إعادة هيكلة “بي بي سي عربي”.. أرقام مالية وحسابات رقمية

قررت إذاعة "بي بي سي" البريطانية تقليص الخدمات الإخبارية في قسمها العربي، وبينها وقف البث الإذاعي عبر الموجات الإذاعية العامة بعد خدمة إستمرت 84 عاماً.

كثُرت التكهنات عن استهداف للقسم العربي في هيئة الإذاعة البريطانية وعن فشل تحريري أدى للاستغناء عن العديد من المواقع والمراكز في الإذاعة. كما إنتشرت نصوص وجدانية في الصحف والمنصات ومواقع التواصل، بعضها حقيقي ينعي حقبة ذهبية من التاريخ الإذاعي الناطق باللغة العربية وبعضها مجرد “نوستالجيا” لا تتماشى مع واقع التطور الإعلامي التكنولوجي. نعم، جمهور في أربع جهات الكوكب رافق، وعلى مدى أجيال متعاقبة، تجربة إذاعية على مدى قرن من الزمن، هاله أن يُغلق هذا الأثير، فعمد إلى تسطير وداع يليق بإذاعة تاريخية. لكن ذلك لم يمنع بعض صفحات التواصل والمنصات والصحف من بث كتابات تحمل في طياتها إفتراءات وتكهنات وتعميمات لا تمت للحقيقة بصلة، وبينها الحديث عن إغلاق تام للقسم العربي.

مع كل هذا الضجيج، الذي بُني في بعضه على معلومات مغلوطة أتت في سياق التمني والتشفي، لا بد من رسم صورة أكثر شمولاً عن ما جرى ويجري في الـ”بي بي سي” بشكل عام، والخدمات الدولية بشكل خاص، التي كانت محور التغييرات المُعلن عنها مؤخراً.

تمر الـ”بي بي سي”، كمؤسسة عامة في بريطانيا، في مرحلة مالية صعبة، أو يمكن القول إنها على عتبة مرحلة مالية أصعب من سابقاتها. الـ”بي بي سي” هي مؤسسة خدمة عامة لا تبغي الربح، وتُمَوَّل بشكل أساسي من جباية ما يُعرف بـ”رسم رخصة إقتناء تلفاز في بريطانيا”. حق الـ”بي بي بي سي” بالإستفادة من هذا الرسم يُجدد كل 10 سنوات (تنتهي دورته الحالية في العام 2027) ويخضع للمراجعة كل خمس سنوات. رسوم الرخصة يتم تعزيزها بالمدخول التجاري للـ”بي بي سي”. وينص الميثاق الملكي، الذي حدّد هيكلية تمويل “بي بي سي” كمؤسسة خدمة عامة، على أن على الحكومة البريطانية العمل لدعم المؤسسة مالياً بما يؤهلها للقيام بدورها دون أي قيود في حال كان مدخولها التجاري ومدخول الرسوم لا يفي باحتياجات المؤسسة المالية السنوية للتطوير ويُماشي متطلبات السوق. وهنا بيت القصيد. لماذا؟

الدعم المالي الحكومي وحق الـ”بي بي سي” بأموال رسوم التلفاز لا يوفران الإستقرار، بل أصبحا في السنوات الأخيرة سيفاً مصلتاً على رقبة المؤسسة يرفعه/ترفعه وزير/ة الثقافة في الحكومة البريطانية وليس آخره إعلان نادين دورس وزيرة الثقافة في حكومة بوريس جونسون تجميد رسم الرخص التلفزيونية حتى العام 2024، ما يعني أن ميزانية الـ”بي بي سي” من الرسوم لن ترتفع سنتاً واحداً على مدى سنتين. هذا التوجه الحكومي، الذي أدى في السنوات الأخيرة إلى التقليل من دور المؤسسة في خدمة الشأن العام، لاقته الإدارة العامة الحالية للإذاعة بوضع الخطط الاستراتيجية لتعزيز الجانب التجاري في خدماتها وتحفيز الإنتاج الرقمي على حساب الإنتاج التقليدي، إذاعةً وتلفزيوناً.

الـ”بي بي سي عربي” باقية مع تقليص في ميزانيتها واستقلاليتها الإنتاجية وتحديداً في مجال التحقيقات والوثائقيات، الخدمة التلفزيونية العربية باقية ولكن لا يجب أن نستغرب إذا ما قرّرت الـ”بي بي سي” لاحقاً أن الوقت قد حان لتصبح الخدمة العربية أيضاً خدمة رقمية أولاً وأخيراً مع تزايد أعداد المتابعين الرقميين في العالم العربي على حساب الشاشة التقليدية

ولا بد من الإشارة إلى أن القسم الدولي وخدمة اللغات في الـ”بي بي سي” يستفيدان في ميزانيتهما من رسوم الرخص التلفزيونية في بريطانيا أيضاً بالإضافة الى منحة حكومية سنوية تقدر بنحو 90 مليون جنيه إسترليني.. وقد سبق أن تم الإعلان عن إعادة هيكلة القسم الدولي (ورلد سيرفس) والإعلان عن دمج خدمة أخبار الـ”بي بي سي” التي تُبث على مدى أربع وعشرين ساعة وتركز في مجملها على تأمين الخدمة الإخبارية لجمهور محلي بريطاني بتلفزيون اللغة الإنكليزية في الخدمة الدولية الذي بمقدوره أن يخاطب أيضاً جمهوراً يتخطى الحدود الوطنية.

هذه السردية ـ المقدمة تهدف إلى القول إن ما أصاب الخدمة العربية ليس مفصولاً عن الأزمة العامة التي تمر بها الـ”بي بي سي”، كما يقول مدراء فيها، ما يعني ضرورة التفكير في كيفية مواكبة احتياجات تغيير عادات الإستهلاك الإعلامي والإخباري لجمهورها وتدارك العجز في ميزانيتها العامة التي لم يعد مؤكداً أن الحكومة ستغطيه من ميزانيتها العامة في الفترة المقبلة.

وتضم الخدمات اللغوية في الـ”بي بي سي ورلد سيرفيس” 41 قسماً يُعنى كل واحد منها بلغة مختلفة، والقسم العربي واحد منها. لم يتم إغلاق أي من الأقسام التابعة للغات المختلفة، ولكن تم تقليص الخدمات ودمج وتركيز المواقع الإدارية والتحريرية بهيكلية تتخطى اللغات، وتركز في جُلها على الجمهور المستهدف والأمية التكنولوجية في كل سوق من الأسواق المستهدفة. هذه الهيكلية الجديدة تفضي إلى إلغاء ما يقارب الـ 400 وظيفة في الخدمات اللغوية الإخبارية الـ 41، حصة الـ”بي بي سي عربي” منها 71، ما يوفر على المؤسسة الأم مبلغاً يقارب الـ30 مليون جنيه من أصل 250 مليون جنيه هو المبتغى التوفيري لإدارة المؤسسة.

إقرأ على موقع 180  عون أسير الباسيلية.. وحزب الله أسير الفوقية!

عملياً، تم إيقاف البث الإذاعي باللغات العربية، الفارسية، البنغالية، الغيرغيزية، الهندية، الصينية، الأندونيسية، التمايل والأردو، كما تم إيقاف بعض البرامج التلفزيونية المخصصة للمشاهدين في بعض الدول الإفريقية والآسيوية التي يتم بثها باتفاقات مع محطات محلية. كما تم نقل بعض الخدمات الإخبارية اللغوية بالكامل خارج بريطانيا حيث سيعمل القسم التايلندي في الـ”بي بي سي” لغات من بانكوك، والقسم الكوري من سيول على سبيل المثال لا الحصر. الكثير من الأقسام اللغوية الإخبارية أصبح رقمياً بالكامل، أي أن كل خدماته تقدم للجمهور المستهدف عبر الصفحات المخصصة أونلاين. لن يطال الإغلاق البث التلفزيوني غير الرقمي في الـ”بي بي سي” العربي والفارسي، ولكن لن يكون لأي من الأقسام اللغوية الإخبارية مدير عام. كما تم إلغاء مواقع إدارية تحريرية أخرى داخل كل قسم ليتم دمجها بهيكلية مركزية تقوم بدعم الإنتاج الرقمي أولاً ويضم خدمات إذاعية مثل البودكاست وفيديوهات يتم انتاجها للأونلاين. يُصر القيّمون على الـ”بي بي سي” الدولية أن الهيكلية الجديدة هدفها النوعية وليس رفع عدد المتابعين، لكن مع كثرة الحديث عن أزمة مالية تمر وستمر بها المؤسسة، ومع محاولات تعزيز المدخول التجاري لها، يصبح من الصعب رؤية كيف يمكن حماية النوعية على حساب الإنتشار.

الـ”بي بي سي عربي” باقية مع تقليص في ميزانيتها واستقلاليتها الإنتاجية، وتحديداً في مجال التحقيقات والوثائقيات. كذلك الخدمة التلفزيونية العربية باقية، ولكن لا يجب أن نستغرب إذا ما قرّرت الـ”بي بي سي” لاحقاً أن الوقت قد حان لتصبح الخدمة العربية أيضاً خدمة رقمية أولاً وأخيراً مع تزايد أعداد المتابعين الرقميين في العالم العربي على حساب الشاشة التقليدية. هناك نماذج لغوية إخبارية ناجحة في هذا المجال مثل خدمة “بي بي سي موندو” التي تخاطب جمهور أميركا اللاتينية بأكمله ما عدا البرازيل عبر الخدمة الرقمية فقط.

الـ”بي بي سي” كمؤسسة خدمة عامة في بريطانيا تواجه محاولات تقزيم موقعها ودورها والتهديد الدائم بتقليص تمويلها، وهي مواضيع تُشغل بال الكثيرين من المعلقين والصحافيين والمحللين المعنيين بالقطاع الإعلامي. والخسائر التي طالت القسم العربي ليست إلَّا هامشاً في الأزمة الأكبر التي تواجهها المؤسسة التي طالما اعتبرت علامة وطنية فريدة للمملكة المتحدة، ونموذجاً يُحتذى به في العديد من الديموقراطيات في العالم في مجال الخدمة التلفزيونية العامة.

Print Friendly, PDF & Email
زاهرة حرب

أستاذة في جامعة سيتي، بريطانيا

Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  "فورين أفيرز": حانت لحظة الحساب.. وديناميات متحركة في الشرق الأوسط