يقابل هذا التقهقر تقدّمٌ أسس له رئيس وزراء الشاه ميرزا محمد تقي فراهاني، المعروف بأمير كبير، والملقّب أيضًا بأمير النظام والمُصلح الإيراني الأول، والذي أسس مدرسة دار الفنون في طهران، وانتهى به الأمر قتيلًا في حمام فين في مدينة كاشان بأمر من والدة ناصر الدين.
مدرسة دار الفنون نفسها كانت في ربيع العام 1858 منصّة لأول إنجاز على مستوى الاتصال الحديث في إيران، خط التلغراف الأول الذي وصل المدرسة بقصر غلستان الملكي والقصر بحديقة لاله زار المفضلة لدى الشاه. صاحب الفكرة كان مالكوم خان، الدبلوماسي العائد من مفاوضات باريس بين بريطانيا وفارس التي تلت الحرب. جلب مالكوم خان معه الفكرة وطرحها على الشاه الذي تشجع وأمر ببدء التجارب، ومن ثم كان أول من جرّب الخدمة الجديدة وأمر بتطويرها وتوسعتها رغم معارضة القنصل البريطاني. انتهى الأمر بمالكوم خان منفيًا إلى بريطانيا لاتهامه بالترويج للماسونية، ليتحوّل بعدها لأحد ألدّ معارضي النظام.
أما التلغراف فتحوّل بعد ثلاثة عقود إلى أداة للتواصل بين المنتفضين على الشاه، في ما عُرف بانتفاضة التنباك أو التبغ، وذلك بعدما منح قبلة العالم، كما كان يعرف الشاه، الحق الحصري لبيع وشراء التبغ في مملكته لشركة بريطانية مقابل ثمن بخس.
شكلت رسائل زعيم الحوزة الدينية ميرزا محمد حسن الشيرازي عبر التلغراف للشاه تحذيرًا مباشرًا، ولمّا لم يُصغَ للتحذير استخدم المرجع التلغراف لتصدير فتواه الشهيرة بتحريم التبغ لجميع الإيرانيين، بما في ذلك بلاط الملك نفسه.
ولعل هذا الانتشار هو ما ساهم في نجاح الضغط وتراجع الشاه، وهو ما أسس لتحرّكات عدة لاحقًا، بما في ذلك اغتيال الشاه على يد ميرزا رضا كرماني بأمر من جمال الدين الأفغاني، ولاحقا الثورة الدستورية حيث تحوّلت التلغرافخانه إلى نقاط تجمّع للثوار في المدن الكبرى.
بين تلغراف أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، وأشرطة كاسيت الإمام الخميني أواخر العقد الثامن من القرن العشرين علاقة تسليح متشابه لوسائل التواصل الحديثة بحسب العصر.
ولعلّ هذا ما دفع البعض لتشبيه كاسيتات الخميني حينها بالتغريدات في يومنا هذا، كانت لحظة أراد فيها قائد الثورة إيصال صوته لمناصريه، وكانت عاملًا حاسمًا في التعبئة وسمحت له بالوصول إلى الجماهير، بل وإيجاد ما يمكن وصفه بأداة قيادة وسيطرة للتوجيه من خارج الحدود. كانت أشرطة الخميني تُسَجَّلُ كل يوم وتُبَثُّ عبر الهاتف، حيث يعمد أنصاره في الداخل إلى توزيعها بشكل سريع. وبحسب ما ينقل الكاتب الإيراني المعارض والموالي للشاه أمير طاهري عن رئيس السافاك، جهاز الأمن الخاص في نظام الشاه، فإن العام 1978 وحده شهد نسخ ما يزيد عن مئة ألف شريط داخل إيران.
ربما لا يمكن مقارنة أعداد الأشرطة المنسوخة في نهاية السبعينات بالتغريدات التي يُعاد تغريدها في زمننا هذا والموجهة ضد نظام الجمهورية الإسلامية خلال موجات عديدة من التظاهر على مدى السنوات الماضية، لكنّ عملية تسليح وسائل التواصل ضد النظام ولصالح النظام منذ 2009، حين خرجت تظاهرات معترضة على نتائج الانتخابات الرئاسية، شكلت نقطة تحوّل في توظيف التواصل الاجتماعي في العلاقة بين الأنظمة والمعارضات من جهة، وفي العلاقات الدولية من جهة أخرى.
ولعلّ طلب وزارة الخارجية الأميركية العلني من شركة “تويتر” تأجيل عملية تحديث وصيانة ضرورية للنظام كي لا تنقطع الخدمة عن الإيرانيين المعترضين على نتائج الانتخابات، وتجاوب الشركة مؤكدة أنها تخاطر لأنها تعرف الأهمية التي تكتسبها المنصة كوسيلة تواصل أساسية في إيران، إشارة واضحة إلى مدى التداخل بين منصات التواصل العالمية والحكومة الأميركية في ملفات الأمن القومي.
من “التلغراف” إلى “تويتر”، تسليح التواصل لا يبدو وكأنه يخضع لسقف، لكن اللعبة بدورها تستمر وتتطوّر بشكل سريع، وكأنها مبارزة شطرنج يستخدم كل طرف فيها الأحجار التي تناسب اللحظة، بأمل أن تكون الخطوة اللاحقة خطوة الكش ملك، إلا أنّ الواضح بعد كل هذه السنوات أنّ الملوك على هذه الرقعة بأرواح عديدة
أدرك النظام مبكرًا أنّ تسليح التواصل الاجتماعي يمكن له أن يحوّل ساحات المدن الإيرانية خلال أيام إلى قنابل موقوتة في وجهه، لذلك عمد مباشرة إلى مداواتها بالتي كانت هي الداء. التسليح مقابل التسليح. قرر النظام مباشرة فرض قيود على استخدام الانترنت، وتحديدًا حظر منصات التواصل الاجتماعي الأكثر شعبية مثل ”تويتر” و”فيسبوك”. ولأنّ الإعلام العالمي اتجه نحو وصف الانتفاضة في العام 2009 بثورة التويتر، كان لإغلاق الموقع وبقية المنصات أثره الكبير في قطع التواصل واحتواء الحراك، إلى جانب أدوات أمنية وعسكرية وسياسية وشعبية أخرى.
بالتوازي، كانت الولايات المتحدة وإسرائيل تتعاونان في تجهيز هجوم رقمي هو الأول من نوعه من خلال فايروس “ستاكس نت” على البرنامج النووي الإيراني، والذي جرى بين نهاية العام 2009 وبداية العام 2010. أدى الهجوم إلى إلحاق ضرر كبير بالبرنامح النووي الإيراني، ولكنه أيضًا سلّط الضوء لدى القيادة الإيرانية أكثر وأكثر على عملية تسليح الإنترنت، لا فقط على مستوى صناعة الرأي، بل وحتى تحويله إلى ما يشبه الصاروخ الخارق للتحصينات.
قرر الإيرانيون تصميم هجمة مرتدة برؤوس متعددة، تطوير جيش سيبراني يقود حربًا إلمترونية ويصبح خلال سنوات قليلة واحدًا من اللاعبين الرئيسيين في المسرح العالمي للحروب السايبرية، بحسب دراسة أعدّها معهد دراسات الأمن القومي في جامعة تل أبيب.
كذلك، عن قصد وتنسيق أو من دون ذلك، أطلق الإيرانيون منصات شخصية لمسؤولين وصنّاع قرار، من القائد الأعلى وما دون، بدت وكأنها تهدف لتقديم صورة مختلفة عن المسؤولين الإيرانيين، بغض النظر عن المواقف المتباينة. ما بدا واضحًا هو أنّ هناك في طهران من أراد أن يتولّى زمام المبادرة بعدما كان لسنوات أسيرًا لردة الفعل. بغض النظر عن النجاح والفشل، حجز الإيرانيون لهم مكانًا في مساحة الدبلوماسية العامة الرقمية، بحيث أصبحت تغريدات القائد الأعلى والرئيس ووزير الخارجية وغيرهم من المسؤولين تحتلّ حيّزًا من وسائل الإعلام المعادية كما الموالية بحكم الأمر الواقع. ولعل تجربة وزير الخارجية السابق محمد جواد ظريف على “تويتر” خير مصداق على ذلك.
وكما حجز النظام مساحته، حجزت شخصيات إيرانية معارضة مساحة لها وأصبحت قادرة على الوصول إلى الداخل عبر منصات مختلفة. توفّر كواسر الحجب من جهة، تطبيق “انستغرام” من جهة ثانية، ظهور منصة “كلوب هاوس” من جهة ثالثة، إضافة إلى “تويتر” و”فيسبوك” و”تلغرام” وغيرها، للمعارضين منبرًا أمكنهم من خلاله الولوج مجددًا إلى الداخل، لا سيّما في أوقات الهدوء.
هكذا انطلقت حملة الأربعاء الأبيض التي أطلقتها من نيويورك الصحفية الإيرانية المعارضة “مسيح علينجاد”، والتي شجّعت النساء على خلع الحجاب في الساحات والشوارع.
حروب الهاشتاغ استعرت بين مؤيدي النظام والمعارضين، ودخلت على الموجة جماعة “مجاهدي خلق” التي نظّمت جيشًا إلكترونيًا بلغات مختلفة على المنصات الأكثر شعبية في البلاد لبث دعاية مناهضة للنظام وداعية لإسقاطه.
نقطة التحوّل الجديدة كانت تظاهرات 2022 التي خرجت بعد وفاة الشابة الإيرانية مهسا أميني بشكل مثير للجدل بعد اعتقالها على يد الشرطة الدينية. عملية التسليح أخذت منحى مختلفًا وعملية الحظر والإغلاق أيضًا. ولأنّ الانترنت أصبح أكثر حضورًا في الحياة اليومية للدولة كما المواطنين، ولأنه حجز مساحة له في الاقتصاد، لم يعد سهلًا إغلاقه لأنّ ذلك سيعني خسائر بالملايين، وبالتالي ذهب النظام نحو إحياء مشروع الانترنت القومي القائم على تأسيس شبكة انترنت داخلية غير مفتوحة على الشبكة العالمية.
في المقابل، ذهب المعارضون لمطالبة الدول الكبرى بالمساعدة في تأمين انترنت فضائي، وهو ما دفع إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن للتوجه لرجل الأعمال إلون ماسك، وهو أيضا مالك “تويتر”، لتأمين انترنت للإيرانيين، على غرار ما قام به في أوكرانيا.
من “التلغراف” إلى “تويتر”، تسليح التواصل لا يبدو وكأنه يخضع لسقف، لكن اللعبة بدورها تستمر وتتطوّر بشكل سريع، وكأنها مبارزة شطرنج يستخدم كل طرف فيها الأحجار التي تناسب اللحظة، بأمل أن تكون الخطوة اللاحقة خطوة الكش ملك، إلا أنّ الواضح بعد كل هذه السنوات أنّ الملوك على هذه الرقعة بأرواح عديدة.
(*) بالتزامن مع “جاده إيران“