيئة القديمة لقانون “الشؤون القانونية والإدارية للعام 1970”.
جدل في الكنيست قبل خمسة عقود
عند التمعن في النقاش البرلماني حول القانون العام 1968 حسب أرشيف الكنيست، نجد أن الجدل حول القراءة الأولى تضمن تحفظات لأعضاء كنيست منهم شموئيل تمير الذي قال “إن أساس تحفظي يأتي من حقيقة أن القانون لا يتطرق إلى أملاك سكان القدس الشرقية وغربها وأجزاء أخرى من أرض إسرائيل. لا يمكننا أن نمسك الحبل من الطرفين. فإن كانت القدس هي دولة إسرائيل وسكانها هم سكان إسرائيل، فلا يمكننا خلق وضع يكون فيه بعضنا (يقصد الفلسطينيين) ماشيا في شوارع القطمون وتنزل دموعه ويرتفع ضغط دمه وهو يتساءل: لماذا لا أستطيع استعادة أملاكي هذه، ولماذا لا أستطيع أن أحصل على تعويض مقابلها؟ هذا الأمر لا يمكن أن يكون مقبولا من ناحية سياسية ولا مدنية ولا أخلاقية”.
في المعركة الحالية في الشيخ جرّاح، لخصت مواجهة قصيرة بين فتاة فلسطينية من سكان الحي المهددين بالإخلاء ومستوطن يسعى للسيطرة على بيوت الحي الوضع القائم في المدينة. قالت الفتاة للمستوطن: “لقد سرقت بيتي”، فرد عليها هذا المستوطن قائلاً: “إن لم أسرقه أنا فسيسرقه [مستوطن] غيري”!
أما عضو الكنيست أوري أفنيري فقال: “ما هو الفرق بين بيت في البلدة القديمة وبين بيت في المناطق المهملة في أبو طور وبين بيت في رحافيا؟ لماذا لا يعاد للعربي الذي بات مواطنا في دولة إسرائيل بيته في رحافيا؟… لماذا لا يتم تعويضه؟… أي نوع من الأخلاقيات هذا: اليهودي الذي كانت له أملاك في البلدة القديمة سيستعيدها بهذا الشكل أو ذاك، أما العربي الذي كانت له أملاك في غرب القدس فلن يستعيدها، إن كنا نتحدث عن العدالة – فالعدالة لكل فرد، أما إذا كان الحديث عن مصادرة، وعن نقل أملاك مجموعة قومية لمجموعة قومية أخرى، فهذا أمر مختلف تماما، هذا حقا لا تنطبق عليه المعايير الأخلاقية”.
ويشير التقرير إلى أنه لم تسجل حالة واحدة عاد فيها يهودي من الذين كانوا يسكنون بيوتا قبل العام 1948 وخرجوا منها، إلى هذه البيوت، بل يستغل “الوصي على أملاك الغائبين” والمستوطنون هذا القانون للاستيلاء على المنازل المأهولة بفلسطينيين حاليا.
عملية منظمة وممنهجة لطرد الفلسطينيين
بالعودة إلى الدعاوى الحالية، يرى تقرير “السلام الآن” أن كل ما يحدث ليس من قبيل الصدفة، وليس من باب أنه خلاف على أملاك، بل هو عملية منظمة وممنهجة تهدف إلى تنفيذ فرض عملية طرد لأحياء فلسطينية كاملة. والهيئات التي تقف وراء هذه الدعاوى (المنظمة الاستيطانية عطيرت كوهانيم التي تنشط في البلدة القديمة وفي بطن الهوا، وشركة “نحالات شمعون” التي تعمل في الشيخ جرّاح، ومنظمات استيطانية أخرى) ليست لها أي صلة بسكان الأملاك الأصليين من اليهود، بل تبحث عن ورثة هؤلاء السكان الأصليين وتشتري منهم أملاكهم وترفع دعاوى لإخلاء هذه الأملاك من منطلقات أيديولوجية ولرغبة قادة هذه المنظمات بإقامة مستوطنات في قلب الأحياء الفلسطينية. وفي حالات أخرى، فإنهم تمكنوا من العثور على أضرحة يهودية من حقب سابقة وبدأوا يتصرفون بالنيابة عنهم. ويلعب الوصي على أملاك الغائبين دورا مهما في مساعدة المستوطنين بطرق عديدة، وقد يعمل بنفسه في عملية إخلاء الفلسطينيين من مساكنهم. فهمّ الوصي الأول هو الاهتمام قبل أي شيء بمصالح المالكين الأصليين (من اليهود)، أما الفلسطينيون الذين يعيشون في هذه الأملاك فهم بالنسبة له مجرد أصحاب حقوق مقيدين بشروط، في أفضل أحوالهم.
“الوصي” شريك للمستوطنين
يشير التقرير إلى حجم تواطؤ “الوصي على أملاك الغائبين”، في قضية محاولة المستوطنين الاستيلاء على أملاك عائلة أبو ناب، إذ خسر المستوطنون إحدى الدعاوى لأنهم لم يتمكنوا من تحديد الحدود الدقيقة للعقار الذي يدعون ملكيتهم له، وفي الفترة بين صدور الحكم هذا والنظر في الاستئناف ضده، أصدر “الوصي على أملاك الغائبين” شهادة إعفاء معدلة وضع فيها الحدود الدقيقة للعقار، ممكنا بذلك المستوطنين من تحقيق فوز في القضية، تم في إثره إخلاء عائلة أبو ناب الفلسطينية من بيتها. واعتمادا على شهادة الإعفاء المعدلة التي أصدرها “الوصي على أملاك الغائبين”، قدم المستوطنون تسع دعاوى ضد عشرات العائلات الفلسطينية.
في قضية أخرى، باع “الوصي على أملاك الغائبين” العام 2005 أربعة عقارات للمستوطنين بسعر منخفض ومن دون نشر عطاء (مزاد علني) بذلك. ولو كان سلوكه عن حسن نية، لكان عليه الإعلان عن المزاد العلني الذي يتيح للفلسطينيين الساكنين في العقارات الأربعة أيضاً المنافسة فيه من أجل شرائها. لكنه وفي الظلام أقدم على بيع العقارات التي يعيش عليها مئات الفلسطينيين في بطن الهوا للمستوطنين الذي يطالبون بإخلاء الفلسطينيين لإحلال المستوطنين مكانهم.
في المعركة الحالية في الشيخ جرّاح، لخصت مواجهة قصيرة بين فتاة فلسطينية من سكان الحي المهددين بالإخلاء ومستوطن يسعى للسيطرة على بيوت الحي الوضع القائم في المدينة. قالت الفتاة للمستوطن: “لقد سرقت بيتي”، فرد عليها هذا المستوطن قائلاً: “إن لم أسرقه أنا فسيسرقه [مستوطن] غيري”! (المصدر: موقع مدار).