تحدياتٌ كثيرةٌ تتربص بلبنان: التهديدات الدائمة في الصراعات الإستراتيجية؛ تحولات في الديموغرافيا وموازين القوى؛ صراعات ذات طابع ثقافي بين مجموعاته تتنامى وتُهدّد الهوية الوطنية الجامعة. كل ذلك صحيح، لكن لبنان؛ بفكرته ككيان جغرافي تُمارس فيه الحريات العامة والخاصة الفردية منها كما حريات المجموعات وخصوصياتها الثقافية؛ التفاعل بين ثقافات وتيارات فكرية مختلفة؛ لا يزال ينبثق من جديد ويصارع التحديات، وتقف أمامه الإيديولوجيات عاجزة.
استنتاج متسرع أو تفاؤلي، ربما. لكن في المقابل، ما يدعم هذا التفاؤل. سبق لحزب الله، كحزب إسلامي أصولي عقائدي، أن اضطُر لـ”التكيف” مع الواقع اللبناني، كما شرحَت ذلك أمل سعد غريّب في كتابها المرجعي “حزب الله: السياسة والدين”. وقف حزب الله العملاق العسكري، أمام التجربة اللبنانية الحامية للتنوع فغيّر من استراتيجياته بما يتعلق بالدولة الإسلامية. أقلّه حتى الآن. لا يرتبط ذلك بعجزه أمام مواجهة الفساد البنيوي، فلذلك قصة أخرى متعلقة بأولوياته لجهة “البيت الشيعي” وتحالفاته، أو بمراكمة عناصر القوة لاستثمارها لاحقاً في نظامٍ جديد.
في التراث القومجي بشقيه العروبي والعقائدي “السوري”، قبل “الإسلامي”، كمٌ من الإحتقار للتجربة اللبنانية. من اعتبار لبنان كياناً “مصطنعاً، أو “طارئاً” ينبغي إعادة تذويبه، إلى ربط سوء النظام الطائفي بفكرة التنوع والتعددية، وصب اللعنات على حدود “سايكس – بيكو”. حماوة وحماسة لا نجدهما تجاه فكرة “كيانات” أخرى كسوريا والعراق، ربما تسامحاً مع حكمهما من قبل حزب عقائدي عروبي “يغسل” الخطايا والأخطاء.
في مقابل التحول نحو التمسك بالكيانية اللبنانية لدى من كان يرفضها، تحولات مماثلة في مكان آخر، تجاه نقد الأسس المالية والإقتصادية التي قام عليها الكيان. أساطير مؤسِّسة عن النظام المصرفي و”الإقتصاد الحر” الذي لا يشبه الحرية بشيء وليس عبارة إلا عن نظام للنهب واللصوصية
تراث تسمع عكسه اليوم في الأروقة والأوساط الفكرية في بيروت. لا تزال هذه العاصمة على الرغم من أخطر وأعمق أزمة تصيب الكيان في أسسه وحاضره، ساحرة بقدرتها على استيلاد الإبتكار والأفكار والمتمسكة بوطن نحرته طبقة سياسية مجرمة. ناشطون وتجارب تحوّلت من رفض الإنتماء للبنان واحتقار رمزياته كالنشيد الوطني، إلى إيمان عميق بلبنان ككيان متميز في محيطه والعالم العربي. اتجاهات قومجية وإسلامية تراجعت أمام صمود الفكرة اللبنانية وخصوصية لبنان، فصارت تعتبره ضمانة للفكر الحر، كما وصفه أنطون سعادة في أوج عقائديته المخاصمة للكيانات الوليدة في المشرق بعد الحرب العالمية الأولى. انبهار بسحر لبنان – الفكرة وكأنهم يكتشفون مغارةً مذهلة للمرة الأولى.
المفارقة، أنه في مقابل التحول نحو التمسك بالكيانية اللبنانية لدى من كان يرفضها، تحولات مماثلة في مكان آخر، تجاه نقد الأسس المالية والإقتصادية التي قام عليها الكيان. أساطير مؤسِّسة عن النظام المصرفي و”الإقتصاد الحر” الذي لا يشبه الحرية بشيء وليس عبارة إلا عن نظام للنهب واللصوصية، سقطت أمام حقيقة تحول المجتمع اللبناني وتغيّراته. فقاعات رياض سلامة والطبقة المصرفية – السياسية باتت من الماضي، على الرغم من أنهم لا يزالون يقاومون بكل ضراوة، ووقاحة. استفاقة على حقيقة مؤلمة وعلى روايات لم تكن إلا مبرراً للسيطرة والتسلط. انهيار أسطورة “التجارة والخدمات” التي فُرضت في كتب الجغرافيا المدرسية ولبنان “المصارف”، وانكشاف اضطهادهم للصناعة والزراعة وكل ما هو “وطني”. يقود ذلك إلى الترحم على “الشهابية” لأنها التجربة المضيئة في وضع أسس دولة لا يلتهمها “أكلة الجبنة” كما فعلوا بشراهة ما بعدها شراهة منذ العام 1992 وحتى اليوم.
ببساطة، نحن أمام هوية لبنانية متغيرة، وتصورات تتبدل وتتحول، من دون أن تستقر على صورة واضحة. هو مخاض يشهده لبنان ما بعد انسحاب الجيش السوري، وحرب تموز، والإنهيار في 17 تشرين الذي عرّى منظومة الـ1992 ومن “سايرها”؛ مخاضٌ لا بد أن يؤدي إلى نموذج آخر ودور مختلف عن ذلك الذي نظَّرت له طبقة اقتصادية ومالية وسياسية مهيمنة، وللأمانة عابرة للطوائف.
هنا، يقتحم صنع الخطاب والدور الإعلامي الذي ألحق نفسه بروايات السلطة والتسلط، المشهد بقوة. منذ نشوئه ولبنان يخلقُ أفكاراً ومبادرات وشخصيات سياسية تصنع المساحات المشتركة، وتُعزّز من دور الدولة التي وحده مشروعها، يخلقُ هوية وطنية لبنانية جامعة. لكن الخطاب المسيطر، والإعلام الممسوك من قوى السلطة والماضي، لا يريدان لأصوات تغييرية أن تهز هيكل السلطة. لسان حالهم: الإبقاء على الواجهات التقليدية؛ الولاء لمنظومة النهب؛ إفساح المنابر لصنّاع الفتنة. بهؤلاء “نبقى ونستمر”. أما التيارات والأفكار الإيجابية، ورجال الدين المتنورين، والتيارات العلمانية والوطنية الجامعة، فلا حاجة لنا بهم في “إعلامنا” مفخرة السلطة واستدراج أموال العرب والعجم!
لبنان ينهار ويصارع سكرات الموت، صحيح، لكن ذلك لا يحجب حقيقة أن لبنان يتحول وينتفض ليعود فيحيا، نموذجاً جديداً ودوراً مختلفاً وفعل إيمان جديد يتمسك بالثوابت لكنه لا يتجاهل المتغيرات العميقة من حوله.