فلسطين، منذورة دائماً لحريتها. وحريتها برنامج عمل يومي، وأمرة أحلام واعية، ومدى لأفق مرسوم بالدم والحياة.
فلسطين، ليست سياسة. السياسات العربية، لم ترقَ بعد إلى مرتبة الجدل البيزنطي. إنها سياسات متغَولة في التآكل. يطربون كثيراً بصراعات بيزنطية تنزف هراءً. صباحاً، يصدقون الأخبار. يشتركون في استقراء التصريحات. يأخذونك إلى حرب الطرشان في أوكرانيا، واصطفافات اليمن، وعداء ثم مصالحة إيران والسعودية، ثم إلى التفلسف السخيف حول الأنظمة العربية التالفة أو التافهة (سيَان). ثم يتورطون بجرأة المفلسين، في قضايا دولية، لإبداء رأي بحماسة غبية. هم هنا ومع هناك. والنتيجة: “كف عدس”.
فلسطين لا تنتمي إلى ما هو ومن هو خارج ترابها وسمائها وأفقها ومأساتها. فلسطين فلسطينية: ليست ضفة، ولا قطاعاً، ولا مستوطنات، ولا مكبرات صوت، ولا آيات، ولا منظمات، ولا سلطة فاسدة ومفسدة. فلسطين ليس مأواها وحائط مبكاها، الجامعة العربية، و”الجمهوريات” والممالك العربية المتوارثة. هؤلاء شهود زور، وأنظمة ارتكاب، وسوق بيع وشراء. فلسطين ليست سنية ولا شيعية ولا مسيحية.هي فلسطين فقط. لا تحتاج الى ما يُضاف إليها. كنية الشعب الفلسطيني: فلسطين.
فيا أيها الغبي، فلسطين تستحق أن تكون فلسطينية، ثم، لكل حادث حديث. هذا يعني أن الالتزام ليس مناسبة كلام. كل الأنظمة ساهمت، بحسن نية أو سوئها، في قيادة فلسطين، إلى خرابها. بل احتلالها بالكامل، بعد حروب المسخرة. في حربين “عربيتين”، فازت فيهما “إسرائيل” الصغرى، على “الأمة الكبرى”.
كل هذا الماضي العربي، هو ماض غير فلسطيني، والذين حاولوا، فشلوا بعد انهيارات على الجبهات العسكرية. الجيوش، كما يجب ان نستنتج، ليست للتحرير. و”المقاومات” العلنية، الخطابية، المنتشرة، والمستوطنة فوق الأرض، هي مشروع استشهاد مجاني. تذكروا جيداً، أن الجيوش العربية، هي جيوش لحراسة الأنظمة الاستبدادية، أو جيوش الإنقلاب على حكم الجيوش السالفة.
كفى ثم كفى. لا يُعوَّل على العسكر. ولا يُعوَّل على أي جبهة، ولا على أي توازن قوى. التعويل هو على الفلسطيني الذي لا يثرثر ولا يتنطح سياسياً ومذهبياً. التعويل هو على المقاومة السرية المطلقة، من داخل وعمق الداخل في فلسطين. كل منظمة معلنة، معرضة إما للإبادة، وإما إلى وقف إطلاق النار. “غزة” نموذجاً. الضفة كذلك.
هل هذا واقع أم تخريف؟
راجعوا خسائرنا “الفلسطينية” منذ ما قبل اعتداء الصهيونية، مُدعّمة بغرب جهنمي، كذّاب، منافق، أخلاقه في فوهة بندقيته، وطموحه الرأسمالي. غربٌ معاد وعدواني، شلَّع خريطة عربية، وزرع فيها كيانات مُطوَبة لأمراء وملوك وجيوش وسلالات وطوائف ومذاهب.
فلسطين، دينها فلسطين. كل دين آخر هرطقة.
وعليه، لا بد من أن تكون فلسطين البداية وفلسطين النهاية. لبنان خاض تجربة فلسطينية، فانقسم وانتقم. تدمَّر. تمزّق. تشلَّع. اللبنانيون متعادون: من مع السعودية هو عدو لمن مع إيران. ضاعت فلسطين في لبنان. صارت خنادق قتال لفظي. المقاومة في لبنان، تستدرج إلى التلبنن العتيق والمهترئ. تصير عبئاً. بدل أن تكون مساراً، أفقه التحرير، عندما تحين لحظة الطوفان الفلسطيني القادم.
لا ننسى أن فلسطين ولادة. الذين تعبوا تخلوا، والذين شبوا وتوالدوا، عادوا إلى الحجر، وهو يصيب. وإلى الطعنة وهي تدمي، إلى المفاجأة وقد أبلوا. “إسرائيل” خائفة. هذا جديد مجهول. إسرائيل لا تخشى فلسطينياً مدججاً بالمؤسسات والكلمات.
كفى ثم كفى. لا يُعوَّل على العسكر. ولا يُعوَّل على أي جبهة، ولا على أي توازن قوى. التعويل هو على الفلسطيني الذي لا يثرثر ولا يتنطح سياسياً ومذهبياً. التعويل هو على المقاومة السرية المطلقة، من داخل وعمق الداخل في فلسطين. كل منظمة معلنة، معرضة إما للإبادة، وإما إلى وقف إطلاق النار. “غزة” نموذجاً. الضفة كذلك
هذه المقاومة العارية، ليست بحاجة إلى سلاح متطور. إلى صواريخ. إلى قاذفات. هذه قوى ردعية. التحرير ممنوع عليها. موازين القوى، دقيقة. أي “مغامرة تحرير” عسكرية تشعل حروباً كبرى. “إسرائيل”، ليست دولة محتلة. إنها رأس حربة غرب، أميركي، أوروبي، وشقيقة عدد من إمارات وممالك التطبيع. “تحرير” فلسطين خطر عليها. الذي يقلق الغرب، ان يمتشق الفلسطيني المكتوم، دمه وسكينه وحجره وسلاحه، ليستنفر الخوف عند المستوطنين.
الفلسطيني العاري، أقوى من كل الأنظمة. الحمايات الغربية والعربية والأميركية، لا تستطيع أن تجد ميدان قتال أو تنفذ خطة إلغاء. لا يُلغى شعب قرر أن يضمر حلم التحرير، وسهر عليه، وامتشق دمه.
إذاً ماذا؟
القوى المؤيدة للتحرير، وهي كثيرة، عليها أن تخرج من غوغاء التحليل. والتشدق بالأحلاف، والتمترس خلف الظروف الموضوعية، إلى آخره، من ترهات القول. الأجدى أن نعود إلى فلسطين، أدباً، مسرحاً، فكراً، ثقافةً، وانتماء. لا أستذة أبداً على الفلسطيني. الفلسطيني وحده، صدق معظمه، مع الأرض. أرضه سماؤه. أرضه عرضه. أرضه روحه. أرضه أفقه.. و”لا بد لليل أن ينجلي”، وسينجلي.
الإسرائيلي، عرف اللغز الفلسطيني. دايفيد غروسمان كتب ما يلي:
“إذا احتللت شعباً وقمعته، إذا أهنت زعماءه، إذا عذبت وقمعت شعبه، إذا لم تقدم له أي بصيص أمل، فإن هذا الشعب سيلجأ الى إسماع صوته. هل تصرفنا بشكل مشابه لما يقوم به الفلسطينيون؟ أما كنا نشبههم عندما تعرضنا للإحتلال”؟
وكتبت أميرة هاس:
“كان الاحتلال خطيئة مميتة لا تغتفر في نظر الفلسطيني، وباتت مفاوضات السلام كفراً وارتكاباً للكبائر”.
هذه يهودية تفهم معنى الاحتلال. ومعنى ان تقوم “إسرائيل” بإخضاع 40 ألف فلسطيني في الخليل لمنع التجول لشهر كامل وذلك لحماية 500 يهودي. من الطبيعي أن لا يتحدث أحد في “إسرائيل” عن هذا الأمر.
إن أفضل وصف لمآلات الفلسطيني، هو نشيد محمود درويش. لا تقل إن الشعر أدبٌ. إن بعض الشعر فعلٌ. يقول شاعر فلسطين والعرب:
“لا ينظرون وراءهم ليودعوا منفى
فإن أمامهم منفى
لقد ألِفوا الطريق الدائري
فلا أمام ولا وراء
ولا شمال ولا جنوب
ويرحلون من البيوت إلى الشوارع
راسمين إشارة النصر الجريحة
ثاكلين لمن يراهم:
لم نزل نحيا، فلا تتذكرونا”.
الفلسطيني، يكره الموت. يحب الحياة أكثر منا، لأنه محروم منها، فتشبث بها، له ولسواه. أنانيته ذات إحاطة واسعة: أنانيته الفلسطينية سلاحه.
أخيراً، يقول الفلسطيني: “لا وطن لدينا. إقامتنا خطرة. فقر فوق طاقة الاحتمال. إهانات وتهديدات متواصلة. سجن. قمع. إضطهاد. إذلال. تمييز عنصري مدعوم دولياً. إغتيالات مُدبّرة، في الداخل والشتات. نحن شعب أكثر من نصفه عاش ويعيش في مخيمات، وهم لاجئون ومهمشون”.
وبرغم ذلك، لدينا أمل عنيف يقاوم كل يأس. وديننا: أننا عائدون. لنا وطن نستعيده. الصراع مفتوح، إلى يوم قيامة فلسطين.
أيها الكتَّاب والأدباء والمثقفون والطليعيون:
لماذا غادرتم فلسطين؟ فلسطين الفلسطيني؟ لماذا لا تعودون إليها/إليه. فليكن اليوم الفلسطيني عندنا، هو يوم بعمر 365 يوماً وربع اليوم.
يا ليت.
ما أجمل الأمل. راهنوا على الفدائي المجهول، وكونوا حيث أنتم.. معه وله.