أنا المسؤولة بالأساس، تراتبيّة خططي آنذاك هي المسؤولة، كانت بيروت آخر قضمة، آخر حبةٍ في عنقود المسرّات، أخطأتُ الحساب، فات حدسي أنّ انهياراً وانفجاراً سيُحيلانها إلى التقاعد.
لو لم أسمعْ أن بيروت كانت ستّ الدنيا، لقلت إن بيروت ولدت هكذا، عجوز مجعّدة، أو ربمّا حبّي ولد متأخراً، بعد أوانه بكثير، ولكن أيُّ أوان، وأيّ تدارك، وأي صحوة، حينما كنتُ أصارعُ القرون السحيقة، والآباء المؤسسين لها، حينما كنتُ أسلخُ الحجاب عنّي.
إنتقلتُ من بلدتي الجنوبية إلى بيروت للعمل. حصل ذلك قبل ثلاث سنوات. كنتُ محجّبة من دون حجاب. لا محجّبة بحجاب، كطلاقٍ خُلعيّ من دون خَلْع، في عروقي دماء متخثّرة، وقلبي ينهشه ثعبان، كأنّ جابياً جالَ على كلّ نساء الأرض وجمع خوفهنّ، ثمّ سكبهُ في كبدي، كيف سأنفضُ عنّي رداء البيئة والقبيلة؟ كيف سأعلنُ عنّي؟ كيف سأخرجُ من التفّاحة؟ تفّاحة الخطيئة التي تُحبسُ فيها المرأة لحظة المولد، كيف وكيف، سلاسلُ كيفٍ حوّلت حياتي الجديدة في بيروت إلى حلزونة، أدور فيها، بدوارٍ فكريّ روحيّ دائم.
ولكنّ بيروت، إسمحوا لي أن أخاطبها مباشرةً.
يا حبيبتي بيروت، كُنتِ السّند، كنتِ دولةً من العالم الأول وكنتُ أنا لاجئة، هل تعرفين أنّه لولاكِ يا بيروتْ لما خلَعْتْ؟ هل تذكرينْ عندما لامس شَعْرِي سماءكِ للمرّةِ الأولى انتشاءً بالضوء والهواء؟ أنتِ شجّعتِني، قلتِ إنّني في كنفكِ، وإنّكِ سيدةً مُهابة، أنكِ الحكمةَ وأنك وجدانٌ عريقْ.
لا زلتُ أتسوّلكِ بيروت، كالمتسولين الذين يفترشون يومياً شارع الحمرا وهم في ازديادْ، يتسوّلون ليرات، وأنا أتسوّلُ مدينة، أحسدُ كلّ من عاصركِ في عزّكِ، عندما كنتِ منارة الشّرق، ومصلاً فكريّاً ثقافياً لمحيطك، أحبُكِ، ولكنّكِ الآن بلدة، ينامُ سكانكِ باكراً، ليلُكِ بلا أنوار، السّكون يتسرّب في مفاصلكِ كالوباءْ
خلعتُ رسميّاً في آذار/مارس 2020، طويتُ الخوف، وكانت صفحاتُ بيروت تُطوى تدريجيّا، بدءاً بانهيار اقتصاديّ أسندهُ وباء عالميّ، فتّشتُ عن بيروت، لم أجدها، وفي الثالث من آب/أغسطس ذاك العام حزمتُ أمتعتي لأغادر سكني المشترك في فرن الشبّاك إلى شقّتي المستقلّة في كليمنصو، وكأنني ندهتُ لمرفأ بيروت، وقلت له ها أنا ذا، نزحتُ اليك واقتربتُ منكَ جغرافيّاً.
في 4 آب/أغسطس، انفجرَ الغرامُ المستحيلْ، ابتلعتُ العويلَ والدّموع كيْ لا أكوي قلبكِ المكلوم أكثرْ، تكوّرتُ في إحدى زوايا المنزل وارتجفتُ فقطْ، قالوا إنّ أطناناً من نيترات الأمونيوم كانت محشوّةً في قلبك، وإنّني سأنامُ ليلتها بلا بيروتْ، شوّهوا حروفكِ وأضافوا إليها “شيما”، أدخلوكي في قوائم تصنّف أعتى الانفجارات، زهرةٌ باتت تقاسُ بهيروشيما، لم أكتشف أنّني ثمِلةً بحبّكِ، إلّا حين استيقظتُ فجراً وشرعتُ بنوبةِ بكاء، واستجداءْ، بأنْ يكون ما حصلَ لكِ خيالات ما قبل النّوم.
صباحاً تجهّزتُ لملاقاتكِ وتغطية نكبتكِ، عينان متورّمتان، يدان عصيّتان على استعمال مساحيق التّجميل، كيف لي أن أطعنكِ بقلمِ كُحْلْ؟ كيفَ لوجهي أن يصطبغَ بألوان الحياة والموتُ سحبَ من وجنتيكِ الورْد؟ ولو أنّني مراسلة تلفزيونيّة وللكاميرا شروطها، ليس مهماً، وجهي الشّاحبْ سيكونُ قطعةً في مشهديّتكِ الحزينة.
اخترتُ صورة توابيت محطّمة من أحدِ محالّ الجمّيزة لأبتدأ بها تقريري، وقلتُ إن بيروت تكوّمتْ في تابوت، وقلتُ إنّك صرتِ من الماضي، أعذريني، هل بالغتْ؟ هل ستقومين (كما يقول الشاعر) من تحت الرّدمِ كزهرة لوز؟ لأنَّ الدّنيا بعدكِ لا تكفي؟ هل تسرّعتُ بإعلان الحداد كطفلةٍ داسوا على دميتها المفضّلة؟
أنتِ يا بيروت حُبلى بالسّراديب، غموضكِ ساحرٌ فتّان، حينما تكونين شيئاً، تكونين أيضاً نقيضهُ، كثيرةَ المباهج، كثيرةَ النوائب، زحمةُ السّرديّات والتوقّعات والقراءات من حولك كثّفت غموضكِ، وأنا لم أعد أحبّكِ كدولة لجوء، صرتُ أحبكِ كوطن.
ومع ذلك، لا زلتُ أتسوّلكِ بيروت، كالمتسولين الذين يفترشون يومياً شارع الحمرا وهم في ازديادْ، يتسوّلون ليرات، وأنا أتسوّلُ مدينة، أحسدُ كلّ من عاصركِ في عزّكِ، عندما كنتِ منارة الشّرق، ومصلاً فكريّاً ثقافياً لمحيطك، أحبُكِ، ولكنّكِ الآن بلدة، ينامُ سكانكِ باكراً، ليلُكِ بلا أنوار، السّكون يتسرّب في مفاصلكِ كالوباءْ.
في ظلّ طفرة الهجرة، يسألني عديدون إن كنتُ أفكّرُ بالاغتراب ، وجوابي دوماً، لنْ أغادرَ قبل أن أعيش قصةَ حبٍ في بيروت، هل أنتِ راضية بيروت؟