من وهران إلى ألميريا، رحلة عبر قوارب الموت

Avatar18001/01/2022
الصحافي موسى أشرشور يعرض عبر "أوريان 21" لقصة شابين جزائريين حاولا عبور البحر المتوسط بطريقة غير نظامية نحو إسبانيا، مثل الآلاف من أولئك الذين يلقّبون بـ“الحرّاقة”. نجح رضا في العبور وهو الآن في فرنسا، في حين أخفق كريم وعاد إلى الجزائر.

“شهدت الجزائر منذ منتصف شهر سبتمبر/أيلول المنصرم موجة جديدة من الهجرة السرية أو “الحرقة”، كما تسمى باللغة العامية، وغير مسبوقة من حيث كثافتها والضجة المصاحبة لها. تشير إحصائيات منشورة في الصحافة الإسبانية إلى حوالي 1400 “حراق” جزائري غادروا البلد من السواحل الغربية باتجاه إسبانيا بشكل أخص في الفترة ما بين 27 سبتمبر/أيلول و3 أكتوبر/تشرين الأول 2021. وحسب سفير الاتحاد الأوروبي في الجزائر توماس إيكرت، فقد عبّر ألف شخص، غالبيتهم من الجزائريين، إلى إسبانيا بين شهر يناير/كانون الأول وسبتمبر/أيلول، انطلاقا من السواحل الغربية للجزائر ومن المغرب. كما تسبب غرق قارب في سواحل أرزيو في 21 ديسمبر/كانون الأول في مقتل سبعة مهاجرين.

في استطلاعنا عن آخر التطورات لهذه الحركة الدؤوبة التي شملت كل أنحاء الجزائر، ركزنا على ولاية بجاية ببلاد القبائل، المعروفة بخصوصيتها السياسية ومقاطعتها لكل الانتخابات منذ انطلاقة الحراك الشعبي في 22 فبراير/شباط 2019. اكتشفنا أن عددا معتبرا من المغامرين هم من شباب هذه المنطقة، مع أن الكثير منهم ميسوري الحال، كما استشفنا ذلك في تحقيقنا، أو طلبة جامعيون يئسوا من حياة الرتابة التي يعيشونها على غرار معظم المتطلعين للهجرة من أبناء جلدتهم.

بعد محاولات قليلة للإبحار من سواحل هذه المنطقة الممتدة على أكثر من 120 كيلومتراً، اتضح للمرشحين للهجرة صعوبة المهمة لكونها جغرافياً بعيدة جداً عن شواطئ إسبانيا ومالياً مكلفة جداً وغير آمنة، خاصة بعد شيوع خبر تيه 23 منهم قبل قرابة عام، فصاروا يفضلون الوجهة الغربية، خاصة وهران ومستغانم وعين تموشنت.

رضا وكريم ينحدران من بلدية أكفادو بولاية بجاية، وقد حاولا الهجرة في مطلع شهر أكتوبر/تشرين الأول 2021 من سواحل وهران. نجح الأول، بعد مغامرة شاقة وسط أهوال البحر المتوسط ومطاردات لا تنتهي فوق الأراضي الإسبانية قبل وصوله إلى التراب الفرنسي عبر الحدود البرية. والثاني أخفق في العبور، بعد أن أوقفت مخافر السواحل الجزائرية مركبهم المتوجه إلى إسبانيا بعد ساعة فقط من الإبحار.

تبكي أمّك ولا تبكي أمّي

يحكي رضا صاحب الأربعة وعشرين ربيعاً، ويقول إنه لم يصدّق ما جرى له منذ صعوده في أول شهر أكتوبر/تشرين الأول مع 12 مهاجرا آخرين في مركب “السريع” الذي سيقلّهم إلى الضفة الأخرى.

كيف تم كل ذلك، وكيف جهز نفسه للرحلة؟

يقول رضا إنه دفع 95 مليون سنتيم (6000 يورو) ثمن الركوب في هذا الزورق السحري الذي أطلق عليه اسم “السريع”، لكونه أسرع أنواع المراكب الموجودة حاليا والمجهز بأحدث المحرّكات كما قيل له، بل وأسرع من سفن المخافر ذاتها.

القانون الوحيد السائد فوق قوارب الموت هو قانون الغاب، أو قانون “تبكي أمك ولا تبكي أمي”، كما يقوله بتعبيره الشعبي، بحيث أن عند أول تمايل للمركب من شدة الرياح، يضطر المرشدون بإلقاء الحمولة الزائدة في عرض البحر

وهل هناك ثمن موحّد لكلّ الركاب؟

يجيب رضا: “لا، فكلّ حسب وزنه!” الثمن يتراوح بين 85 مليون (5300 يورو)، وهو أدنى سعر، و110 مليون في حالة ما إذا ما تجاوز وزن الشخص 100 كلغ. مع العلم أن المرشدين أو المعبّرين يقدّرون ذلك بالعين المجردة ولا حاجة لهم باستعمال أي ميزان. ويُشترط على المرشح للعبور دفع كامل المبلغ مسبقا ـ بأسبوع أو أسبوعين ـ ويقضي ليلته الأخيرة على الأرض الجزائرية في بيوت مهجورة قرب موقع الإبحار.

يتابع رضا حكايته: “حُددت لنا ساعة الإقلاع على الخامسة مساء، بعد مغادرة الرحلة الأولى بنحو نصف ساعة. كُنّا 15 شخصا على المركب، 13”حراق“ بالإضافة إلى قائد المركب ومساعده. بعد ساعة من الطواف على بعد مئات الأمتار، انطلق الزورق بأقصى سرعته. فيما كان عناصر الدرك ومخافر السواحل يرصدوننا من بعيد، إلا أنهم لم يحاولوا اللحاق بنا لأنهم، كما قيل لنا، يعرفون بأنهم لن يستطيعوا إدراكنا مهما فعلوا. في الطريق كان كل شيء هادئا رغم الخوف الذي يسكننا، الخوف من تقلبات الأحوال الجوية، ومن سلوك المرشدين الذين لا يطمئن إليهم أحد لأنهم معروفون بغطرستهم ومعاملتهم الخشنة مع الركاب، وأن لا رحمة في قلوبهم. بدليل أنهم عندما التقينا سفينة جانحة في عرض البحر، نزل المرشد مع معاونه لنهبها وأخذ ما وجدا فيها من معدات ومحركات صالحة”. كما لم يغب عن ذهن رضا ما يشاع عن تصرف هؤلاء عند أول ترنح للمركب بسبب العواصف، وأن القانون الوحيد السائد فوق قوارب الموت هو قانون الغاب، أو قانون “تبكي أمك ولا تبكي أمي”، كما يقوله بتعبيره الشعبي، بحيث أن عند أول تمايل للمركب من شدة الرياح، يضطر المرشدون بإلقاء الحمولة الزائدة في عرض البحر..

عند وصولهم إلى مقربة من السواحل الإسبانية بعد ثلاث ساعات و25 دقيقة من السفر غير المنقطع، طُلب من الركاب استكمال المشوار المتبقي سباحة، لكن وجود نساء وأطفال بينهم لم يسمح بذلك. نزلوا في شاطئ “خوسو” بإقليم ألميريا، في مكان معتم لكنه معروف عند شبكات الهجرة السرية، خاصة لدى المغاربة الذين تعوّدوا المرور على ذلك المكان لعرض خدماتهم على المهاجرين لمساعدتهم ـ بمقابل طبعا ـ على عبور الأراضي الإسبانية، على طريقة سائقي التاكسي غير الشرعيين على مشارف محطات المسافرين في الجزائر أو في المغرب. ومن طرائف المكان أيضا أن في جواره فندق يحمل اسم “ألخيريا” (الجزائر بالإسبانية).

تهاون في الحدود

وهنا تبدأ المحطة الثانية من مغامرات رضا. على بعد مئات الأمتار، لحق به عناصر من حراسة الحدود الإسبانية. وفي اللحظة التي كان هؤلاء يتأهبون لاقتياده إلى مركز العبور، حيث يحتشد المهاجرون بالعشرات ومن كل الجنسيات في انتظار ترحيلهم، انتهز رضا فرصة التفات الحراس لمجموعة أخرى طلعت للتو من الشاطئ وانفلت من قبضتهم وهرب بعيدا، ليقضى ليلته تحت جسر وهو منهك القوى وكل ثيابه مبللة بمياه البحر المثقلة بالأملاح. “لم أحس بنفسي وكنت كالمخدر أو فاقد للوعي، وأصبحت أتيه في الطرق دون هداية. لكن سرعان ما تفطنت لنفسي، وببعض النقود التي حملتها معي، اشتريت ملابس جديدة حتى لا أبدو في هيئة ”الحراق“ وانكشف لقوات الأمن”.

إقرأ على موقع 180  أين تنفجر قنبلة الموقوفين الأجانب في تنظيم "داعش"؟

من ألميريا انتقل إلى أليكانت ثم إلى برشلونة، الممر الإلزامي لكل المهاجرين غير الشرعيين. ومن هناك، تعتاد نوعية أخرى من المرشدين اصطيادهم ليعبروا بهم الحدود البرية مع فرنسا، ويتم الاتصال بهم عادة عبر تطبيق في الأنترنت. كان رضا يعرف ذلك، لكنه فضل الاتصال بصديق له من فرنسا جاء على متن سيارة لينقله إلى التراب الفرنسي دون أي صعوبة في المراقبة الحدودية، كما يؤكد ذلك، مشيرا لضعف يقظة حراس الحدود الإسبان، على عكس ما هو جاري من الجهة الأخرى من الحدود، حيث الرقابة جد مشددة، مع العلم أن القانون الفرنسي يعاقب المعُبرين بثلاث سنوات سجن و50 ألف يورو غرامة مع تجريد المهاجر غير الشرعي من أوراقه.

وبمجرد وصوله إلى فرنسا، وجد رضا الرعاية الكاملة من أصدقاء له سبقوه إلى هذا البلد، وهو الآن يحس بالراحة والاطمئنان، لكنه لا يزال يحس بمرارة المغامرة التي خاضها والتي يقول إنه لن يكررها أبدا لو خيّر أن يعيدها مرة أخرى، لأن الموت كان يتربص به في كل لحظة، وكان يفكر في والدته العزيزة التي ظلت مكلومة برحيله. هذا لا يعني أنه نادم على ترك الوطن، فالحياة هناك لم تعد تطاق في نظره، رغم أن وضعه الاجتماعي في الجزائر كان جيدا، بحيث كان يدير أعمالا تجارية وعقارية ناجحة تدر له ولعائلته أموالا تكفل لهم حياة رغدة. لكن “نمط الحياة” هناك لم يعد يناسب طموحات الشباب، على حد تعبيره.

على بعد 80 كلم، تعطل فجأة ودون سابق إنذار محرّك المركب، فدّب الرعب في نفوس الركاب. رعب مزدوج: من خطر الغرق ـ الذي يحصل كثيرا في مثل تلك الحالات ـ ورعب من اعتراضهم من قبل سفن البحرية. وهذا ما حدث فعلا

كلمة شرف

أما كريم، 28 سنة، المتخرج من الجامعة بشهادة ماجستير في الأوتوماتيك والأنظمة، فلم يسعفه الحظ أن يصل إلى الضفة الأخرى، وسلواه الوحيدة أنه نجا من السجن وعاد سالما من مغامرة خطرة. استقل كريم نفس القارب ـ “السريع” ـ الذي عبر على متنه ابن منطقته رضا، في يوم 5 أكتوبر/تشرين الأول 2021، من شاطئ “العيون” القريب من مدينة وهران. صعد مع 6 ركاب آخرين، من بينهم امرأة أخذت معها ثلاثة أطفال، أصغرهم لا يتعدى الرابعة من عمره، بالإضافة إلى الدليل ومساعده. هو كذلك دفع 95 مليون سنتيم، على غرار رضا. أبحروا في الثامنة ليلا في جو هادئ، وبعد مرور قرابة الساعة، على بعد 80 كلم، تعطل فجأة ودون سابق إنذار محرّك المركب، فدّب الرعب في نفوس الركاب. رعب مزدوج: من خطر الغرق ـ الذي يحصل كثيرا في مثل تلك الحالات ـ ورعب من اعتراضهم من قبل سفن البحرية. وهذا ما حدث فعلا.

يحكي كريم: “عندما اعترضتنا حراس السواحل الجزائريين عرفنا أنها النهاية. نقلونا دفعة واحدة على متن سفينتهم بعدما أخذوا منا هواتفنا، لكنهم أحسنوا معاملتنا ولم يستعملوا معنا العنف كما يحدث عادة مع ”الحراقة“، بل أعطونا حتى بعض الأكل ـ برغم أنه في الحقيقة لا يتعدى قطعة من الخبز وقليلا من البطاطس. وصلنا إلى مخافر السواحل في ”بوصفر“ بعد ساعة ونصف ـ وهذا دليل واضح على أن ”السريع“ كان أسرع من مراكب البحرية ـ وبتنا في المخفر إلى غاية الغد، لنُسلمّ بعد ذلك لفرقة الدرك الوطني التي استنطقتنا لمدة أكثر من خمس ساعات متواصلة. ثم اقتُدنا إلى محكمة مدينة وهران، حيث كان من المقرر أن نمثل أمام وكيل الجمهورية، بعد ليلة قضيناها في الزنزانة بلا أكل ولا شرب، عدا الأكل الزهيد الذي أعطي للمرأة الي كانت معنا ولأبنائها الصغار”. من خلال تجاذب أطراف الحديث معها، علم كريم بالحقيقة المرة التي دفعتها إلى المخاطرة بحياتها وحياة فلذات كبدها، وهي أنها بعد خصام مع زوجها، وجدت نفس من دون عائل ولا مأوى يأويها في ضواحي مدينة وهران. فلم يبق لها سوى الالتحاق بشقيق لها مقيم في إسبانيا بأي ثمن.

لا تعويض

“اتفقنا جميعا على عدم الكشف عن هوية الدليل ومساعده لوكيل الجمهورية، لأننا كنا نعرف أنهما معرّضان لعقوبة ثقيلة. لكن ومع إصرار ممثل النيابة، انكشف في الأخير أمر المرشدين اللذين كان الوحيدين من ضمن المجموعة المنحدرين من منطقة وهران، وحكمت عليهما المحكمة بثلاث سنوات سجن نافذ وغرامة قيمتها 100 مليون سنتيم (6 238 يورو). أما بالنسبة لنا السبعة، فقد كانت العقوبة رمزية، ولا تتعدى غرامة ثلاثة ملايين سنتيم. عند خروجنا من المحكمة وإطلاق سراحنا، كانت الساعة تشير إلى السابعة مساء. وجدنا أقارب المتهّمين محتشدين أمام باب المحكمة وكاد يقع شجار معنا لأن بعضهم شك في وشاية جاءت من صفوفنا”، يقول كريم.

يحاول كريم اليوم أن ينسى خيبته ومرارة تجربته، بعدما ذاق بنفسه أهوال المغامرة وأحس بعذاب أهله لما انقطعت عنهم أخباره لعدة أيام. لم يندم على ما فعل، لأنه كان يرى أن ركوب البحر عبر قوارب الموت ملجأه الوحيد بعد انسداد كل الأبواب في وجهه وفشل كل محاولاته المتكررة للحصول على تأشيرة دخول إلى فرنسا، كطالب أو كسائح. هل سيعيد التجربة مرة أخرى لو أتيحت له الفرصة؟ يقول كريم أنه يحتفظ بحقوقه لركوب أحد المراكب الذاهبة إلى إسبانيا، حسب ما طمأنه الوسيط الذي اتفق معه. فمن “بنود الاتفاقية” أنه في حالة إجهاض الرحلة، لا يعوّض الراكب وإنما يكون من حقه الركوب في رحلة أخرى أو أن يركب شخص آخر في مكانه.. ما هي الضمانة على ذلك؟ لا ضمانة سوى “كلمة الشرف”.

(*) بالتزامن مع “أوريان 21

Print Friendly, PDF & Email
Avatar

Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  في زمن كورونا: حكومة دياب تهتز ولن تسقط