“سماحة السيد حسن نصرالله المحترم،
ترددتُ كثيراً قبل كتابة هذه الكلمات لاعتبارات عدة. كوني أعرف جيداً ومسبقاً أن الانتقادات لن توفرني، فبعضهم قد يعتبرني “ساذجاً، وغير مدرك تماماً لتعقيدات تركيبة الداخل ومتجاهلاً عمق الامتدادات للخارج”، والبعض الآخر ـ من موزعي شهادات الوطنية ـ قد يسارع إلى إطلاق شر الاتهامات من “العمالة” و”التبعية” إلخ.. وبالتالي الدخول في مهاترات ومناكفات ومزايدات لا جدوى منها.
لذلك لا بد من التعرف على كاتب هذه السطور وسيرته قبل التوقف عند الدوافع إلى كتابتها وأسباب التوجه إلى سماحتكم في هذه الرسالة الشخصية وفي هذا الوقت بالذات.
من هو كاتب هذه السطور؟
لم أُعرِّف يوماً عن نفسي كما أفعل هنا، ذلك أنني لست في معرض المباهاة بالذات، بقدر ما أرغب بتفهم الموقع الذي أنطلق منه في رسالتي وعلى أي أساس بنيت مسيرتي الشخصية والمهنية.
محطة أولى:
في صيف 1972، قررت قيادة الجيش اللبناني أن تستبدل لطلاب شهادة البكالوريا ـ القسم الثاني المخيم التدريبي العسكري الصيفي ـ تتويجاً لدروس التدريب خلال الأعوام الدراسية في المرحلة الثانوية ـ بمخيم تنموي في مختلف المحافظات اللبنانية، وذلك بهدف تحقيق الانصهار الوطني للطلاب، إضافة إلى التدريبات العسكرية، والقيام بانشطة إنمائية وإجتماعية خصوصاً في القرى اللبنانية النائية. وشاءت المصادفة، وأنا تلميذ الفرير ثم الرهبان في جونية، أن يكون المركز الذي سألتحق به في المدرسة الرسمية في محافظة الجنوب وفي.. بلدة البازورية بالتحديد! (وهي مسقط رأسك والقرية المحببة إليك يا سماحة السيد).
لقد ظنّ بعض رفاقي أن كوني إبن ضابط عضو في مجلس قيادة قوى الأمن الداخلي سأطلب إعفائي من هذه المهمة أو أقله نقلي إلى مكان ما قريب من جبل لبنان، وبالتالي إمكان اصطحابهم معي! لكن خيبتهم كانت كبيرة، فلا والدي عرض عليّ هذا الأمر ولا أنا طلبت “واسطة” في هذا الإتجاه.
وعلى رغم الظروف الصعبة المحيطة بتلك المهمة، فقد رأيت فيها تجربة مفيدة وغنية جعلتني أتحسس الواقع التنموي الصعب لهذه المنطقة المحرومة والذي لم يؤثر على الشعور الوطني لأهلها المحافظين على طيبتهم وتمسكهم بانتمائهم إلى أرضهم.
محطة ثانية:
في العام 1973 وبعد التحاقي بكلية الحقوق في جامعة القديس يوسف في بيروت، شاركت في معترك الإنتخابات الطالبية وتمكنت مع زميل لي (تعرض لاعتداء يومها) من الفوز في صفنا في السنة الأولى. واللافت للإنتباه أننا خضنا هذا الاختبار من خلال تيار “مجموعة مستقلة” في وقت كانت الانتخابات في الجامعة اليسوعية تتم بين أبناء وأهل البيت الواحد، أي الأحزاب المسيحية والكتل المناطقية. المفارقة الكبرى وهي سابقة، أن هذه المجموعة المستقلة استطاعت أن تُوصل إلى رئاسة تعاونية طلاب كلية الحقوق طالباً في السنة الرابعة وهو مسلم سني بيروتي!
محطة ثالثة:
في العام 1976، عندما اشتد الحصار على الفلسطينيين في مخيم تل الزعتر نظم الصليب الأحمر الدولي، بالتعاون مع الصليب الأحمر اللبناني، عملية كبيرة ومعقدة وخطرة لإجلاء الجرحى والمدنيين المتقدمين في السن والنساء والاطفال. وقد استعان الصليب الاحمر بشباب فرقه العاملة في الاسعاف الاولي. يومها، جاءت تحذيرات وتهديدات الى شباب “المنطقة الشرقية” (المسيحية) من أي مشاركة في العملية تحت طائلة البقاء في “المنطقة الغربية” إذا إنتقلوا إليها مع من يتم اجلاءهم إلى هناك. وكنت من ضمن المجموعة الصغيرة التي لم تأبه لتلك التحذيرات. وكانت المفاجأة أنني تلقيت بعد مدة رسالة شخصية من مدير العمليات في الصليب الأحمر الدولي في جنيف للتهنئة على “مشاركتي الفعالة” في ما وصفها “أدق وأخطر عملية قامت بها مؤسسة الصليب الأحمر الدولي منذ زمن بعيد”. وبعدها بأعوام طويلة ولدى تسلمي مهامي كمدير لاذاعة مونت كارلو ومستشار رئيس اذاعة فرنسا الدولية تمكنت من بث برامج الاذاعة على موجة الـ”اف. ام.” في الأراضي الفلسطينية من خلال عملية التفاف قانوني وعدم المرور بالسلطات الاسرائيلية (لانها تملك سلطة الوصاية على البث المرئي والمسموع) عبر توقيع الاذاعة اتفاق تعاون مباشر مع جامعة بيرزيت التي كان لها ترخيص بموجة خاصة بها. مما اغضب الاسرائيليين فامتنعوا عن استقبال أو عقد أي إجتماع مع رئيس مجلس إدارة الإذاعة تعبيراً عن امتعاضهم وسخطهم من تجاوزهم.
محطة رابعة:
في العامين 2000 (تحرير الجنوب اللبناني) و2006 (صد العدوان الإسرائيلي على لبنان)، قمت من موقعي الاعلامي المتقدم بواجبي المهني إضافة إلى إلتزامي الوطني غير آبه بتحفظات البعض وانتقادات البعض الآخر.
هذا “النفس الممانع والمنتفض” لديَّ متجذر في جيناتي العائلية، فمنذ أعوام قرأت لأحد كبار المؤرخين لحقبة لبنان التاريخية المواكبة لـ”ثورة طانيوس شاهين” أن الأخير إعتمد خلال تنظيم حركته على مجلس أركان وكان أحد أجدادي وأحمل اسمه (بشاره غانم) من بين هؤلاء الأركان منتدباً من مدينة جونية!
لماذا كل هذه التفاصيل التي قد يراها البعض مملة أو في غير موقعها؟
أوردت ذلك فقط للقول إن مواقفي الحاضرة تبقى مطبوعة في تجربتي الماضية واقتناعاتي الحالية وهي التي تسيِّر تطلعاتي المستقبلية.
لماذا الكتابة الآن والتوجه مباشرة الى سماحتكم؟
إن سرعة الإنهيار في لبنان، إضافة إلى تداعياته المتعددة الأبعاد، من جهة، والتمسك بالانتماء لهذا الوطن والخوف على ضياعه كنموذج مميز في هذا الشرق، كل ذلك جعلني ألجأ الى “سلاح” الكلمة، وهو الحيازة الوحيدة التي أُحسن استعمالها، وبالتالي الدخول في مغامرة الكتابة لعل وعسى تكون هناك “أعجوبة ما”.. وأنا الإنسان المؤمن بربه ووطنه.
لا صفة لي في التوجه إلى سماحتكم إلا من موقعي كمواطن يريد نقل ما يصل إليه من همس وهواجس. لذلك، وجدت نفسي أخاطبكم مباشرة وبصراحة من دون موارابة ولا مراوغة ولا واسطة، فأنت يا سماحة السيد، كما يردّد كثيرون “صاحب الحل والربط.. والكلمة الفصل”.
والمصارحة تكون بتسمية الأشياء بأسمائها وسرد الوقائع على حقيقتها انطلاقاً من أن الكذب المستمر والتكاذب المشترك أوصلا الوطن إلى ما وصل إليه في يومنا هذا.
من حيث الأسلوب:
في التعاطي؛ تصرفات كثيرة تراكمت ومواقف متعددة تزايدت محدثة شرخاً واسعاً داخل مكونات المجتمع اللبناني بكل طوائفه ومذاهبه وانتماءاته، فلغة التعالي والاستقواء والتحدي ولّدت شعوراً متعاظماً يمتزج فيه السخط والاشمئزاز والأخطر البغض والحقد والكراهية. وكأن التوق إلى الطلاق أصبح لدى شريحة كبيرة من أبناء الوطن الواحد.. أبغض الحلال!
من حيث المضمون:
1 – أبعد من ضجيج بعض أصحاب المصالح الضيقة والأبواق المشبوهة والغيارى المتملقين، هل بلغتكم، سماحة السيد، أصداء هذه المعاناة الشعبية الموجعة والمذلة والمهينة القابلة في أي وقت للانفجار الداخلي والاستغلال الخارجي؟ صدقاً، كل صواريخ الأرض لن تنفع في تجنيب وطن متهالك حرباً خارجية مدمرة ولا اقتتالاً داخلياً بغيضاً، لا سمح الله؟
2 – هل سمعتم يا سماحة السيد تهديدات صدرت عن شخصية دينية قريبة منكم ودعوتها الى من لا يجاريها في رأيها ولا يعجبها سلوكها ان يبحث عن حل آخر.. هل هو الرحيل أو التهجير أم ثمة نظرية “قبع” لم نتعرف عليها بعد؟
3 – هل سمعتم يا سماحة السيد بالتصنيفات التي أطلقتها شخصية حزبية وازنة وهي تفرّق بين أبناء الوطن الواحد؛ بين “أسياد” وكأن الآخرين، باتوا بالمقابل، من صنف “العبيد”. تمنى كثيرون وأنا منهم، لو أن تلك الشخصية حافظت على وقارها أولاً وأظهرت نفس العنفوان في مواجهة “أسياد المال والفساد” القابضين على أنفاس العباد وأملاكهم وودائعهم؟
4 – هل سمعت يا سماحة السيد صرخة ابناء بيئتك وأهل بيتك بلسان المواطن “محمود” (عرّف عن نفسه كمقاوم) وقد إختار أن يرفعها عالياً وبجرأة ومباشرة عبر أثير قناتكم المحببة (المنار) حيث علّق على برنامج كان يُبث على الهواء ويتعلق بنقاش أحد رجال الدين عن حلاقة الذقن إن كانت حلالاً أو حراماً. لقد قال هذا المواطن بحرقة ووجع ظاهرين في مداخلته: “مع احترامي لهذه البرامج الحلوة التي نحبها ونتثقف دينياً فيها، الشخص الموجود في بيته الآن بلا كهرباء وبلا مازوت وبلا اكل وبلا دواء حلال او حرام، الذي سرق مصرياتنا بالبنوك حلال او حرام، يلي بيعمل فينا هيك حلال او حرام، تنكة البنزين باربع مئة الف حلال او حرام، أريد ان اسأل هل وصول سعر الدولار الى 33 ألفاً حلال او حرام، ما بدنا نشتغل الآن بالذقن. نحلقها او لا نحلقها هيدي امور لما تكون الناس عايشة، الناس عمتموت من الجوع، وحطوا برامج تتثقفوا الناس كيف بدها تعيش وكيف تبقى على قيد الحياة بعدين منفكر اذا منحلق دقنا او لا نحلق. وانا محمود… من هذا الشعب انا مقاوم قد العالم كلها. ماتت العالم، اختنقت العالم، انسرقت العالم، ما حدا بيحس بالفقير الا الفقير، الغني ما بيشعر بحدا”.
5 – هل بلغتكم يا سماحة السيد تصرفات بعض المتهورين وأصحاب الرؤوس الحامية الذين يتحركون بفظاظة وبفوقية وبفائض قوة في غير محله، فيترجمون ذلك اعتداءً على الممتلكات وكأن “طريق القدس” تمر، حسب هؤلاء، في بعض البلدات والقرى اللبنانية، وتحديداً المسيحية؟
وللتذكير فقط: المدارس والأديرة والمنازل والعائلات في هذه المناطق المسيحية بالذات فتحت أبوابها وقلوبها بعفوية للنازحين من مناطق العدوان الاسرئيلي في حرب تموز 2006، والتخوف كبير من أن تترك مثل هذه التصرفات جرحاً موجعاً وشرخاُ عميقاً بين أبناء المنطقة الواحدة والوطن الواحد.
6 – هل سمعتم يا سماحة السيد احاديث الجاليات اللبنانية المنتشرة في منطقة الخليج العربي (إضافة إلى افريقيا) التي تُعبّرعن قلقها وتخوفها المتعاظمين من الهجمة الاسرائيلية في هذه البلدان ومنافسة اللبنانيين في أعمالهم ومشاريعهم ومصالحهم؟
رحم الله العميد ريمون اده، “المقاوم الأول والأشرس للعدو الإسرائيلي” والذي يمثل في نظره “الخطر الأكبر على كيان لبنان وديمومته”. وهو الذي كان يدعو اللبنانيين الى مطالعة وقراءة كتابات ومذكرات زعماء الصهيونية من بن غوريون الى موشيه شاريت وهو يحذر من الاطماع الاسرائيلية ليس فقط بالارض والمياه اللبنانية بل ايضاً بثروة لبنان البشرية من خلال مخططاتها الهادفة الى مزاحمة المنتجات الزراعية والصناعية اللبنانية، إضافة إلى ضرب الانتشار اللبناني في المنطقة العربية والحلول مكانه.
واستعيد هنا ما قاله العميد اده قبل حوالي أربعين عاماً: “لماذا نسيء الى علاقاتنا العربية، وجميعنا يعلم ان مصلحة لبنان هي مع الدول العربية، سواء أحببنا هذه الدول ام لم نحبها! أنا على يقين أن اللبناني عموماً والمسيحي والماروني خصوصاً سيكتشف يوماً مصلحته وأطماع اسرائيل بمنافسة لبنان. منذ العام 1952 قلت في مجلس النواب إن اسرائيل تريد أن تحل محل لبنان في المنطقة. وأن تجعل من حيفا بديل بيروت. وتريد أن تتصالح مع الدول العربية عبر لبنان. ونتحوّل نحن الى قرية صغيرة“.
وتابع العميد اده :”اللبناني إما أن يكون مرتبطاً ببلاده كلها، وليس بمنطقة، وإلا فإن الأوضاع لن تتغير. التغيير يجب أن يكون من أعلى الى تحت. ويجب أن يبدأ بالحكم والحاكم. الحاكم يجب أن يكون موثوقاً به، وكي يكون موثوقاً به، يجب أن يكون لبنانياً مئة في المئة. ومن دون هذا لن تكون هناك ثقة. ولن ينتهي الوضع التقسيمي والطائفي في البلد. أما الحكم فيجب أن يكون قوياً وسيداً على أرضه، ولا يقبل منافساً له في السيادة بقوة السلاح. فالسلاح يجب أن يبقى حكراً على مؤسسات الدولة العسكرية والأمنية. وأي وجود مسلح خارج ذلك سيقود حتماً الى فشل الحكم في بسط القانون“.
سماحة السيد،
القرار قراركم. يكفي ان ترفع ليس يدك فحسب بل اصبعك وتحسم خيارك وتصارح شعبك: اي جمهورية تريد؟ اي دولة تريد؟ اي لبنان تريد؟.. انها لحظة حقيقة ووقفة ضمير أمام الله والتاريخ.
وأنا أكتب هذه السطور، والوطن يعيش وسط حالة من الجنون الشامل داخل الطبقة السياسية والمنظومة المالية والمتجه بلبنان نحو “الجحيم المدمر”، أسترجع كلمات اغنية باتت انشودة شهيرة لفنان ملتزم ومغني فرنسي كبير هو ميشال ساردو، الذي أمام رؤية بوادر إنهيار امبراطورية الإتحاد السوفياتي من الداخل وتردي أوضاعها المزرية في الثمانينيات الماضية، أطلق أغنيته (كلماتها وتوصيفاتها تحاكي الواقع اللبناني اليوم) بلازمتها الشهيرة باللغة الفرنسية ومتوجها بها الى قائد الثورة البلشفية فلاديمير ايليتش لينين:
!“Lénine… relève-toi, ils sont devenus fous”
ما ترجمتها “لينين.. انهض، لقد أصبحوا مجانين”.
فاسمح لي أن أنهي كلماتي متوجهاً إليكم:
سماحة السيد.. “انهض، لقد أصبحوا مجانين”!