اليوم، يتعانق المصطلح ذاته مع تعبير «نزيف الكفاءات»، لتأبين هجران الأفراد من ذوى المهارات المتميزة والتأهيل المتطور، بلدانهم الأصلية، تحت وطأة الأزمات، وشظف العيش، والحروب المستعرة بغير توقف، قاصدين بقاعا مغايرة، يلتمسون فيها أفقا أرحب لحياة أفضل.
هاهى أفغانستان، تجسد المأساة الإنسانية بكل فصولها الحزينة وأبعادها المروعة. فحتى قبل انهيار حكومة أشرف غانى، المدعومة غربيا، وهيمنة طالبان على السلطة منتصف الشهر الماضى، ثم إحكام المجتمع الدولى عزلته على البلاد برفضه الاعتراف بالحركة وتجميده أرصدة ومساعدات بمليارات الدولارات، كانت التقارير الأممية تؤكد عجز الملايين من المواطنين الأفغان عن توفير الطعام لعائلاتهم، بعدما عصفت بالبلاد أعنف موجات الجفاف مهلكة 40 % من محاصيلها الغذائية، بالتزامن مع احتدام وطيس الصراعات المسلحة، وتفاقم تداعيات جائحة «كوفيد ــ 19».
عاصفة لجوء أفغانية عاتية
بجريرة افتقاد البلد المغدور لشبكات أمان وطنية، أضحى طفل من بين اثنين دون سن الخامسة، يعانى سوء التغذية، فيما يكابد ثلث السكان أخطر مستويات انعدام الأمن الغذائى، حتى سجلت أفغانستان أعلى المعدلات العالمية لوفيات الرضع، وأدنى متوسط عمر متوقع (53 عاما) للعام الجارى. ومع تخطى نسبة البطالة بين الشباب 20 %، وانزلاق 76% من السكان إلى ما دون خط الفقر، باعتياشهم على أقل من دولارين يوميا، وقع 18 مليونا آخرين، يمثلون نصف سكان البلاد، فى براثن الاعتماد على المساعدات الإنسانية. وفى مسعى لتجنب مجاعة وشيكة، طلب برنامج الغذاء العالمى منحة قدرها 200 مليون دولار لتنفيذ استثمارات وقائية تتصدى للأزمات. أما الأمين العام للأمم المتحدة، فشدد خلال المؤتمر الوزارى للمانحين بالمقر الأوروبى للمنظمة فى جنيف مؤخرا، على ضرورة توفير «طوق نجاة» للشعب الأفغانى، عبر تأمين احتياجات تمويلية عاجلة للمنظمة الدولية ووكالات الإغاثة فى أفغانستان، تناهز المليار دولار، التى تعهد المشاركون بتخصيصها، حتى منتصف العام المقبل.
على وقع ذلك الوضع الكارثى، تدافعت جموع أفغانية غفيرة تتحسس الملاذات الآمنة حول العالم. فعلاوة على فاجعة تشبث المئات منهم بهياكل طائرات إجلاء قوات الحلفاء ورعاياهم والمتعاونين المحليين عقب سيطرة طالبان على العاصمة، توقعت مفوضية الأمم المتحدة السامية لشئون اللاجئين، نزوح قرابة مليون أفغانى بحلول نهاية العام الجارى، ربعهم تقريبا من الكفاءات المهنية ما بين قانونيين وموظفين وفنيين. كذلك، تؤكد الإحصاءات الرسمية فرار ما يناهز 100 ألف أفغانى منذ منتصف آب/أغسطس الماضى، بينهم آلاف الخبرات النادرة، مخافة أن تعيد طالبان فرض نظام حكمها المتشدد، الذى أرهقت به البلاد والعباد خلال الفترة من 1996 إلى 2001، جراء ما انطوى عليه من فظاعات. وفى محاولة لإيقاف هذا النزيف البشرى الثرى، ناشد المتحدث باسم الحركة، الكوادر والكفاءات الأفغانية جميع، البقاء والتفانى فى إفادة بلادها وذويها بقدراتها الخلاقة، كما طالب الغرب بالعدول عن استقطاب وإجلاء العناصر الأفغانية المتميزة من الفنيين، والمهندسين، والعمال المهرة، الذين يشكلون عصب رأس المال الاجتماعى لبلد، يتوق أبناؤه منذ عقود، لعبور نفقه المظلم.
هرع الأوروبيون لإيصاد الأبواب أمام جحافل الأفغان الهاربين من حكم طالبان. فبينما رفضت تركيا استقبال المزيد من لاجئيهم، أبدت فرنسا استعدادها لاستضافة القليل منهم
تتعاظم خطورة ذلك الخطب الجلل، مع إصرار الدول الغربية على مباشرة دورها الانتهازى، بهكذا ملمات، والمتمثل فى إعطاء الأفضلية بعمليات الإجلاء ومنح التأشيرات والإقامات، للكفاءات الأفغانية والمتعاونين المحليين، من صحفيين، ووسطاء، ومترجمين فوريين، وأعضاء فى منظمات غير حكومية، وآخرين قد تكون حياتهم عرضة للخطر تحت حكم طالبان، مثل الفنانين، والمثقفين، والنابهين من معتنقى الديانات المغايرة. فى المقابل، ودرءًا منهم لتداعيات عاصفة لجوء عاتية شبيهة بتلك التى اجتاحت العالم سنة 2015 على خلفية الأزمة السورية، هرع الأوروبيون لإيصاد الأبواب أمام جحافل الأفغان الهاربين من حكم طالبان. فبينما رفضت تركيا استقبال المزيد من لاجئيهم، أبدت فرنسا استعدادها لاستضافة القليل منهم. وبعدما أطلقت بريطانيا، فى آذار/مارس الماضى، «برنامج إعادة التوطين بالمملكة المتحدة»، لاستضافة قرابة خمسة آلاف لاجئ فى سنته الأولى، لم يستقبل سوى 310 لاجئين فقط، قبل أن يتم إلغاؤه لاحقا بذريعة مراجعة جهوزية السلطات المحلية والحكومة المركزية ومجموعات الرعاية المجتمعية، لاستيعاب المزيد عقب انكسار موجة «كوفيدــ19».
نزوح نصف سكان سوريا
أما سوريا، فتؤكد التقارير الأممية، نزوح أكثر من نصف سكانها، منذ إستعار أوار جحيمها المتواصل عام 2011، بينهم 40% من الأطباء، و20% من الصيادلة، و10% من المهندسين، و30% من المدرسين، وعشرات آلاف آخرين من أصحاب المهارات والخبرات التراكمية فى مهن تاريخية نادرة. وبينما تتطلع دوائر سورية لوقف نزيف رأس المال البشرى، واستعادة الكفاءات المهاجرة، شكل صدور التقرير الرابع والعشرين للجنة الأمم المتحدة لتقصى الحقائق فى سوريا، صدمة من العيار الثقيل. إذ ندد باشتداد وطأة المواجهات المسلحة هناك، بما ينسف متطلبات العودة الآمنة والكريمة للاجئين. فبموازاة استشراء جائحة كورونا، واستمرار جفاف نهرى دجلة والفرات، شهدت الأشهر الأخيرة تصعيدا مخيفا فى المواجهات المسلحة ببقاع عديدة من البلاد، ما زاد من وتيرة الانهيارالاقتصادى، وارتفاع أسعار السلع الضرورية، وتنامى انعدام الأمن الغذائى بنسبة تربو على 50 %، مقارنة بالعام الماضى. وبناء عليه، تصدت المفوضية السامية لشئون اللاجئين لمحاولات أنقرة المستميتة للتخلص من أعباء زهاء أربعة ملايين لاجئ سورى بإعادتهم إلى بلدهم. حيث أكدت المفوضية أن الحل السياسى للأزمة السورية هو وحده الكفيل بضمان العودة الطوعية المُكرَمة فى أجواء آمنة.
رصدت سجلات الأمن العام اللبنانى تهافتا مقلقا على إصدار جوازات السفر خلال الأشهر الثمانية الأولى من العام الحالى؛ بواقع 260 ألف جواز سفر، مقارنة بنحو 142 ألفا فى العام الماضى؛ أى بزيادة نسبتها 82%
هجرة لبنانية قياسية
وفى لبنان، الذى تفتك به، إلى جانب جائحة كورونا، ملمات اقتصادية وسياسية طاحنة، وصفها مواطنوه بالجهنمية، بينما أدرجها البنك الدولى بين الأسوأ عالميا منذ عام 1850، فقد تمخضت ويلاته الممتدة عن اندلاع ثالث أضخم موجة للهجرة فى تاريخه الحديث. حيث وقعت الأولى نهاية القرن التاسع عشر، وهاجر على إثرها 330 ألف لبنانى، فيما جاءت الثانية إبان الحرب الأهلية عام 1975، وغادر فى عقبها 990 ألف شخص، وفق مرصد «الأزمة» التابع للجامعة الأمريكية ببيروت. أما الموجة الحالية، فانبلجت من رحم الإخفاق الاقتصادى والانسداد السياسى اللذين حرما المودعين من سحب أموالهم من المصارف بسبب نقص السيولة، وتراجع سعر صرف الليرة بمعدلات غير مسبوقة. فلقد تفشى الفقر، وعمت البطالة، وتدهور الوضع المعيشى والأمنى، إذ شاعت الخروقات الأمنية، وشَحَت السلع الأساسية كالأدوية والأغذية والوقود والطاقة. وقد أماط انفجار مرفأ بيروت فى آب/أغسطس 2020، وتدميره حوالى نصف العاصمة، مُخلفا أكثر من مائتى قتيل، وآلاف الجرحى، اللثام عن التآكل المفزع لحضور الدولة ودورها، الأمر الذى حمل آلاف اللبنانيين على الفرار، بحثا عن بدائل أكثر ملاءمة للعيش الكريم.
ورغم اعتياد لبنان هروب الأدمغة ونزيف الكفاءات، إلا أن الهجرة الراهنة تظل الأوقع أثرا، مع تعاظم أعداد المغادرين من مختلف ألوان الطيف المهنى، وتربص الحكومات والشركات الأجنبية للاستثمار فى التراجيديا اللبنانية، عبر اصطياد النابغين فى مختلف المجالات، وبثمن بخس. فمنذ عامين، يكابد القطاع الصحى خللا بنيويا، بفرار أكثر من 1500 طبيب، معظمهم اختصاصيون وذوو خبرات هائلة، فيما قفزت أعداد المهاجرين من الممرضين والممرضات إلى 1600، وهى أرقام مرشحة للتضاعف، مع استمرار تردى الأحوال. وفى حين يعايش القطاع التعليمى ارتدادات مذهلة للأزمة، مع تنامى أعداد المهاجرين من خيرة الطلاب وأعضاء هيئة التدريس، وترقب 75 %من زملائهم المتبقين فرصتهم للرحيل، يشهد القطاع المصرفى إغلاق عدد من البنوك، وتسريح موظفين كُثر. وتؤكد نقابة المهندسين ارتفاع معدلات الهجرة فى الوسط الهندسى بصورة تفوق أى وقت مضى، بينما رصدت نقابة المحامين هجرة أسراب من المحامين إلى دول عربية عديدة. وفى الأثناء، امتد طوفان الهجرة العارم إلى أوساط العاملين فى الأروقة الإبداعية، كالفنون، والإعلام، والطباعة، والتصميم.
وقد رصدت سجلات الأمن العام اللبنانى تهافتا مقلقا على إصدار جوازات السفر خلال الأشهر الثمانية الأولى من العام الحالى؛ بواقع 260 ألف جواز سفر، مقارنة بنحو 142 ألفا فى العام الماضى؛ أى بزيادة نسبتها 82%. وحسب الإحصاءات ذاتها؛ تجاوز المعدل الأسبوعى لطلبات الاستحصال على تلك الجوازات سبعة آلاف طلب إبان الأشهر الثمانية الأولى من السنة الحالية، مقارنة بأربعة آلاف طلب خلال نفس الفترة من العام 2020. وكان لافتا للنظر أن تندرج غالبية جوازات السفر المصدرة ضمن الفئات الأطول زمنا؛ والتى تمتد لسنوات عشر، أو سنوات خمس، مقابل تراجع الفئات التى لا تزيد عن السنوات الثلاث، أو السنة الواحدة، ما ينذر باعتزام معظم مستصدرى ذلك النوع من الجوازات، الهجرة والإقامة فى الخارج إلى آجال غير معلومة.
هكذا إذا، تتبارى العقول النابهة والكفاءات النادرة، فى مجافاة أوطانها المكلومة، تاركة إياها تلعق مرارات أزماتها، وتشقى بنزيف ثرواتها البشرية. لكنها، وبرغم ذلك، تبقى متعلقة بتلابيب الأمل. عسى أن تنجلى غُمتها، فتستفيق من غيبوتها، وتسترد عافيتها، وتتفانى فى بذل الجهد وتحقيق الاستغلال الأمثل لمواردها، علَها تتجاوز محنتها، وتستنقذ رأسمالها الاجتماعى، فتعوَض شيئا مما فاتها، ولو بعد حين.
(*) بالتزامن مع “الشروق“