السيّاب.. شاعر مطري غيّر مجرى نهر القصيدة

سيرة بدر شاكر السيّاب مغرية للقراءة.. وشعره أكثر إغراءً، بصوره ومراحله ومفرداته وعذاباته. شاعر لم يسعفه الزمن، فمات شاباً صغيراً وفقيراً، لكنه ترك إرثاً مطبوعاً في ذاكرة أهل الشعر والحب والمطر.

كانت أيدينا تُصفق ونحن نُغنيها، عندما نفرح ونحن نركض تحت المطر، وأقدامنا توغل بالطين نحن أولاد الريف عندما كنا صغاراً إلى أن كبرنا حيث أشرف بدر شاكر السيّاب من جديد على إعادة صياغة العلاقة بيننا وبين المطر الذي كنا نراه قطرات فرح وقت كنا أطفالاً.. وبتنا نراه سحائب غيوم حزينة، عندما كبرنا نحن أبناء السيّاب الذي كان المطر جواز عبوره إلى بوابة العالم الشعري عبر أنشودة المطر التي كرّست إسمه شاعراً لا ينافسه أحد على المكانة التي إحتلها.

وبرغم ما قيل وسيُقال حول من له ريادة الحداثة في الشعر العربي الحر؛ السيّاب أم نازك الملائكة؟ سيبقى السيّاب الشاعر الأقرب للقلوب كلما قرعت أجراس الميلاد بموسيقاها الجميلة وروعة بياض الثلج في لحية بابا نويل. ولا أستطيع أن أتملص من ذاكرتي الصعبة إلا وأذكر وصف الدكتور عيسى بُلاطه في كتابه عن “بدر شاكر السيّاب حياته وشعره” (دار النهار للنشر، 1971)، ومادة الكتاب هي رسالة الدكتوراه للمؤلف عيسى بُلاطه والتي استقى معظم موادها من مقابلات مع أصدقاء الشاعر وأهله.

في وصف جنازة السيّاب، يقول بُلاطه:

“في ليلة الميلاد، غادرت السيارة المشفى الأميري في الكويت تحمل جثمان الشاعر يرافقه صديقه الشاعر علي السبتي متجهة إلى مقبرة الحسن البصري في مدينة البصرة حيث كانت المدينة تغرق بغزارة الأمطار. كأن أقواس السحاب تشرب الغيوم وقطرة فقطرة تذوب في المطر”.

***

هكذا أراد القدر لشاعر المطر أن يرحل والمطر يُبلل الكفن ومن قال إن الشعر ليس نبوءة؟

الشاعر العراقي بدر شاكر السيّاب (1926 – 1964) لم يسعفه العمر (40 عاماً) كي يُكحّل عينيه بقصائده وهي تسري كالنار في الهشيم على ألسِنَةِ العرب، لا سيما قصيدته الأشهر والأجمل “أنشودة المطر”. تلك القصيدة التي عنونَت ديوانه، تناقلتها الشفاه ببهجة كبيرة وكأنّ العالم إكتشف المطر من خلال هذه الأنشودة أو غيوم الشعر في فضاء السيّاب:

أنشودةُ المطرْ

مطرْ..

مطرْ..

مطرْ..

تثاءب المساء،

والغيومُ ما تزالْ

تسحُّ ما تسحّ من دموعها الثِقالْ

كأنّ طفلًا بات يهذي قبل أن ينامْ

بأنّ أمّه التي أفاق منذ عامْ

فلم يجدها، ثمّ حين لجّ في السؤالْ

قالوا له: (بعد غدٍ تعودْ)

لا بدّ أن تعودْ

وإنْ تهامس الرفاق أنها هناكْ

في جانب التلّ تنام نومة اللّحودْ

تسفّ من ترابها وتشرب المطرْ

كأن صيادًا حزينًا يجمع الشِّباكْ

ويلعن المياه والقَدَرْ

وينثر الغناء حيث يأفل القمرْ.

***

اعتمد بدر في أسلوبه الشعري على التجديد. كان يعتبر أن الشاعر الحديث مطالب بخلق تعابير جديدة وعليه أن ينحت، لا أن يرصف بالآجر القديم. كذلك هو السيّاب شاعر مكاني، عالم الأمكنة في قصائده، واسع ومتعدد من البيت والجدار والقرية والمدينة والنهر والخليج، وتحديداً نهر بويب الذي يفصله عن بيته مسافة نسمة، أو صوت ماء يجري ويحفر في وجدان السيّاب وذائقته المطرية.

هذا النهر حاضر في العديد من نصوص السيّاب الشعرية، وإذا كان محمد مهدي الجواهري وحافظ إبراهيم وغيرهم من الشعراء أبناء حضارات الأنهر كدجلة والنيل والفرات قد خلّدوا هذه الأنهر في منجزهم الشعري، فإن السيّاب فعلها أيضا برغم أن نهر بويب ساقية صغيرة قبالة تلك الأنهر، إلا أن السيّاب خلّده شعرياً وذاع صيت هذا النهر ومعه صيت قرية “جيكور” الصغيرة التي ولد الشاعر وترعرع فيها.

ويتردد أن كلمة “جيكور” فارسية وتعني الرجل الاعمى، وربما كان يسكنها رجل فقد بصره لكن كان من ذوي النفوذ في هذه الناحية ولهذا أسميت “جيكور”. كما يقال إن كلمة “جيكور” تعني الجدول الاعمى وفي هذه المنطقة بنى صاحب الزنج علي بن محمد عاصمته المختارة سنة 250 هجرية عندما ثار على الدولة العباسية.

***

من هذه العزلة العمياء خرج الشاعر كشهاب في فضاءات الشعر، لعل دراسة السيّاب للأدب الإنكليزي زادت من خبرته وإطلاعه على تجارب شعرية من خارج لغة الضاد، فهو تأثر بالشاعر الأميركي ـ الإنكليزي توماس ستيرنز إليوت (ت. إس. إليوت) ورامبو وطاغور، ومن الشعراء العرب كان إلياس أبو شبكة محط إهتمامه ولذلك زار السيّاب لبنان للتعرف على شعرائه، ومدّ جسوراً مع أسرة مجلة “الآداب” البيروتية، اليسارية الهوية، والتقى بجماعة مجلة “شعر” التي كانت في بدايتها التأسيسية في نهاية الخمسينيات على يد يوسف الخال وثلة من شعراء الحداثة اللبنانيين والعرب، فكان أن ارتبط السيّاب بمعظمهم بصداقات عميقة، ولا سيما محمد الماغوط الذي خص السيّاب بقصيدة من عيون شعره قال فيها:

يا زميل الحرمان والتسكع

حزني طويل كشجر الحور

لأنني لست ممدًا إلى جوارك

ولكنني قد أحل ضيفًا عليك

في أية لحظة

موشحًا بكفني الأبيض كالنساء المغربيات.

***

إقرأ على موقع 180  "يا واش يا واش".. و"السيد حسن"

لا بد لزائر البصرة وعاشق الشعر والسيّاب إلا أن يعرج نحو أبي الهلال الخصيب لزيارة قرية “جيكور” جنوب شرق البصرة بحثاً عن مادة الشعر السرية والسحرية، ولا مناص من البحث والدخول إلى منزل السيّاب مستحضرا فتى “جيكور” وروحه ومكانه ومن دون ان يتأخر للوقوف على طرف بويب النهر الذي لم يبقَ منه إلا بركة صغيرة من الماء تدل على المكان، لكأن النهر غرق في جوع العراق ولم يبقَ منه إلا الصدى، ثم يكمل الطريق بأسى نحو شط العرب حيث تمثال الشاعر البرونزي هناك. هذا هو السيّاب، شاعر عراقي غيّر مجرى نهر القصيدة، من مكان إلى آخر وطغى اسمه في البصرة على اسم عتبة ابن غزوان مؤسسها.

عندما زرتُ مدينة البصرة تتبعت خطى السيّاب وأحوال المطر وانشودته. سرتُ على بصيرته وألقيتُ التحية على البصرة ومن فيها من بوابة شاعرها الأعز:

شَوْقِي إِلَى بَصرةِ السَّيابِ أَتْعَبَنِي

وَلَنْ يُذِيبَ لِقَائِي (الشُّوگْ لِلبَصْرَه)

أَحِنُّ للنَّخلِ فِي جَيْكورَ مُؤْتَلِقًا

فَهَلْ لِنَخْلِكِ يَا “جَيْكورُ” مِنْ نَظْرَة؟

أَمَا يُبَالِي ”بُوَيْبٌ” أَنَّ بِي عَطَشٌ

مِنْ عَهْدِ ”بَدْرٍ”؟ فَهَلْ مِنْ مِائِهِ قَطْرَة؟

رَأَى الغَرِيبُ “شَناشيلَ اِبْنَةِ الچلَبي”

فَمَاتَ فِي قَلْبِهِ مِنْ وَصْلِهَا حَسْرَة

مَا لِلعِرَاقِ سِوَى ”بَدْرٍ” يُنَوِّرُهُ

فَكَيْفَ ضَيَّعَ فِي عَتْمِ الدُّجَى بَدْرَه.

Print Friendly, PDF & Email
نوال الحوار

شاعرة وإعلامية سورية

Premium WordPress Themes Download
Free Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
free online course
إقرأ على موقع 180  كيف تقرأ إسرائيل الصفقة الأميركية الإيرانية بشأن الأسرى والأرصدة؟