ألمانيا تغادر القمقم.. إلى العسكرة درْ

منى فرحمنى فرح02/03/2022
قلَّة خبرة المستشار الألماني أولاف شولز في السياسة العالمية بانت في أول مشاركة له في مؤتمر ميونخ للأمن عندما أعلن رفضه لما قاله الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، خلال مؤتمر صحفي مشترك جمعهما في موسكو. يومها علَّق شولز ساخراً، "هذا أمرٌ مثيرٌ للسخرية حقاً".

وحده المستشار شولز يعلم بالأسباب التي دفعته إلى الدوس فوق حقل الألغام؟ فبالتأكيد كان هناك تعمدٌ في ما قاله، بحسب ملكولانغارا بهادراكومار (Melkulangara Bhadrakumar)، الدبلوماسي الهندي السابق الذي تنقل خلال ثلاثة عقود بين باكستان وأفغانستان وإيران والاتحاد السوفيتي السابق.

ربما اعتقد شولز أن أداءه أمام كل هؤلاء السياسيين الأميركيين الأقوياء الذين كانوا حاضرين في ميونيخ صنع إنطباعات ممتازة بخصوص ما أراد توضيحه. فهو أراد أن يثبت إبتعاده عن روسيا في الوقت الذي كانت فيه وسائل الإعلام الأميركية تسخر من أن ألمانيا لم تعد حليفاً غربياً.

بالتأكيد، سيعرف شولز أن هناك محرمات حول كلمة “إبادة جماعية” إنزلقت من شفاه سياسي ألماني؛ تعود إلى زمن ألمانيا النازية. فعدد ضحايا عمليات الإبادة الجماعية التي ارتكبها النازيون وحدهم يزيد عن 6315000 ضحية، ما يجعل ألمانيا “بطلة العالم” في هذا الفصل الملطخ بالدماء من تاريخ البشرية.

لن تنتهي زلَّة شولز هنا. إنها تتشابك وتتداخل في الأزمة الحالية بين روسيا والغرب بين عشية وضحاها. ومن المفارقات، أن شولز ربما؛ وعن غير قصد؛ ساهم في لفت الانتباه إلى مخاوف موسكو بشأن كارثة إنسانية تختمر في دونباس، حيث يعيش ملايين الروس. وموسكو في صدد تزويد شولز بأدلة ووثائق تُثبت ما أشار إليه بوتين بخصوص الإبادة الجماعية.

شولز يريد أن يثبت للأميركيين أن ألمانيا ستبقى حليفاً قوياً وأنها تبتعد عن روسيا

وأكدت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا أن هذه المواد قد تمت مشاركتها بالفعل مع واشنطن، لكن موسكو أبقتها بعيدة عن الرأي العام عمداً لأن محتواها “لا يُطاق”. من المؤكد أنه أمام شولز أسبوعٌ مليء بالتحديات.

لماذا يحدث كل هذا؟

بداية، كان تدخل ألمانيا في قضية أوكرانيا مثيراً للجدل إلى حد كبير. في أواخر عام 2013، شجعت؛ وبشكل فعَّال؛ الاضطرابات في أوكرانيا من أجل دفع الرئيس آنذاك فيكتور يانوكوفيتش للإسراع في طلب انضمام بلاده إلى الإتحاد الأوروبي. كذلك شجعت المخابرات الألمانية احتجاجات الشوارع في كييف، عندما أمسك بيانوكوفيتش من اليد التي تؤلمه، الأمر الذي أجبره في النهاية على الموافقة على إجراء انتخابات لإختبار إرادة الناس.

ألمانيا لها يد في زعزعة الاستقرار في أوكرانيا اليوم كما فعلت في أحداث عام 2014

يومها حتى فرنسا وروسيا دعمتا هذا النهج على اعتبار أنه كان أفضل طريقة للخروج من المأزق. برغم ذلك، وفي غضون ثماني وأربعين ساعة من تلك الصفقة، اتخذت الاحتجاجات منعطفاً عنيفاً في الساحة الرئيسية في كييف عندما نشر عملاء استفزازيون يعملون لصالح المخابرات الغربية قناصين في نقاط مراقبة هاجموا قوات الأمن.

وفي النهاية، انهار جهاز الأمن الأوكراني، وفرَّ يانوكوفيتش من البلاد، وظهرت قيادة مناهضة لروسيا في كييف تمثل القوى القومية المتطرفة بقيادة عناصر ما بات يُعرف بـ”النازيين الجُدد”.

خُلاصة القول، أن ألمانيا كان لها يد في زعزعة استقرار أوكرانيا. وتكشف الأحداث اليوم عن أكاذيب الدعاية القائلة بأن سياستها الخارجية تخدم مصالح الديموقراطية والحرية. في الواقع، أن حكومة برلين تعمل مع حركة معارضة من بين قادتها زعيم حزب الحرية “سفوبودا” اليميني المتشدد أوليغ تياهنيبوك، الذي صرح مؤخراً بأنه يجب “تقطيع أوصال” روسيا وتقسيمها إلى “20 دولة قومية”!

لقد لعبت ألمانيا دوراً مماثلاً ومشكوكاً فيه في التفاوض على “اتفاقيات مينسك”. صيغة شتاينماير التي تقترح وضعاً خاصاً للمنطقة الانفصالية هي مسار توافقي يحمل الرئيس الألماني الحالي (فرانك شتاينماير)، لكن برلين تراجعت لاحقاً عن التزامها بتوجيه النظام في كييف وجعله يُنفذ الاتفاقية. ربما إنصاعت ألمانيا لرغبات الأميركيين.

هذه هي الخلفية الدنيئة، والسؤال الكبير هو: ما الذي تنوي برلين فعله حقاً؟

استعادة طريق العسكرة

جوهر الأمر أن ألمانيا عادت إلى طريق العسكرة. عاد الطموح الألماني المتشدد للظهور مرة أخرى، والذي عبر عنه أولاً وزير الخارجية آنذاك والرئيس الحالي فرانك ـ فالتر شتاينماير في خطاب ألقاه في البوندستاغ في أواخر كانون الثاني/ يناير، ومن ثم خلال خطابه في مؤتمر ميونيخ للأمن أوائل شباط/ فبراير 2014، عندما قال بما معناه إن ألمانيا كانت “كبيرة جداً ومهمة للغاية” لتقييد دورها ووجودها فقط بـ”التعليق على السياسة العالمية، ومن الهامش”.

وقال شتاينماير “ألمانيا تتحمل مسؤولية خاصة في ما يتعلق بالشؤون العالمية نظراً لقوتها الاقتصادية وموقعها الجغرافي في وسط أوروبا، ونحن ندرك مسؤوليتنا”، مضيفاً: “وفي حين أن ألمانيا ممكن أن تكون بمثابة حافز رئيسي لسياسة خارجية وأمنية مشتركة لأوروبا، وأن استخدام القوة العسكرية لم يكن سوى الملاذ الأخير، إلا أنه لم يعد من الممكن استبعادها”!

كانت تلك لحظة الحقيقة في التاريخ الألماني. كانت ألمانيا تودع تضاؤلها الذاتي في السياسة الخارجية والأمنية منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية. ومن المثير للاهتمام، أن وزيرة الدفاع الألمانية في ذلك الوقت لم تكن سوى أورسولا فون دير لاين، رئيسة مفوضية الاتحاد الأوروبي في الوقت الحاضر الموالية للولايات  المتحدة بشدة والمعادية لروسيا.

إقرأ على موقع 180  نتغلب بالأمل على القلق

العسكرة الألمانية ببساطة غير ممكنة من دون تشجيع ضمني من واشنطن ووفق اعتبارات جيوسياسية-إستراتيجية لاحتواء روسيا. وكما كان الحال في الماضي مع ألمانيا النازية، تشارك الشركات الأميركية في إعادة التسلح الألماني، وتزويد الشركات الألمانية بكل شيء تقريباً، من المواد الخام إلى التكنولوجيا والمعلومات المتعلقة ببراءات الاختراع. يحدث هذا بفضل شبكة معقدة من المصالح التجارية والمشاريع المشتركة واتفاقيات التعاون والملكية المتبادلة بين الشركات الأميركية والألمانية.

“كش ملك”

في حسابات التفاضل والتكامل الأميركية، تعتبر ألمانيا قوة اقتصادية. من حيث التاريخ والجغرافيا والاستراتيجية الجغرافية، هي القوة الأوروبية الوحيدة الموثوقة اليوم التي يمكن أن تدخل في مواجهة مضمونة مع روسيا على اساس مبدأ “كش ملك”. ومن غير المُستغرب أن التدخل في العلاقات الروسية الألمانية كان النهج الذي حرصت وتحرص عليه واشنطن طوال الوقت.

بغض النظر عن الطريقة التي ستنتهي إليها التوترات بين واشنطن وموسكو، فإن ألمانيا تأمل أن تكون هي الفائز الصافي في النهاية

تمارس ألمانيا لعبة التحوط (الغميضة) بشكل رائع. فهي تعتمد بشكل كبير على روسيا لسوقها الواسع ومواردها الطبيعية الهائلة وإمدادات الطاقة، وبالتالي هي تتبنى موقفاً “مُربحاً للجانبين” في العلاقات الثنائية. بيد أن ألمانيا لا تستطيع؛ ولن تُعرّض روابطها عبر المحيط الأطلسي للخطر أيضاً. “العلاقات الأطلسية” تظل جوهر الإستراتيجيات الألمانية.

الجيش الألماني في طليعة حشد “الناتو” العدواني ضد روسيا. أعلنت الوزيرة الألمانية كريستين لامبرخت الأسبوع الماضي أن هناك حاجة إلى زيادة سريعة وكبيرة في الإنفاق الدفاعي لإعداد القوات المسلحة الألمانية لحرب محتملة ضد روسيا. وبحسب ما ورد يتم التخطيط لـ 37.6 مليار يورو إضافية كإنفاق دفاعي من أجل إعداد الجيش الألماني لخوض حروب واسعة النطاق.

وبغض النظر عن الطريقة التي ستنتهي إليها التوترات بين واشنطن وموسكو؛ وما إذا كانت ستطول أم لا؛ تأمل ألمانيا في أن تكون هي الفائز الصافي في النهاية. قد يبدو ذلك أملاً جريئاً، لكنه واقعي. إن الأزمة الأوكرانية تُظهر ألمانيا؛ بعد عودتها إلى مركز ملعب الأمن الأوروبي؛ كقوة عظمى. في حين أن فرنسا وبريطانيا وإيطاليا وما إلى ذلك في حالة تراجع كبيرة، وكأنهم ينتمون إلى دوري الناشئين. ألمانيا تشعر أن ساعة الحساب قد اقتربت. ومرة ثانية تشجعها الولايات المتحدة باعتبارها الشريك الأوروبي الرئيسي.

لو كان اللورد هاستينغ إسماي، أول أمين عام لحلف “الناتو”، على قيد الحياة اليوم، فقد يراجع ملاحظته الشهيرة التي قالها في عام 1949 بأن هدف التحالف كان “إبقاء الروس في الخارج الأميركيين في الداخل، وإبقاء الألمان تحت السيطرة”. وقد يستبدلها، بالنظر إلى المستقبل، إن “الناتو” يتطلع إلى “إبعاد الروس، والأميركيين في الداخل، والألمان يتعافون”.

(*) النص كاملاً بالإنكليزية على موقع “مؤسسة Strategic Culture

Print Friendly, PDF & Email
منى فرح

صحافية لبنانية

Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  فورين أفيرز: السعودية لا تدعم إستراتيجية أميركا الكبرى (1)