عشنا في قرنين وكانت حصتنا هذا الركام الوطني والاقليمي والعربي. فلنمتنع عن التحليل وادعاء البراءة. فلنخرج من حصاناتنا التي صنعناها. فلنعترف أننا كنا أقزاماً، وأن الذين فازوا علينا، هم أصنام وجلاوزة وحدثني فلان عن فلان قال.. لقد كنا الفراغ. أمعنّا في توليد الضجيج. صلبنا الوعي على زمن لا يتوقف ويقوده آخرون. من غرب جاؤوا. من شهوات فحولية، طردت الله وأحلت محله رب المال. ونحن للبيع والشراء كنا. حلمنا ولبسنا ثياب الحداثة. حكينا حكياً أنيقاً جميلاً خلاباً. كتبنا ودبجنا وأنشدنا بحماسة وحناجر ولوّحنا بقبضات. لُوحقنا وعُذبنا. حاكمونا وقتلوا منا وفينا كل جديد سديد. دفتر علاماتنا أصفار تجمع إلى أصفار. لم ننجز جملة فعلية. أدخلونا في المجاز. جعلونا ضحايا وحوّلوا بعضنا نعاجاً وحكموا فينا من خاننا. نعم منَّا جاء الجور. الدكتاتوريات من صنع أيدينا. التخريب كان تديَّناً مغلقاً. الأحزاب أسّست لجديد، ولكنها إقتدت بالأنظمة. أحزاب بلا حريات، إعلام يتشدق بالجديد من الأفكار والعقائد. أقاموا بنية فوقية متينة، تعود جذورها إلى ثورات فكرية وسياسية وإجتماعية، لكنها في الممارسة، تخلفت، وعلى عجل دخلت السياسة، ومشت لصيقة بطوائف وأنظمة.. لا تشبههم. أفكار قومية ناصعة، ماركسية مبرمة، تقدمية بينّة، إلى آخره.. برامجهم للقراءة، و”نضالهم” من أجل حفنة من سلطة، أي سلطة!
في مراجعة الذات، يلزم الصدق والاعتراف. الكوارث التي حلّت بالأمة والمحيط والأوطان، لسنا براء منها. باختصار، تفردنا في القول والفكر، وتعسكرنا مع أنظمة العسكر والأمن، وتطيَّفنا مع حراك وصراع الطوائف. وخضنا كل المعارك من أجل حفنة بائتة من السلطة، وغالباً كانت حصة الأحزاب التقدمية والعلمانية والنهضوية، الوقوف على الأبواب، وهو ما أطلق عليه جورج حاوي: “كنَّا حمار العرس”. الباب آخر مكان. لا أحد يتخطى الحواجز. والأسوأ، عندما لجأت هذه القوى العقائدية والرسولية إلى السفارات، فباتت مأمورة، كما هي الحال اليوم: السفارات تحكم لبنان. وهذا تقليد “وطني” يعود إلى زمن القناصل.
باختصار صفر على عشرين.
الأدلة كثيرة: كانت عقائدنا وأحلامنا شيقة. وعدنا أنفسنا بأن نخدم بثبات وإيمان وممارسة، قضايا حيوية، تنقل الكيانات العربية من الارتهان، إلى غرب إلحاقي، وماضٍ متخلف وبائس. كان المسار صادماً. نجح الغرب في القبض على المصير العربي، كما فازت الرجعية المرتبطة بماضٍ سحيق، في إشعال حروب، لم تهدأ قصفاً وقتلاً حتى اللحظة.
لم يتحقق من أحلامنا شيء: لا وحدة. لا حرية. لا اشتراكية. لا ديموقراطية. لا ثقافة. لا مواطن. لا عدالة. لا تنمية ولا تحرير ولا.. لكل ما خدمناه وظننا أننا على وشك الوصول. فإذ بالوصولية الحزبية تقطع الطريق على النهضة
باختصار أيضاً؛
انبرت القوى المستنيرة في ورشة ثقافية جذرية. الهدف، إقامة دولة قوية حديثة موحدة، برباط قومي رداً على التجزئة التي فرضها الاستعماران الفرنسي والبريطاني، ورداً كذلك على استيطان صهيوني إلغائي في فلسطين.. نشأت اندية وحلقات ومنابر ثقافية طليعية، في كل من مصر ولبنان وسوريا وفلسطين وغيرها. تبعها نشوء كيانات فكرية ونقاشات تاريخية، وطرح ما كان الغرب قد انجزه لصالحه (فقط لصالحه). على أثر ذلك، انبثق من هذا المخاض الفكري الخصب، برنامج تحديث وتعميق الوعي في المجتمع لإنجاز دولة، او دول، على أسس المواطنة التي ينتمي فيها الانسان أولاً، إلى أرضه وشعبه، متبنياً الديموقراطية والعدالة والتنمية، اذ لا دولة تقوى إلا باقتصاد قوي وناجح وعدالة في التوزيع.
باختصار كذلك؛
زاغت الأحزاب عن قضية أساسية: ليس الهدف الوصول إلى السلطة أبداً، وغداً. البناء السياسي المتين يبدأ من التأسيس على القاعدة. الأحزاب العقائدية برمتها، أغفلت النهوض بالمجتمع وتغيير قواعده الرثة التي تعود إلى ماض منكوب وأفكار غبية وعقائد لا تمت إلى العصر بصلة.. سقطت الأحزاب والتكتلات القومية النهضوية في أتون الصراع على السلطة. أنجزت القومية العربية حضورها في سبع دول عربية.. كلها قومية عربية.. ودخلت في حروب في ما بينها. سوريا والعراق نموذجاً. السودان وجنوبه كذلك. إلى آخره. والأفدح من كل ذلك، أنها عندما بلغت السلطة بانقلابات عسكرية، وهي أسوأ الوسائل وأفدحها، أقامت نظاماً امنياً شرساً وملعونا، كتم أنفاس الناس، وتحولت العقيدة المعلنة، إلى ممارسة بواسطة السجن والتعذيب والبلطجة. غابت الحرية، اغتيلت العدالة، الشعب كله في سجن كبير. النقد ممنوع. حتى الاقتراح توريط في ما لا يعنيك. يومها، وحتى اليوم. ترحم كثيرون على الحكم الرجعي.
والغريب في هذا المسار الواقعي، والمضاد للزمن الحضاري، أن الكيانات المحكومة بعائلات وراثية، وسلطات متناسلة من ماضٍ عتيق جداً، لم تصب إلا نادراً، فثابرت على نهج مختلف وجامد. الامارات والملكيات والسلطنات، اقوى من كل الدول العربية، التي تنوء بنتائج فشل تلو فشل. يُقال، والقول حق، إن ضمانة بقاء هذه المشيخات يعود إلى ارتمائها في أحضان حماتها. صح. ولكن إذا قورنت مسيرة التخلف بمسيرة التقدم بشعارات الحداثة، كان الفوز الرجعي “الباهر” والمجدي والمستقر والقوي، فيما ابتليت الأنظمة العسكريتارية بأفشال وهزائم لا طاقة لشعب أن يتحملها قرناً من الزمن.
الذين نذروا أقلامهم وأفكارهم، منذ نهايات القرن التاسع عشر، وتحديداً في مصر وسوريا ولبنان، لفجر عربي جديد، خابوا، بل اغتيلوا. كانوا على حق. أضاءوا السراج. كتبوا. بحثوا. تصدوا. وفازوا في رسم علامات الطريق. هذا الجهد كان يُحارب من الرجعيين الانحطاطيين الدينيين، وكان يُحارب من الغرب الذي يتغنى بالحداثة ويمارس كل شناعات الاستعمار: تذكروا ميسلون، دمشق، فلسطين، ليبيا، السودان، لبنان، العراق، الجزائر.. واعترفوا اننا كنا امام عدوين متعاديين: الغرب الاستعماري لكل المعايير، بما فيها ثقافة الالغاء والتفوق؛ والعرب الذين شدوا رحالهم من القرن العشرين، وعادوا إلى السلف وما قبل السلف. هذان القطبان، ما زالا حتى اليوم يشعلان الارض العربية بفتن تتوالد بسرعة، ونتناطح بعبقرية القتل الذي قلَّ نظيره في مسار البشرية. هناك عملية ابادة للعرب. عرب اليوم ليسوا عرباً ابداً. العروبة قُتلت. القومية قتلناها. الحرية أبيدت، العدالة استبدلت بالهراوة. التنمية نحيّت لصالح طبقة النهب والسرقة والفساد وتكديس الرساميل في مشاريع يرعاها الغرب، ويطيح بها، كل تنمية معتدلة، بأفق الكفاف.
هكذا نحن اليوم. على الأرض يا حكم. فلنعترف بفشلنا المريع والساحق. لم يتحقق من أحلامنا شيء: لا وحدة. لا حرية. لا اشتراكية. لا ديموقراطية. لا ثقافة. لا مواطن. لا عدالة. لا تنمية ولا تحرير ولا.. لكل ما خدمناه وظننا أننا على وشك الوصول. فإذ بالوصولية الحزبية تقطع الطريق على النهضة.
عندما فرغت الساحة من كل ما يمت بصلة إلى مشروع النهضة الذي أقيل نهائياً من التداول، اسرع المشروع الاسلامي لسد هذا الفراغ ولإطلاق رصاصة الرحمة على القوى التقدمية والديموقراطية، ونجح في تغيير ثقافة المجتمع بالماضي الديني والمذهبي والشللي
وخاتمة المسار الشائك والشاق، يتجلى في ما أسفرت عنه الوقائع.
كانت “إسرائيل” مشروعاً مستحيلاً، صار العرب والعروبة مشروعاً خيانياً. التطبيع طبيعي جداً بين مغتصبين. لا أحد أبداً استفتى “مواطنيه” أو أتباعه في خطوات التطبيع. “إسرائيل” فعلتها ونجحت وفوجئت بحماسة دول شاهقة ودول مارقة.
الصراعات الدامية حذفت بسهولة كل شعارات ومسارات الحداثة.
مفردة القومية لم تعد لغة محكية. ألا يظهر أن فلسطين اختصاص “إسرائيلي”، اميركي، “عربي”. ألا يلاحظ أكثر، أن العداء لـ”إسرائيل” زحل ليصير عداء لفلسطين. من كان يتصور أن تصبح الخيانات علنية ومرحباً بها، ومن يتجرأ على نقدها يصاب بعُطب الفشل عن الكتابة والقول والهمس حتى؟
كيف بلغنا هذا الجحيم؟
أولاً؛ الغرب رابض من قرن على مكامن القوة في هذه المنطقة. نفطنا لهم. غازنا لهم. شواطئنا لهم. اموالنا في مصارفهم.. هذا الغرب فاجر واصولي وقرصاني. إنه “كاوبوي”، والمنطقة طريدته.
ثانياً؛ فشلت النهضة باحزابها وبتياراتها المتعددة، من وسط ويمين معتدل ويساري وماركسي، في أن تغير ثقافة الشعب، بالانتاج والتوعية بدل الاستعجال السياسي بركوب السلطة.
ثالثاً؛ عندما فرغت الساحة من كل ما يمت بصلة إلى مشروع النهضة الذي أقيل نهائياً من التداول، اسرع المشروع الاسلامي لسد هذا الفراغ ولإطلاق رصاصة الرحمة على القوى التقدمية والديموقراطية، ونجح في تغيير ثقافة المجتمع بالماضي الديني والمذهبي والشللي. المسلمون اليوم فرق متنابذة، ولكن الاسلحة المتنوعة احتلت الساحة العربية والاقليمية. الدين سلاح رهيب عندما يحتل الحيز السياسي والاجتماعي.
رابعاً؛ رسا المشهد أخيراً على إنقسام سياسي مذهبي. تيارات سنية جارفة وصارمة ومنبتة ومتوالدة بالعشرات. تيار شيعي يسير عكس التيارات السنية السياسية “الجهادية الاعتدالية”. وقد انتقلت قضية فلسطين من أيدي العلمانيين والوسطيين ومن أيدي السنَّة، إلى إيران، التي تخيف السنَّة، من المحيط إلى الخليج.
في استعادة مئة سنة من النضال العقائدي، عليك أن تعترف بالفشل. لا قيمة لما تكتبه. كل القيمة لما تنجزه. وأول إنجاز هو تأمين الركائز الاجتماعية وتصليبها في عقيدتها المستنيرة.
اليوم، يتحكم بالمنطقة العربية ماضيان: ماضٍ استعماري بثياب حضارية، وماضٍ ديني مشتت وناشط.
باختصار؛ إننا من الماضي وإلى هذا الماضي نعود.. يعني لن نكون إلا أتباعاً فوداعاً أيتها الحرية ووداعاً أيها الانسان.