هذا الرجل عرف الوطن الصغير من شماله إلى جنوبه. عاصمته ومدنه، كما القرى والجبال والعائلات. عاش فيه نصف لبناني. عمل فيه واقام صداقات وعلاقات على امتداد خريطته. لم يميّز بين لبناني وآخر، بين منطقة وأخرى، بين انتماء وآخر.
صار لبنان اليوم شغلاً شاغلاً للرجل من بين انشغالات سياسية كثيرة برغم الأعباء العراقية الثقيلة ومنها إنسداد سياسي داخلي قد يجر هذا البلد العربي الشقيق الى متاهات خطيرة.
في منزله الأنيق على ضفة دجلة في قلب المنطقة الخضراء البغدادية. التقيته، مع ثلاثة زملاء لبنانيين. هذا المنزل الذي لم يبارحه منذ تولى إدارة مؤسسة “الذاكرة العراقية”، ثم مجلة “الأسبوعية”، وبقي فيه رئيساً للمخابرات والوطنية ثم رئيساً للوزراء، وهو نفسه الذي تعرض فيه لمحاولات اغتيال عدة كان آخرها قبل شهور بطائرات مسيرة. منزل يُوحي بأثاثه الحديث والزيتيات التي تغطي جدرانه البيض، بأنك في بيت مثقف وليس في بيت سياسي تقليدي.
على مدى ثلاث ساعات ونيف من اللقاء، كانت كلمة لبنان حاضرة دائماً مع ابتسامة مصطفى الكاظمي المحببة. لبنان، “هو سنغافورة الشرق”، هكذا يجب أن يكون. بلدكم يمتلك كل المقومات اللازمة حتى يكون مثيلاً لهذه الظاهرة الآسيوية. سنغافورة بلد صغير جداً مساحته لا تجاوز مساحة محافظة لبنانية (728 كيلومتراً مربعاً)، وعدد سكانه يوازي عدد سكان لبنان تقريباً (نحو ستة ملايين)، ولا يملك الكثير من الموارد الطبيعية، لكنه بفضل السياسات الاقتصادية والتعليمية والاستثمارية التي اتبعها، تمكن في عقود قليلة من تصدر واجهة المراكز التجارية والمالية والتعليمية والخدماتية في العالم. يذكر الكاظمي، ان سنغافورة مثل لبنان،عانت ما عانت قبل انطلاقتها المذهلة، لكنها تمكنت بسرعة قياسية من تصدر السباقات الاقتصادية العالمية. هذا البلد لفظته ماليزيا من اتحادها، بسبب اضطراباته الاثنية ومشكلاته الكثيرة، وبكى اهله ورئيس وزرائه لي كوان عندما طردوا من الاتحاد وباتوا وحيدين. لكنهم سرعان ما جبهوا التحدي، بتحدي التنمية والازدهار والتعليم حتى صارت سنغافورة اليوم قبلة انظار المعمورة.
يقول الكاظمي: لبنان يملك اكثر بكثير مما كانت تملك سنغافورة. هو الجامعة والمدرسة في الشرق. المستشفى والطبيب. الاعلام الحر والمهني المتمرس والمنفتح. هو الفن والثقافة والإبداع. الخبرات الممتازة في المجالات السياحية والخدمية والمالية والاستثمارية. لبنان هو اللبناني المغترب والمتفوق في بلاد الغربة ولا يزال مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بوطنه الأم، والاهم من ذلك كله، هو التنوع والاندماج ما بين المتنوعين برغم ما يعتري ذلك من شوائب هي وليدة السياسة، وهذا كنز اذا احسن أهل لبنان إستثماره لفعلوا المعجزات. لكن، لا خلاص للبنان الا بإرادة اللبنانيين وبتوافقهم وبحبهم لبلدهم، وعدا ذلك فان الباقي أوهام ولن يساعد أحد لبنان واللبنانيين إذا لم يساعدوا هم أنفسهم، وهي العبارة السحرية التي بات يُرددها معظم المسؤولين العرب والأجانب في السنتين الأخيرتين.
الكاظمي: لبنان حاضر دائماً في جدول أعمال المحادثات الإيرانية السعودية التي يرعاها العراق في بغداد والتي قطعت “مراحل جيدة ومتقدمة” حتى الآن. كذلك كانت للبنان حصة كبيرة في المحادثات التي “اجريتها هنا” مع الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون، وكذلك مع الرئيس التركي رجب طيب اردوغان
عدم إنتظار التسويات
حكم العراق ليس نزهة أو منصباً تشريفياً، فكيف مع تراجع سلطة الدولة والمؤسسات ومرجعية القانون لمصحلة مرجعيات ما قبل الدولة، سواء الطائفية أو المذهبية أو الجهوية أو العشائرية وغيرها من قوى امر واقع؟
ومع ارتفاع وتيرة التشابك بين الداخل والخارج واحتدام الصراع في الإقليم وخصوصاً في العراق نفسه، تصير مهمة أن تحكم أشبه بالمستحيلات، ومع ذلك يؤكد رئيس الوزراء الشاب ان الشأن اللبناني حاضر كالشأن العراقي على جدول اعماله الداخلي والخارجي، يقول: “في الامس كان لبنان بنداً أساسياً في حديثي الهاتفي مع العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني الذي بدوره على تواصل دائم مع رئيس الوزراء نجيب ميقاتي (إجتمع الأخيران قبل أيام قليلة وحصل تواصل بعد ذلك بين المسؤولين اللبناني والعراقي أيضاً) لمواكبة المستجدات اللبنانية. كذلك الامر مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ومع الرئيس الجديد لدولة الامارات محمد بن زايد. كما ان لبنان حاضر دائماً في جدول أعمال المحادثات الإيرانية السعودية التي يرعاها العراق في بغداد والتي قطعت “مراحل جيدة ومتقدمة” حتى الآن. كذلك كانت للبنان حصة كبيرة في المحادثات التي “اجريتها هنا” مع الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون، وكذلك مع الرئيس التركي رجب طيب اردوغان. ومع ذلك يعود الكاظمي ويُشدّد على أهمية الحوار اللبناني كخشبة خلاص أساسية، وعدم انتظار نتائج التسويات الدولية او الإقليمية في عالم يتغير على مدار الساعة.
ليس زمن المخلصين
ولا تغيب عن ذهن رئيس وزراء العراق التفاصيل المتعلقة بإعادة بناء مرفأ بيروت والمشاريع المتعلقة بالكهرباء ومواصلة امداد لبنان بالمحروقات، وأزمة ترسيم الحدود البحرية واستخراج غاز المتوسط، كما لا تغيب عنه متاهات السياسة اللبنانية وزواريب المحاصصة الطائفية، واحجية الثلث المعطل، ونظريات المؤامرة ولعبة الأمم، فهو رئيس حكومة العراق، البلد الذي صار ولبنان رديفين في السياسة والممارسة والمصطلحات: العرقنة واللبننة، المحاصصة والثلث المعطل، تقديس للصلاحيات وانتهاك دائم للدستور والقانون، فساد مستفحل ولا وجود لفاسدين معلنين، جرائم من كل العيارات والسجن فقط لصغار اللصوص، حريات مطلقة منها حق القتل والاغتيال وتشكيل العصابات المسلحة اما الديموقراطية فمجرد عنوان يذبح كل يوم في مسلخ التوافقية وحقوق المكونات. سقط الديكتاتور في العراق، ونبت مكانه لدى كل مكون او جماعة او منطقة ديكتاتور صغير يمارس هوايات الديكتاتور الكبير نفسها. في لبنان، صارت آمال بعض اللبنانين معلقة على ظهر ديكتاتور لعله يخلصهم من لعنة امراء الحرب والسلام الصغار بعدما فقدوا الامل بظهور مخلص ما.
العراق المُشتبك والمتشابك
أزمة الاستعصاء السياسي في العراق بلغت حدها في الساعات الأخيرة بعد الاستقالة الجماعية لنواب التيار الصدري في البرلمان العراقي، وهي الكتلة الاكبر بـ73 مقعداً من إجمالي 329 مقعداً في البرلمان، ومن شأن ذلك مفاقمة الازمة السياسية في البلاد. وبما أن البرلمان العراقي في إجازة الصيف ولن يعود للانعقاد إلا بعد يوم 9 أغسطس/آب المقبل، يمكن القول إن الوضع الحالي سيظل مجمداً على ما هو عليه، على أساس أن استقالة كتلة التيار الصدري لن تكون نهائية إلا بعد أن يتم التصويت على قبولها في جلسة عامة.
وخلال تلك الفترة ستظل حكومة الكاظمي تؤدي مهامها كحكومة تصريف أعمال، بالتوازي مع استمرار المفاوضات من خلف الأبواب المغلقة في محاولة للتوصل إلى حلول توافقية قبل اللجوء إلى حل البرلمان والعودة مرة أخرى إلى صناديق الاقتراع.
الكاظمي: الحكومة العراقية تملك رؤية لبناء الدولة وقد قدمنا برغم التحديات والمشاكل العديد من المشاريع برغم أن هناك من لا يريدنا أن ننجح ويعمل بكل ما بوسعه من أجل إفشال أي خطوة نجاح تحققها الحكومة
ويمكن القول إن الكاظمي كان يمثل، منذ ظهور نتائج الانتخابات، الحل الوسط أو الاحتمال الأقرب، فهل تتم العودة إلى هذا الحل كمخرج للأزمة أو الجمود الحالي؟ الإجابة إلى حد كبير قد تكون لدى الإطار التنسيقي وظهيره الداعم الحشد الشعبي وليس التيار الصدري.
وبرغم الانسداد الحالي وإمكان ان يؤثر ذلك على عمل الحكومة ومعنويات العراقيين، فان الكاظمي يشدد على ضرورة ان لا يؤدي ذلك الى الإحباط وجلد الذات، ويؤكد ان حكومته “تملك رؤية لبناء الدولة وقد قدمنا ـ برغم التحديات والمشاكل ـ العديد من المشاريع برغم أن هناك من لا يريدنا أن ننجح ويعمل بكل ما بوسعه من أجل إفشال أي خطوة نجاح تحققها الحكومة”.
ومع إقراره بالمشاكل التي تواجه العراق على صعيد ملفات مهمة مثل الكهرباء والملف المائي والخدمات يشير الكاظمي إلى أن العراق يحقق نجاحات أمنية مهمة وأبرزها اعتقال العشرات من كبار الإرهابيين، وهو ما أدى إلى الحد من العمليات الإرهابية.
لكن النجاح الأبرز يتمثل في إعادة النظر في دور العراق وإنتاج قراءة سياسية مغايرة للوضع الجيوسياسي للعراق، وذلك عبر التحول من سرديات الصراع إلى سرديات السلام، سواء عبر تحويل الساحة العراقية إلى منطلق للمشاريع الإقليمية، أو حتى في اعتماد دبلوماسية المسار الثاني، المتمثلة في خلق حالة توازن إقليمي/ عربي مع الدور الإيراني في العراق.. وعدا عن رعاية بغداد للحوار السعودي الإيراني الذي يتوقع أن “يُختتم قريباً بنتائج طيبة”، فان الكاظمي يُلمح إلى أن بلاده ترعى حواراً يشمل ثلاث دول أخرى.
المشرق الجديد
أما الأمر الآخر، الذي لا يقل أهمية فهو اطلاق مشروع “المشرق الجديد” الذي يضم العراق ومصر والأردن، وهو مشروع اقتصادي على النسق الأوروبي، ويعد طفرة كبيرة في العلاقات بين الدول الثلاث، ويمكن أن يحقق تكاملاً بينها لما تمتلكه من ثقل اقتصادي وبشري وسياسي يسهم بتحقيق نهضة وتنمية شاملة في المنطقة. فهذه الدول الثلاث تُشكل أكثر من 160 مليون نسمة، وناتجها المحلي الاجمالي السنوي يتجاوز الـ 400 مليار دولار. ومن شأنه يعطي مقاربة جديدة لمنطقة الشرق الأوسط يعد قوة للدول المشاركة فيه ويعطيها مساحة وموقعاً وصوتاً مسموعاً في ما يُمكن أن يُطرح للمنطقة مستقبلاً.
ويطمح الكاظمي في انضمام لبنان قريباً الى المشروع المشرقي لعله يكون مُعيناً له ما بعد انهياره الاقتصادي والمالي ومخرجاً له من أزماته بحكم ما قد يوفره من إعادة بث الحياة في شرايينه الاقتصادية لا سيما المعابر والمرافىء وخطوط النفط والمصافي وبطبيعة الحال التسهيلات المالية، كما ان المشروع المشرقي متاحٌ أيضاً لسوريا لاحقاً بعد إنتهاء ازمتها السياسية لا سيما ان الدول الثلاث الأعضاء فيه ترحب بعودة سوريا الى الحضن العربي، وتالياً يمكن ان يكون رافعة لاعادة اعمار سوريا بعد إنتهاء الحرب.