الحركة الوطنية المصرية مع مطلع القرن العشرين

إذا كانت الثورة العرابية هى بمثابة الموجة الأولى للحركة الوطنية الثورية المصرية، فإن الحركة الوطنية التى قادها مصطفى كامل مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين هى بمثابة الموجة الثانية لهذه الحركة الوطنية وإن اختلفت عن الموجة الأولى (العرابية) فى كونها بالأساس حركة مدنية/سياسية لا عسكرية، كما أنها كانت أكثر تنظيما ونضوجا ولن تعارض القصر.

بينما نشأ أحمد عرابى فى الجيش المصرى وحمل على عاتقه مهمة تمصير الجيش والتخلص من الشركس والأتراك فيه سعيا نحو إعادة هيكلته لخدمة الأهداف الوطنية لا أهداف الإنجليز أو الأتراك أو غيرهم، فإن مصطفى كامل كان خريج المدارس الأهلية التى أخذ على باشا مبارك فى تطويرها وكانت قدراته التنظيمية والخطابية أعلى بكثير من عرابى، قطعا هذا لا يعنى التقليل من الحركة العرابية، فللأخيرة إسهامات لا يمكن إنكارها فى إرساء بنية الحركات الوطنية المصرية وصولا إلى جلاء الإنجليز منتصف القرن العشرين، ولكن تهدف هذه السطور إلى رصد التطور السياسى والتنظيمى والخطابى الذى أسهمت هذه الموجة الثانية فى إضافته إلى تاريخ تطور الحركات الوطنية المصرية الحديثة.
كان مصطفى كامل مولعا بالسياسة والصحافة والفن معا، مما ساهم مبكرا فى ثقل خبراته ومهاراته السياسية، فقد قام فى صغره بتأسيس مجلة «المدرسة»، ثم فى شبابه أسس الجريدة الأهم «اللواء» والتى كانت تعد واحدة من أهم الصحف المصرية الوطنية فى ذلك الوقت. اقترب مصطفى كامل من السياسيين والصحافيين والشعراء والأدباء، فساهم ذلك فى ازدياد توهجه بين النخبة والشارع المصرى.

***

بعكس الموجة الوطنية الأولى، فإن العلاقات بين مصطفى كامل والخديوى كانت وطيدة، فالخط الوطنى الذى اتخذه الخديوى عباس منذ بداية حكمه والذى تسبب فى اصطدامه المبكر بالإنجليز وعلى رأسهم اللورد كرومر ــ بعكس توفيق المهادن للإنجليز ــ شجع مصطفى كامل على التقارب منه، فللمرة الأولى بدا وأن الشارع والقصر فى نفس المركب ضد الاحتلال الإنجليزى.

درس مصطفى كامل الحقوق فى مصر ثم فى فرنسا وتحدث الفرنسية بطلاقة وكانت له علاقات مميزة بالعديد من رموز الثقافة فى أوروبا، لكن وبعد عودته إلى مصر وسعيه نحو توطيد الحركة الوطنية فإن طريقه لم يكن مفروشا بالورود! فبعد عودته بسنوات قليلة وقعت حادثة الفاشودة، حيث واجهت القوات الفرنسية القادمة من الكونغو والساعية نحو السيطرة على منابع النيل العليا قوة مشتركة إنجليزية ومصرية عند مدينة الفاشودة (تعرف الآن باسم كوداك وتقع فى جنوب السودان) عام 1898، وكانت الأمور على شفا التطور إلى حرب شاملة بين فرنسا وبريطانيا، واعتقد مصطفى كامل ورفاقه أن الحادثة ستكون بمثابة تطور مهم نحو جلاء الإنجليز عن مصر، ولكن وبعكس تلك التوقعات الوردية استجابت فرنسا للضغوط الإنجليزية وانسحبت من الفاشودة عودة إلى الكونغو الفرنسى واعترفت بالمستعمرات الإنجليزية فى شرق أفريقيا مما عد هزيمة كبرى للفرنسيين وتحطيما لآمال الحركة الوطنية المصرية!

وفي1899، وقعت بريطانيا اتفاقية السودان والتى بموجبها أجلت المصريين تماما من حكم السودان وتركت لهم مجرد سيادة اسمية، ثم كان الوفاق الودى الذى تم توقيعه بين بريطانيا وفرنسا فى 1904 ضربة أخرى للحركة المصرية الوطنية، حيث اعترفت فرنسا نهائيا بالاستعمار الإنجليزى لمصر، وهكذا سُحبت أهم ورقة كانت تعول عليها الحركة الوطنية ألا وهى استغلال النزاع الفرنسى الإنجليزى من أجل الضغط على الإنجليز للجلاء عن مصر.

***

برغم كل هذه الضربات لم يستسلم مصطفى كامل، ولكنه أدرك أن التعويل على المحددات الدولية لن يكون له طائل فقرر إعادة تنظيم الداخل والرهان فقط عليه، فقام بتأسيس «نادى المدارس العليا» فى عام 1906 ليكون بمثابة منتدى ثقافى وسياسى للشباب المصرى المثقف، وتمكن من استغلال الغضب الناتج عن حادثة دنشواى فى 1906 ليزيد من وهج الحركة الوطنية ويقنع المزيد من المصريين بأنه لا كرامة مع الاحتلال!

فى سنوات قليلة تمكن مصطفى كامل من وضع تنظيم مؤسسى وإعلامى له جذور شعبية وشبابية وفنية وعلاقات دولية للحركة الوطنية المصرية إلا أن القدر لم يمهله طويلا فرحل عن الحياة فى 1908 وهو فى الرابعة والثلاثين من العمر بعد فترة مرض قصيرة

يشرح الرافعى فى كتابه «مصطفى كامل باعث الحركة الوطنية» والمنشور فى 1939 بواسطة مطبعة الشرق بالدرب الأحمر، قدرات مصطفى كامل التنظيمية حيث طور الأخير من كفاحه الوطنى بأن حاول نقل الرأى العام المصرى إلى الغرب عن طريق زياراته المكثفة للغرب للحديث عن القضية الوطنية المصرية ومسألة الجلاء الإنجليزى، كما قام فى عام 1907 بإنشاء جريدتين، الأولى هى جريدة «ليتندار إيجيبسيان» وهى بالفرنسية، والأخرى هى «ذا إيجيبسيان استاندرد» بالإنجليزية، بالإضافة قطعا إلى جريدة اللواء التى كان قد قام بإنشائها فى 1900 لتنقل الرأى العام المصرى إلى الشرق. وفى نفس هذا العام أعلن كامل تأسيس الحزب الوطنى فى 1907 ليكون هدفه الأساسى هو جلاء الإنجليز ووضع دستور يكفل الرقابة البرلمانية على الحكومة ويعمل على تطوير نظم الزراعة والصناعة والتجارة نحو نهضة مصرية شاملة.
وهكذا وفى سنوات قليلة تمكن مصطفى كامل من وضع تنظيم مؤسسى وإعلامى له جذور شعبية وشبابية وفنية وعلاقات دولية للحركة الوطنية المصرية إلا أن القدر لم يمهله طويلا فرحل عن الحياة فى 1908 وهو فى الرابعة والثلاثين من العمر بعد فترة مرض قصيرة.
كانت وفاة مصطفى كامل هزة قوية للحركة الوطنية، فكامل الذى جاب أوروبا وخاطب برلماناتها بحصافة من أجل كشف حقوق المصريين المنتهكة والذى كون شبكة علاقات داخلية وخارجية معقدة رحل ليترك مقعده شاغرا فى قيادة الحركة قبل أن يشغله سريعا الزعيم محمد فريد والذى أكمل الكفاح الوطنى، وأنشأ النقابات وأخذ فى تنظيم الصفوف من أجل تحقيق الهدف الأسمى وهو جلاء الإنجليز عن مصر!

إقرأ على موقع 180  طفح الكيل.. أين الأبناء الشرعيون لـ17 تشرين؟

***

قبل أن نكمل تاريخ الحركة الوطنية والكيفية التى سارت بها سنوات الخديوى عباس الأخيرة فى الحكم، علينا هنا التوقف قليلا أمام معضلة كبرى فى المقارنة الحتمية بين حركة عرابى وحركة مصطفى كامل، والحقيقة أن المقارنة لها أسبابها السياسية الواضحة، ذلك أنه من شأن هذه المقارنة أن تقودنا لتحليل الكيفية التى تطورت بها الحركات الوطنية المصرية والطريقة التى نمت بها التنظيمات السياسية المصرية، لكن هناك أسبابا أخرى للمقارنة، وهى أن قادة الحركة الوطنية الثانية عمدوا إلى تشويه الحركة العرابية بغلظة لا تخلو من أنانية وشللية واضحة!
فمصطفى كامل كان على ما يبدو يغار من عرابى ويدرك جيدا أن المقارنة مع الأخير حتمية، ومن ثم فقد أخذ فى تشويه ثورة عرابى واتهمه بأنه السبب فى احتلال الإنجليز لمصر! بل إن أمير الشعراء أحمد شوقى والمقرب من كامل نظم أبياتا فى هجاء عرابى بعد عودته من المنفى ومن بعض هذه الأبيات:

صـَغـار فى الذهـاب وفى الإياب/ أهــذا كـل شــأنك يـا عرابي؟
عفـا عـنك الأبـاعد والأدانى/ فمـن يعـفو عن الوطن المصاب؟

وإذا كان من الممكن تبرير اندفاع شوقى وكامل بصغر السن وقلة الخبرة وحماس الشباب، حيث كان شوقى وقت عودة عرابى من المنفى فى منتصف الثلاثينيات، وكان كامل فى أوائل الثلاثينيات، إلا أنه ليس من المفهوم مثلا أن مؤرخا كبيرا كالرافعى يصر على ترديد كلام مصطفى كامل وهو فى أرذل العمر عن أن عرابى السبب فى الاحتلال الإنجليزى لمصر! ذلك أن أى دراسة محايدة لتاريخ الثورة العرابية يمكنها سريعا أن تكشف أن عرابى لم يفعل شيئا لم يكن ليتوجب عليه فعله، فالرجل مصَّرَ الجيش وأعاد هيكلته للمصلحة الوطنية، كما كان أحد أسباب التطور السياسى والدستورى فى مصر، ولذلك فإذا ما كنا حقا بصدد لوم عرابى على الاحتلال البريطانى، فماذا عن الخليفة عبدالحميد الثانى ومؤتمر الأستانة الذى أقيم على بعد أمتار من قصره ومهد للاحتلال؟ وبماذا يفسر الرافعى أن كامل نفسه كان مؤيدا للخليفة العثمانى بعكس عرابي؟
على أى حال، يجب أن يتم قراءة التاريخ بتفاصيله وعموميته أيضا، التفاصيل بها الكثير من الحقائق المزعجة عن كلتا الحركتين، لكن المؤكد أن كلا الزعيمين يمكن وصفهما بالوطنيين، ولا يمكن أبدا إنكار دورهما فى تنظيم الحياة السياسية المصرية فى فترة هامة وعصيبة من تاريخ الوطن.

(*) بالتزامن مع “الشروق

Print Friendly, PDF & Email
أحمد عبدربه

مدرس النظم السياسية المقارنة بجامعة القاهرة وأستاذ مساعد زائر للعلاقات الدولية بجامعة دنفر

Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
free online course
إقرأ على موقع 180  "المعلم جورج"