الأقوياء ما زالوا يقودون “اللبنانيين” إلى الهاويات. النجاة متوفرة لهم. هم الذين كانوا. هم الذين ظلّوا، هم الباقون، ويراهنون على مزيد من القوة، في انتخابات قادمة، إن حصلت.. الخلاصة، هم الأقوى. العالم في معظمه ضدهم. ولم يستطع أن يقنعهم باقتراح. “سبحان الأحياء الباقين”.
الجمهور الفقير الذي خرج في “17 تشرين”، كان علامة بداية التغيير. لم تطل الفرحة كثيراً. لم يتحول الحراك إلى قوة. ما يطالب به حق طبيعي. ما يريده واضح وأصيل. يريد دولة. يريد محاسبة. يريد ديموقراطية. يريد استعادة ما نُهب من امواله وعرق جبينه. يريد مستقبلاً للبنان يتساوى فيه اللبنانيون، بلا طائفية خبيثة.. يريد لبنان للبنانيين. يكون الشعب مصدر السلطة، ولا شرعية لأحد خارج شرعيته.. لكن هذا لم يحصل. صراخ في وادٍ. لم تشعر السلطة بخوف. لجأت إلى الصمت. كأن ما يجري ليس في لبنان. ما زالوا حتى لحظة كتابة هذه الكلمات، منشغلين في توزيع الحقائب الوزارية اللصوصية، فيما الناس هائمة، وللمرة الأولى. في بؤس وذل، لم تشهده أي دولة. لقد أصبح لبنان “الدولة” الأولى، بين الدول اليائسة والميؤوس منها.. البلد ينهار. الزعامات الطاغية تزداد عناداً وقوةً وحنكةً وتهرباً. هم حفدة القول المأثور: “هذا من فضل ربي”.
قوة الشارع ليست بمستوى التغيير. خطابها قوي. اتهاماتها صحيحة. صراخها موجع. صادقة في غضبها. ولكن.. كل هذا، يقع في خانة التعبير ولا يصل إلى ضفة التغيير. هل هي مشكلة عدد؟ الاعداد كافية، بل وهي فائضة. هل التأييد الشعبي متوفر؟ طبعاً. ها هم اهلنا وابناؤنا يهيمون في زمن المجاعة والانهيار وفقدان الدواء والكهرباء والمال والمونة، يتوقون إلى تغيير ولو ضئيل. لم تلتم القوى المتكاثرة والمتناثرة، لتصبح قوة ذات برنامج عملي. منطقي. يقضم من السلطة، ويحررها من محتليها.
اللبناني، صاحب الحظ الملعون، يعيش كفاف أمسه، وليس كفاف يومه. خوفه فظيع. يخاف على صمته وعلى صحة احبائه. يخاف على الدواء. يخاف من العزلة. يصبر على المذلة. يئس من استرداد امواله وجنى تعبه. انه كائن يسير على غير هدى. لم يعد لبنان وطنه. صار جحيمه
الافكار والبرامج والخطط والخطب مهمة جداً، ولكنها قاصرة عن التغيير او أقل من ذلك، قاصرة عن التأثير. والدليل واقعنا اليوم وأمس وغداً. اختلفوا على كل شيء تقريباً. اختلفوا على صياغة بيان موحد. لم يتفقوا على عناوين مرحلية. تشرذموا كعصابات صغيرة مكتفية بذاتها. لم تتكون جبهات قوية تضم مجموعات مختلفة، ولكنها متفقة على برنامج مرحلي يَسحب البساط، يوماً بعد يوم. من تحت اقدام الطغمة القذرة. فضّلوا الانفراد والتفرد. كان المطلوب منهم أن يقلّدوا الطائفيين، عصبية، انتماء، عملاً وهدفاً. الطائفي أخو الطائفي ولو كان لم يلتقِ به، ولو كان آدميا وزميله أزعر. الطائفي لا يؤمن بالفرز على اساس فكري، مناطقي، عائلي، ثقافي.. الطائفي قوي لأنه يستقوي بمن يمت اليه بصلة النسب العائلي او الطائفي. لولا الطائفية، لما كنا عرفنا وجوه هذه الزعامات المزمنة، التي قامت على رأسمال اكيد: الطائفة. والطائفية، هي من عمر لبنان، وما قبله ايضاً. انها ليست شوكة في قدم النظام. انها القلعة المحصنة والمصانة، “بالروح، بالدم، نفديك يا زعيم”.
غريب الفرز الذي حصل في الساحات. فئات ترى آفة النظام بفريق سياسي طائفي، وتعفي الفريق الآخر. “كلن يعني كلن”، لم تترجم فعلاً، الا عند كثرة مبعثرة. ساحات، عُرفت بعلاقاتها بما تبقى من “14 اذار”، وساحات دافعت عن قيادات وسياسات ما تبقى من “8 اذار”.. وهكذا اختلط الحابل بالنابل. ظهرت احقاد قديمة. استعاد البعض فصولاً من تاريخ مضى، يقسّم الصفوف ولا يوحدها.. الجمعيات والمؤسسات التي كان لها حضور سابق على “17 تشرين”، تبخرت. تفرقت. تمزقت. لا تنقصنا الكلمات ابداً. تنقصنا اللكمات. نفتقد القبضات. نفتقد القوة.
بائس انت أيها اللبناني. لم يعد مستقبلك امامك. أنت اليوم، امامك يدك المحدودة، واستغاثتك الملهوفة، وسداد حاجاتك المفقودة. ما كان أحد يتصور أن يكون سقوط لبنان بهذه السرعة. اللبناني، صاحب الحظ الملعون، يعيش كفاف أمسه، وليس كفاف يومه. خوفه فظيع. يخاف على صمته وعلى صحة احبائه. يخاف على الدواء. يخاف من العزلة. يصبر على المذلة. يئس من استرداد امواله وجنى تعبه. انه كائن يسير على غير هدى. لم يعد لبنان وطنه. صار جحيمه، وهو يكتوي بلهب الفاقة، وينام على شوك اليأس.. لا غد عنده. عنده ماضٍ مضى، وحاجز ثقيل، ومستقبل مستحيل.
أخيراً، لا بد على الاقل، من توجيه اللعنات كلها إلى هذه الطغمة المتجبرة الحقيرة. لا توفروها، سراً وعلناً. اغضبوا. قاطعوهم. وغداً، لا تحجوا إلى صناديق الاقتراع.
هل من أمل؟
الأمل لا يأتي وحده ابداً. يلزم أن يُستدعى الأمل بالعمل. والعمل الاول، توحيد صفوف المعارضة وبناء قواعدها ووضع برنامج مواجهة، يلزم الطغمة على التراجع.. ثم السقوط.
لا ننسى أن القوة هي القول الفصل.