أنا حرة.. لكن بعد فوات الأوان!

أعلن الرئيس رفع الجلسة لشرب القهوة وإن اشتهيت فالمخبوزات خرجت لتوها من الفرن تبث رائحة فاحت في أرجاء الفندق الصغير تطارد كالغواية النزلاء من كافة الأعمار. هذه الرائحة كانت دائماً أشهى الروائح وأحلى الغوايات وأحبها إلى قلبي وأيضا معدتي.

يومها لم تقدني الرائحة إلى غرفة الطعام وإنما حادت بي في اتجاه موظفة الاستقبال. وقفت أمامها في انتظار أن تنتهي من خدمة نزيل آخر يستعد لمغادرة الفندق إلى المطار بعد الإفطار ويطلب توفير سيارة أجرة وإعداد فاتورة الحساب. رائحة المخبوزات والآن هذا الإشراق المنبعث من جمال وعينين وشعر ولسان موظفة الاستقبال كلها اجتمعت لتبث في إنسان منهك نشاطا كان غائبا، أنا الإنسان الذي قضى ساعتين لا أكثر، من هذه الليلة في غرفته، يتقلب بالأرق وبحذر في فراش لفرد واحد.

انتهت ايزابيلا، واسمها مسجل على صدرها، من خدمة النزيل المغادر وتفرغت لخدمتي. اعتذرت بالإنجليزية عن فترة انشغالها عني فأجبتها بالإسبانية معتذرا أولاً عن أي أخطاء يمكن أن ارتكبها في حق اللغة وحقها وعن إصراري على التحدث بها بعد أن تخليت عنها أو تخلت هي عني قبل عشرين عاما وربما أكثر. قالت أفهم جيدا هذه الرغبة وأنا سعيدة ومستعدة لتلبيتها. أضافت أنها قدرت أنني تعلمت الإسبانية ومارستها في موقعين من أمريكا اللاتينية، لكل منهما لكنة خاصة به. هنـأتها على دقة تقديرها مؤكدا لها أنني تعلمتها في شيلي ومارستها في الأرجنتين وامتحنت فيها في الجامعة بمونتريال وتخلينا عن بعضنا في مصر. اهتمت فسألت وأجبت ثم جاء دوري فسألت وأجابت. شعرت فجأة بأن النزلاء طالبي المساعدة صاروا كثرا فانقسموا حين وصل لخدمتهم موظف آخر، طابور اصطف أمام الموظف الآخر وطابور فضل الاصطاف خلفي. لم تستعجلني ايزابيلا ولم تنبهني إلى الطابور المصطف خلفي. اعتذرت وسألت السؤال الذي جئت إليها سعيا وراء إجابة لا تستغرق نصف دقيقة. سألت أين يقع الميدان الأكبر والأشهر. أجابت “على مسافة دقائق من هنا. أخرج من باب الفندق وتوجه يسارا فشارعنا ينتهي فيه”. مشيت ولسان حالي يردد حكمة نطق بها صديق متقدم في العمر اشتهر بخبرته في موضوع النساء، كان يقول “بين مائة امرأة من جنسيات عديدة توجد واحدة إسبانية لن تخطئها عيناك ويهف لها قلبك”.

***

وصلت إلى الميدان. اخترت مائدة متميزة الموقع ومقعدا أدرته ليطل على الميدان. طلبت القهوة التي تخليت عنها في الفندق، طلبتها قوية. أجابني النادل بابتسامة لئيمة بعض الشيء ولكن مرحبة، قال كل قهوتنا قوية. ابتسمت بلؤم مقابل ابتسامته اللئيمة بعض الشيء وقلت بإسبانية واثقة من نفسها، “فلتكن قهوتي أقوى من قهوتكم فأنا لم أنم بالليل”. جاءت القهوة بالفعل قوية وهكذا جاءت الشمس، شمس اشتهرت بها مدريد وبخاصة شمس الربيع. استسلمت للقهوة حتى طلبت مكررا لها وللشمس حتى طلبت شمسية تحميني من مبالغاتها. سرت في عروقي أحاسيس راقية تعبر عن حال استمتاع بالغ أفقت منه على صوت أنثوي يناديني باسمي وكرسي يتحرك مقتربا مني وعلى يد تلمس يدي المتمددة على المائدة وعلى هفات عطر عاش لزمن في مخيلتي، كلها في آن واحدة.

أمسكت يدي بيدها وفي الحقيقة احتضنتها. وفي الأثناء، قلت “أريد أن أسمع عن كل ما فاتني خلال السنوات الضائعة. أعدك بأن أسمع ولا أعلق ولا أحكم. أسمع حتى النهاية، وبعدها نبحث في الحاضر والمستقبل. أرجوك، توقفي عن تعذيب الضمير فلا أنت مسؤولة عن رحيلي ولا أنا في انتظار اعتذار”

جلست وأشارت إلى النادل تطلب قهوتها. شربت القهوة وشربت معها قهوتي الثالثة. تبادلنا حديثا خفيفا عن صدفة اللقاء ومجاملات عن تقاطيع وسمات لم تتغير وعن أشواق لا شك صادقة. تحدثنا عن أصدقاء مشتركين، منهم من تاه وهو يبحث في أزقة الزمن عن حب ضاع منه، ومنهم من وقع في عشق السلطة فلم يعشق غيرها، ومنهم من أحب نفسه فتعذبت النفس ونفوس أخرى، ومنهم من أحب بصدق حتى تحولت حياته إلى نعيم لا يفنى. توقفنا للحظة. كانت البادئة بالتوقف. نظرت إليها لأجد وجها جميلا ولكن شاحباً وعيونا فاتنة ولكن زائغة. سألتها “وأنت؟ أين موقعك؟”. أجابت ودمعة على خدها” من فضلك إسحب سؤالك، فأنا اليوم سعيدة. أنا سعيدة بهذه الفرصة الرائعة التي جمعتني بك بعد افتراق طويل ولا أريد أن ترحل وأنت تحمل بين ذكرياتك حكاية أليمة. يكفيني ألما أنني ابتعدت عنك ذات يوم. رحلت ولم أعد. الأشد إيلاما كان يوم عرفت أنك عشت سنوات تنتظر عودتي”. قاطعتها ويدي تبحث عن يدها عساها تهدأ. أمسكت يدي بيدها وفي الحقيقة احتضنتها. وفي الأثناء، قلت “أريد أن أسمع عن كل ما فاتني خلال السنوات الضائعة. أعدك بأن أسمع ولا أعلق ولا أحكم. أسمع حتى النهاية، وبعدها نبحث في الحاضر والمستقبل. أرجوك، توقفي عن تعذيب الضمير فلا أنت مسؤولة عن رحيلي ولا أنا في انتظار اعتذار. تكلمي ولن أقاطعك ولن أتركك ترحلين هذه المرة بغير وعد وقسم بالعودة”.

إقرأ على موقع 180  روح الصين إن إحتلت.. عالمنا

قالت وعلى خدها دمعتان وليس واحدة “أصارحك فأقول تلقيت الدعوة لنفس المؤتمر ولم أقبل إلا عندما وصلتني قائمة المشاركين وأنت بينهم. جازفت بالحضور وترددت حتى وأنا في طريقي إلى المطار. عشت سنوات رهينة حالة رعب صار مزمنا ومقاوما لكل العلاجات وتجاوزت آلامي ومتاعبي المدى. احتار الأطباء في تحديد أسبابه. عالجني الصينيون بالإبر الصينية وفشلوا، وعدت إلى رفاق اليوجا بحثا عن سلام ولم أجد السلام المنشود. لجأت للبحث والدراسة علني أجد عندهما ما يشغلني ويحفزني لطرق أبواب أخرى في حياتي أو ما تبقى منها. كنت دائما قريبا مني ولكني لم أكمل مرة واحدة مشواري إلى الهاتف لأطلبك. لم تكن لدي الشجاعة اللازمة للإقدام على هذه المجازفة. لم أخش أن تتركني على الهاتف أو أن تصدر عنك كلمة تذبحني أو تهمس بهمسة تجرحني، بل خشيت أن ترد وأن تجامل وأن تسألني عن أحوالي فأعود إلى الكذب، الكذب الذي جلب لي مع غيره من أخطائي هذا الجحيم الذي أنا فيه”.

ألاعب أطفالا ليسوا من دمي ولا يحملون سماتي، أسهر مع السمر وأنا لست منهم، أغضب وليس من يصالح، أبكي بدموع تبلل مخدتي أو مناديلي وليس من بديل بشري يمسحها بأطراف أصابعه وهي ما تزال عند خدي

***

احتار الأطباء والسحرة وصيادي العفاريت من قادة “فرق الزار”، لم يتوصلوا لعلاج يزيل عني أمراض الرعب والشك والبكاء والأرق. أكثر من طبيب استمعوا لسيرة حياتي وأنا متمددة أمامهم يروني ولا أراهم أثناء الجلسات إلا نادرا. حفظت هذه السيرة عن ظهر قلب من كثرة ما رويتها. صرت استسخفها. اعترفت ذات مرة لطبيب معالج أني فكرت أن أسجلها ليسمعها كل جديد من رواد الطب النفسي الذين ألجأ إليهم. ظن الرجل أني أسخر منه ومن مهنته وانتفض واقفا مشيرا إلى باب مكتبه لأنصرف.

عزيزي أنا أتألم ولا أحد عرف مصدر الألم. أخطأت كثيرا حين ترددت ثم رفضت الأخذ بنصائحك. امتنعت عن الزواج، رفضت كل العروض. أقبلت على عملي بحماسة وتفان. أظن أنني وجدت التعويض فيه. وقعت في الحب أكثر من مرة وخرجت سالمة، أو هكذا كان الظن. كنت مخطئة. أنا لم أخرج من كل المرحلة سالمة. خرجت منها جميعا امرأة بدون رفيق دائم وبدون ذرية. فجأة وجدت نفسي وحيدة. أقلق ولكن ليس على أحد بعينه. أحلم ولكن بغرباء يخلقهم خيالي ومع الشروق أنساهم. ألاعب أطفالا ليسوا من دمي ولا يحملون سماتي، أسهر مع السمر وأنا لست منهم، أغضب وليس من يصالح، أبكي بدموع تبلل مخدتي أو مناديلي وليس من بديل بشري يمسحها بأطراف أصابعه وهي ما تزال عند خدي. أتلقى أحضانا أنعتها بالبلاستيكية لأنها لا تروي شوقا ولا ترطب جفافا واستقبل قبلات، خالية الدسم، لا تشبع جوعا ولا تلبي حاجة ولا ترفع همة أو تبلور أملا.

زهقت من هذه الحياة. نعم أنا السبب. لم أرتب أولوياتي كما كان يجب أن أرتبها. استهنت بقيمة الرجل المناسب وبدوره في حياتي، تصورت نفسي امرأة كاملة ليست في حاجة لعائلة. اخطأت يا صديقي أكثر من خطأ. كثيرات هن الآن في مثل حالي. اليوم عادت الأخطاء التي ارتكبتها ولكن في أدوار وأشكال أخرى، عادت مكشرة عن أنيابها لتحاسبني بعنف منتهزة فرصة ضعفي. عادت بعد أن وهنت القوة الجسدية وتراخت عزيمة المقاومة. عادت وليس هناك من يحميني. عادت بعد فوات الأوان.

Print Friendly, PDF & Email
جميل مطر

كاتب ومفكر مصري مهتم بقضايا الإصلاح والتحول الديمقراطي

Premium WordPress Themes Download
Free Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  "الفرانكوفوبيا".. الغرب يُشيّطن فرنسا لأنها رفضت غزو العراق