تونس: هل تحوّل الرئيس إلى “انقلابي” والجيش إلى “عسكر”؟

قال جورج باكر معلقاً على شعور الأميركيين إزاء تعامل دولتهم مع جائحة كورونا: "في كل صباحٍ يستيقظ الأميركيون ليجدوا أنفسهم مواطنين في دولة فاشلة". الشعور ذاته يساور التونسيين (والعرب) حيال برلمانهم وحكومتهم ودولتهم.. بلّ لقد رُفّع اليأس أكثر فباتوا رعايا في مستوطنة كبرى يسمونها وطن!

حقّق الرئيس التونسي قيس سعيّد مرادهُ أخيراً، وقام بالاستعانة بالجيش بتجميد البرلمان وإقالة رئيس الحكومة هشام المشيشي وتعطيل السلطة التنفيذيّة تمهيداً للاستحواذ عليها، ريثما يتبدّى شيّءٌ مختلف في الأفق. هي ليلة واحدة اندلقت فيها شجاعة الرئيس التونسي بعد أشهر من العناد والتلويح بخطواتٍ حاسمة، يخوّلهُ إياّها الفصل الـ 80 من الدستور التونسي، والذي بدوره يشترطُ المشورة أيضاً، بمعنى يتيح هذا الفصل الاستثناء من فصول تنظيميّة لرئيس الجمهوريّة حالات بعينها تمكّنهُ حالَ وقوعها حصراً من تعطيل الحياة السياسيّة.
وقد نصّ هذا الفصل على التالي: “لرئيس الجمهوريّة في حالة “خطر داهم مهدد” لكيان الوطن أو “أمن البلاد أو استقلالها”، “يتعذٌر” معه السير العادي لدواليب الدولة، أن يتخذ التدابير التي تحتمها تلك الحالة الاستثنائيّة، وذلك بعد “استشارة” رئيس الحكومة ورئيس مجلس نواب الشعب وإعلام رئيس المحكمة الدستوريّة، ويعلن عن التدابير في بيان إلى الشعب”.

ويضيف الفصل 80 من الدستور: “ويجب أن تهدف هذه التدابير إلى تأمين عودة السير العادي لدواليب الدولة في أقرب الآجال، ويعتبر مجلس نواب الشعب في حالة انعقاد دائم طيلة هذه الفترة. وفي هذه الحالة لا يجوز لرئيس الجمهوريةّ حلٌ مجلس نواب الشعب كما لا يجوز تقديم لائحة لوم ضد الحكومة”. ثم يتعرّض الفصل إلى ما يليه الإجراء الاستثنائي: “وبعد مضيٌ ثلاثين يوماً على سريان هذه التدابير، وفي كل وقت بعد ذلك، يعهد إلى المحكمة الدستورية بطلب من رئيس مجلس نواب الشعب أو ثلاثين من أعضائه البت في استمرار الحالة الاستثنائيّة من عدمه. وتصرح المحكمة بقرارها علانية في أجل أقصاه خمسة عشر يوماً. وينهى العمل بتلك التدابير بزوال أسبابها. ويوجه رئيس الجمهوريّة بياناً في ذلك إلى الشعب”.
وقد تبدّت المآخذ على الخطوة التي أقدمَ عليها قيس سعيّد بوضوح في التالي:
أولاً: عدم الكشف عن نوعية “الخطر الداهم” الذي يمسّ بكيان الدولة التونسية ويهدّد أمنها، مع توعّده في مواعيد كثيرة في خطاباتهِ المتتالية بكشفهِ وتهديده الدائمين بتسمية المتسببين في وقوع ما يحدق بالبلد من مخاطر جسمية. وكانت أغلب خطاباته موجّهة لخصومه، منطوقها الكلّيّ، لا يخرج عن تلويح بلا تصريح، على طريقة ما نصح به المنظّر دينغ شياو بينغ أقرانه الصينيين سنة 1990: “اخف قوّتك وانتظر اللحظة المناسبة”، مع حفظ الاختلاف على مستوى المناسبة والمجال والهدف.

استعانة رئيس الجمهوريّة القادم من انتخابات نزيهة بالجيش (والجيش مؤسسة لا تُنتخب؛ حالها حال القضاء والشرطة) من أجل تكريس وضع دستوري منقوص ضد جهات منتخبة، برغم أدائها السياسي الهزيل

ثانياً: عدم استشارة كلٌّ من رئيس مجلس النواب (راشد الغنوشي) ورئيس الحكومة (المشيشي) استناداً إلى نفيهما ذلك، ما يعني أنّ الفصل المشار إليه أعلاهُ قد تعرّض للاجتزاء الشخصي من قِبل رئيس الجمهوريّة، إذ إنّ الفصل مشروط بما يُعرف في القانون بـ”الشرط الواقف” أيّ ذلك الذي لا ينعقد الشيء ولا يكتسب شرعيته إلا بحدوثه واستيفاء الحدوث بالتصريح من طرف المعنيين بوقوعه، والقرينة في هذا؛ حدوث واقعة العِلم للأطراف أو ما يثبت حصولهُ، بغض النظر عن قبولهم أو رفضهم لفحواه بعد ذلك.
ثالثاً: استعانة رئيس الجمهوريّة القادم من انتخابات نزيهة بالجيش (والجيش مؤسسة لا تُنتخب؛ حالها حال القضاء والشرطة) من أجل تكريس وضع دستوري منقوص ضد جهات منتخبة، برغم أدائها السياسي الهزيل.
رابعاً: لا يُعتدُّ بأي مظاهرة داعمة لأي إجراء من خارج الدستور مهما كانت، لأنّ شرعيّة الصندوق تتغلّب قانونياً وسياسيّاً على شرعيّة التظاهر، ولاستعصاء وجود سبر حقيقيّ لعدد المتظاهرين. كما أنّ التجارب تخبرنا بأنّ الألمان انتخبوا أدولف هتلر، وطالبوا بإلغاء الديمقراطيّة في جمهوريّة فايمار، ممّا حدا بأحد الصحافيين الإنجليز إلى التعليق على ذلك بالقول: “إنّها ديكتاتوريّة العدد”، كما لم تغب على الأذهان ما قامت به الملقبة بـ “الشنّاقة” الليبيّة هدى بن عامر عندما نهضت من بين الحشود المُبارِكة للإعدامات الميدانيّة (التي كان يجريها معمر القذافي لخصومه) وهي منهم قبل أن تصبح وزيرة في حكم القذافي، بسحب معارضٍ إلى أسفل من رجليه بعدما أحكمت الأنشوطة القبضة على عنقهِ بعد انفتاح المنصة من تحته، كنوعٍ من  بذل الإخلاص العلني للقائد ـ الزعيم.
خامساً: طموح قيس سعيّد الدائم والمزمن إلى لعب دورٍ أكبر ممّا يتيحهُ لهُ الدستور، ورغبته البائنة في تحويل النظام في تونس من نظام شبه برلماني (برلماني معدّل) إلى نظام رئاسي أو شبه رئاسي، يمتلك رئيس الجمهوريّة فيه سلطات أوسع، وقد تمّ تناول ذلك في مقالة سابقة هنا.
سادساً: بعد أن فشل قيس سعيّد في الحصول على ثلثٍ معطّلٍ كحلّ مؤقت لفرض سلطاته على البرلمان، كوّن علاقة قويّة مع أقطاب الجيش التونسي من أجل خلق لوبي موازٍ قادر على صنع الفرق وفرض الأمر الواقع، وهو ما حصل ليلة الأمس (الأحد).

يتمّ “نحر” التجربة التونسيّة بكل الوسائل حتى تنتهي تجارب التحوّل الديموقراطي العربي، برغم تواضعها وتعثّر مسارها، إلى فشلٍ ذريع

سابعاً: الاعتداء على مؤسسات منتخبة بصرف النظر عن أدائها وسوء إدارتها وتحوّلها إلى مسرح فكاهي مفتوح أمام العالم بأسره، لا يمكن أن يجد لنفسه موئلاً في القفز على الدستور من قبل أستاذ للقانون الدستوري، لم يتعاطَ السياسة من قبل.
ثامناً: يتمّ “نحر” التجربة التونسيّة بكل الوسائل حتى تنتهي تجارب التحوّل الديموقراطي العربي، برغم تواضعها وتعثّر مسارها، إلى فشلٍ ذريع.
تاسعاً: عندما قام الرئيس الصيني شي جين بينغ بتغييرات جذريّة في دواليب القرار في الصين، وصفته الباحثة في جامعة ستانفورد إليزابيث إيكونومي في أحد كتبها بأنّ نهجه يمثل “ثورة ثالثة”. كذلك يرغب قيس سعيّد في القيام بـ”ثورة ثالثة” في تونس المعاصرة بعد ثورة الخمسينيات الماضية ضد الاحتلال الفرنسي (من دون احتساب الثورات السابقة ولعل أبرزها: ثورة الجهاد المقدس في الشمال التونسي في ثمانينيات القرن التاسع عشر) وثورة الياسمين التي أطاحت بحكم زين العابدين بن علي في 2011.
عاشراً: مع انهيار المنظومة الصحيّة في البلاد بفعل استشراء الفيروس التاجي، هل سوف تقوى تونس على تحمّل الفراغ الدستوري المترتب عن سقوط سلطتين هما حجرا الزاوية في تسيير البلاد برمتها، ولو بأقل الجهود الممكنة؟ فضلاً عن تحوّل الجيش من مؤسسة محايدة إلى مؤسسة سياسيّة قد تنقلب على رئيس الجمهوريّة نفسه كما حدث مع زين العابدين بن علي.
الأيام القادمة تخفي الكثير من المتاعب للتونسيين.

إقرأ على موقع 180  لماذا انكسرت الإنتفاضات العربية من تونس إلى السودان؟

Print Friendly, PDF & Email
ضيف حمزة ضيف

كاتب وصحافي جزائري

Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  فيروز ليست لبنان