ماذا يعني أن “تنتفض” نقابة المهندسين في لبنان؟
TOPSHOT - A demonstrator clad in mask coloured with the Lebanese flag reacts as she stands next to flaming tires cutting off a road in the centre of Lebanon's capital Beirut late on March 2, 2021 during a protest against deteriorating economic and social conditions. - The Lebanese pound hit an all-time low on March 2, trading at nearly 10,000 pounds to the dollar on the black market, causing dozens to protest a deepening economic crisis that has thrown more than half of the population into poverty. The pound had been pegged to the dollar at 1,500 since 1997 but the country's worst economic crisis since the 1975-1990 civil war has seen its value plummet. (Photo by ANWAR AMRO / AFP) (Photo by ANWAR AMRO/AFP via Getty Images)

لم يكن المشهد اعتياديًا على الإطلاق في انتخابات نقابة المهندسين في بيروت، مع تحقيق لائحة "النقابة تنتفض" فوزًا "تاريخيًا" فيها. الحدث "إستثنائي"، لأنه كسر هيمنة الأحزاب اللبنانية المشاركة في السلطة.

مع فوز تحالف “17 تشرين” بأغلبية مقاعد مندوبي نقابة المهندسين اللبنانيين، تتجه الأنظار إلى معركة انتخاب النقيب والأعضاء العشرة لمجلس النقابة في الثامن عشر من تموز/يوليو المقبل.

هل يمكن إسقاط هذا الفوز على الإنتخابات النيابية المقررة في مطلع ربيع العام 2022، وهل يمكن نقل تجربة التحالف الجديد في انتخابات نقابة المهندسين وقبلها في نقابة المحامين، إلى الاستحقاق النيابي المُنتظر؟

تُعتبر النقابات المهنية (أطباء، صيادلة، مهندسون، محامون) وقودًا أساسيًا للحركة الاحتجاجية. صوّبت قوى “17 تشرين” والمجتمع المدني هذه المرّة الجهود نحو هذه النقابات. ويُظهر الخرق الكبير في نقابة المهندسين بداية توجّه نحو مزيدٍ من التنظيم لمجموعات “17 تشرين” وبلورة خطاب سياسي واضح من جهة وإزدياد حالة التململ الشعبي من كل الطبقة السياسية الحاكمة من جهة ثانية.

خطاب تراكمي

وبما أنّ خطاب أي ثورة أو انتفاضة هو عبارة عن خطاب تراكمي، يُمكن اعتبار ما حصل هو تكملة للنهج الذي بدأ في 17 تشرين/أكتوبر 2019. صحيح أنه ليس من المُمكن لأيّ ثورة أو انتفاضة في بلد طائفي حتى العظم مثل لبنان أن تكون متجانسة إلى حد الإنصهار التام، لكن نزول كتلة بشرية كبيرة إلى الشارع قبل 18 شهرًا، أبرز للمرة الأولى منذ إنتهاء الحرب الأهلية، توق اللبنانيين إلى مغادرة إنقساماتهم الطائفية والمذهبية والمناطقية والاجتماعية، وهنا يصبح المأخذ كبيرًا ليس على سلطة كان من الطبيعي أن يكون موقفها ضد هذا الحراك، بل على أهل الحراك أنفسهم الذين غلّبوا شعاراتهم وإنحيازاتهم، فتعذر صياغة حد أدنى من رؤية وحد أدنى من الإدارة، الأمر الذي أحبط الشارع وجعل فرصة تكرار مشهدية 17 تشرين بمثابة مهمة صعبة للغاية، إلا إذا إرتقى أهل الحراك في خطابهم وممارستهم إلى ما تشكله هذه اللحظة المفصلية في تاريخ لبنان، وهي لحظة ولادة لبنان جديد بكل معنى الكلمة.

وبطبيعة الحال، ليس مبدأ التراكمية في الخطاب التغييري في لبنان وليد انتفاضة “17 تشرين” فقط. بل هو تَشَكّل نتيجةً للعديد من المحطات التي جعلته يزداد نضوجاً. فلا يجوز تجاهل الحراك المدني عام 2015 في بيروت، على خلفية أزمة النفايات، وقبله حراك إسقاط النظام الطائفي عام 2011. عشر سنوات مرت إذاً على حيوية جديدة للحركة الاحتجاجية اللبنانية، تتراوح شعاراتها بين الهمّ الاقتصادي والاجتماعي ومحاسبة الطبقة السياسية، والتخلص من الفساد عبر إصلاحات سياسية وإدارية شاملة، وصولاً إلى إسقاط النظام. لكن الحصيلة العامة ليست مثالية لولا بعض المكاسب هنا وهناك. فلا أفق واضحاً للتغيير بعد. وهذا الواقع يفرض على قوى “17 تشرين” تحدي المثابرة من أجل تعميم تجربة نقابة المهندسين، نقابياً وبرلمانياً وبلدياً وربما أبعد من ذلك.

هيمنة السلطة

لا شك أنّ السلطة اللبنانية، وعلى مدى عقود من الزمن، أحكمت سيطرتها على معظم النقابات، بعدما أدركت أهميتها وخطورتها في حال كانت خارج عباءة هذا النظام الطائفي. إذ يقوم هذا النظام، الذي أرسته المنظومة الحاكمة بعد انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية عام 1990، على الزبائنية والطائفية والمحاصصة والمصالح الشخصية. فبذلت “الأوليغارشية” الحاكمة جهدها من أجل شلّ أي حركة نقابية عمالية حقيقية. فأصبحت الأخيرة، وتحديدًا الاتحاد العمالي العام، بوقاً للسلطة والأحزاب الحاكمة.

كيفية استرجاع النقابات

من هنا تبرز الحاجة لاستعادة النقابات في لبنان، وهنا أيضاً يساهم الخطاب السياسي في تحديد الاتجاه العام للحركة النقابية المستقبلية. أي تحديد مدى راديكاليتها بوجه السلطة، أي سلطة مقبلة. فالممارسة النقابية تعتبر ممارسة سياسية في الأصل. لذلك يكتسب استرجاع النقابات والعمل النقابي الحر معنى أكبر عندما يترافق مع رؤية سياسية واضحة. وعمل النقابات ضمن مشروع سياسي بديل وضمن استراتيجيات مُحددة ومدروسة جيداً، يساهم في خلق نوع من التراكم “الإيجابي” للخطاب وللممارسة معاً. وهذا من شأنه أن يؤثر فعليًا على المشهد السياسي العام في المستقبل.

في حال بُني على الانتصار المنجز في نقابة المهندسين للتحوّل إلى نضال نقابي منتظم ودائم على مستوى جميع النقابات، قد يكون هناك بارقة أمل فعلية على صعيد المضي قدمًا نحو التغيير السياسي المنشود

بمعنى آخر، تقف قوى “17 تشرين” أمام اختبار تلاحُم المجهود النضالي النقابي مع التنظيم السياسي “المُنسّق” لمواجهة المنظومة الحالية. وهذه المقاربة لمسألة التغيير والعمل النقابي، يُمكن أن تنطبق على التجربة اللبنانية في حال خرجت القوى التغييرية من التنظير والخطاب المجرد إلى المُمارسة الفعلية لخلق تنظيم سياسي بديل، يحمل مشروعاً سياسياً واضحاً، يستند إلى خطاب وروحية انتفاضة “17 تشرين”.

لعل القوى الجديدة ومجموعات المجتمع المدني قد اتعظت من تجربة الانتخابات النيابية الماضية (غير الناجحة)، لجهة إدراكها أنّ الصراع مع السلطة يتطلب منها عملاً منظماً على المدى الطويل، ولعلها تطبق ما تلقفته من دروس في النقابات بوصفها أحد أشكال تنظيم هذا الصراع. حصل ذلك في نقابة المحامين عام 2019، ثم في نقابة المهندسين عام 2021. ويتجسد ذلك أيضاً في محاولات تأسيس نقابات بديلة مثل نقابة الصحافة البديلة على سبيل المثال والتي نشطت منذ انتفاضة 17 تشرين. حتّى ولو لم يأتِ كل هذا الحراك بنتيجة ملموسة وفورية، وهو أمر صعب في ظل دهاء المنظومة التقليدية ومحاولة تحصين مواقعها ومكاسبها، إلا إنّ الضربات التي يسددها لها يشكل هزيمة ولو رمزية لأحزابها الحاكمة.

إقرأ على موقع 180  هل تحوّلت الشعبوية إلى أيديولوجيا؟

نحو مزيد من التنظيم؟

أكثر من ذلك، يُساهم أي انتصار في خلق بيئة نشطة لاستكمال الخطاب التغييري لانتفاضة “17 تشرين”. ويعيد إحياء آمال اللبنانيين بالتغيير، ويدفعهم ربما لمزيد من التنظيم والانخراط في النقابات، من أجل فرض تغييرات ملموسة في المشهد السياسي اللبناني.

ثمة فرضية أخرى تقول إن ما يحصل هو بداية ترجمة فعلية للخطاب الاجتماعي والاقتصادي والحقوقي الجديد، بوصفه نقيضاً لكل الإرث الذي خلّفه هذا النظام السياسي الطائفي والزبائني والفاسد. لا بد إذاً من رصد هذا التحول في المستقبل، لفهم مآلات الصراع السياسي بين القوى الجديدة والأحزاب التقليدية.

قد تكون معركة نقابة المهندسين محطة “مُحتملة” لمسار جديد، تبدأ النقابات فيه بفرز بديلٍ سياسيٍ حقيقي عن “الستاتيكو” الحالي. المهمة صعبة بالطبع، وتحتاج إلى وقت. لكن الدور الفعلي لأي نقابة لا ينجح في التحوّل إلى مشروع نقابي على صعيد الوطن، وبالتالي لا يكون استكمالاً فعلياً لخطاب الانتفاضة إلا إذا أدرك القيّمون عليه بأنّه نضالٌ سياسيٌ بكل ما للكلمة من معنى.

في نقابة المهندسين، نجحت قوى “17 تشرين” بتجاوز تبايناتها، من دون إخفاء تنوعها، وصولاً إلى الاتفاق على قواسم مشتركة، نقابية ومعيشية وحقوقية. في حال بُني على الانتصار المنجز للتحوّل إلى نضال نقابي منتظم ودائم على مستوى جميع النقابات، قد يكون هناك بارقة أمل فعلية على صعيد المضي قدمًا نحو التغيير السياسي المنشود.

Print Friendly, PDF & Email
مارتا قاصوف

صحافية لبنانية

Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  القطاع العام صمّامُ أمانٍ.. لا أصل البلاء!