لِمَ هذا الكلام، فيما نحن نعيش محنة العلاقة بين الدين والتدين؟ الدين نص والتدين حياة. الحياة كما نعيشها فوضى. التدين هو حياة الدين، بوجوهها المتناقضة. الآيات في نصاب الوضوح. التدين في فوضى الحياة. وعليه، الدين ضوء، والتدين قوس من ألوان داكنة ودامسة، ونتف من الصدق مع الآية. وهنا، إذ أكتب عن التدَين لأقول الآتي: دعوا الدين بنصه ببراءة الصمت، ولنعش التدين المتعدد، المتناقض، المتسامح، العقابي، إلى آخره من الصفات. التدين هو صناعة بشرية أدت الى تكفير وصراعات وحروب وإبادات. الطوائف والمذاهب تديّن. تنتمي إصطفائياً إلى النص. والنص حمَّال أوجه، والإنسان ألعوبان في هذه الحياة. لا خط مستقيماً يتقنه ويتبعه سلوكاً، ولا يتورع عن الإصطفاء. قد سمّي ذلك إجتهاداً. فالإسلام واحد. والمسلمون لا عدّ لفرقهم. خاضوا حروباً وما زالوا. والأناجيل مرجع. والمسيحيون في كل منصة أو وادٍ يهيمون. التدين أسّس للعنف. التدين ليس عفيفاً. إنه عنيف. و”المجازر الأخوية”، كانت من حصة أكثر من ألفي سنة حتى اللحظة. لا تحفروا في الماضي لتتعرفوا على الكوارث والجرائم والإبادات. إسمعوا ما يحصل اليوم بين المتدينين. إذاً، الدين بريء من أتباعه. وأتباعه في كل وادٍ أو منحدر أو مصلحة يهيمون.
أما بعد، فما علاقة ما جاء أعلاه، بالمطران غريغوار حداد؟
نشأ بروتستانتياً. ترهبن كاثوليكياً. تُوّج مُطراناً على بيروت. انتهى مُطارداً ومطروداً من كنيسته. مات وهو ينتظر أن تعدل الكنيسة، المرجعية “الروحية” الإلزامية، لإنقاذ المؤمنين من خرافات سلطوية، عفا عنها الزمن وتخطاها العقل المحايد.
قرّر المطران غريغوريوس أن يخرج بالكنيسة الى الناس. “بيتي بيت صلاة يدعى، وقد حولتموه مغارة للصوص”. آية إنجيلية تمسَّك بها. الكنيسة لا تقوم بدورها. الله محبة. الكنيسة وسيلة خلاص. المذهب وجهة نظر. هكذا كان يفكر.
ثم، قرّر أن يخرج من السدة المطرانية إلى المجتمع. الله بحاجة إلى صلاتي. سأصليها. والناس بحاجة إلى مساعدتي، فأقام لنفسه منهجاً. الإقامة في الأماكن التي هجرتها الروح. أماكن البؤس. أماكن الظلم والمظلومين. قرع أبواب السلطة. مشروعه الروحي الفذ هو إطلاق ورشة التنمية. كان هذا هاجسه وبرنامجه.
قامت القيامة على المطران غريغوار، عندما أنشأ مجلة فكرية، تدعو إلى العلمانية. اتهموه. لم يرد. استمر في المشروع. كتب كتاباً دقيقاً جداً وواضحاً جداً، يُبرز فيه فضائل العلمانية في مجتمع متعدد الطوائف والأديان. تحلّقت حوله نخبة من الأساتذة والكهنة والراهبات قرّروا ممارسة الحياة الكهنوتية خارج الأديرة، وتحديداً في صلب الوجع الإنساني
أقلع في حياته الشخصية عن إقامة القداديس لـ”ملوك السياسة والمال”. فتح أبواب الكنيسة لأبناء المسيح وليس لحاشية بيلاطس. الأغنياء والزعماء يعيشون ليخدمهم الناس ورجال الدين. الناس حواشٍ. الناس منبوذون. المسيح قال: “تعالوا إليَّ يا معذبي الأرض”. الكنائس هنا وهناك وهنالك وفي كل مكان، مزدانة بالذهب والتماثيل والمنحوتات. بناءات فاخرة في مناطق محاطة بحصانة الأثرياء.
خرج المطران غريغوار عن النهج المتبع: الكنيسة أولاً؟ هو قام بقلب الآية: الإنسان أولاً. المسيح لم يساكن الأغنياء والأثرياء. كان صحبه من صيادي السمك والعمل اليومي. ويقال، لم يكن بينهم غني سوى يهوذا.
كثيرة هي المواقع التي تحوّلت من منابر للكلمات إلى أفعال. من في رتبته قاطعوه. كفّروه. حاربوه. حرّضوا عليه. هو من نهج مختلف. الطريق إلى السماء تمر حتماً برعاية المحتاجين والفقراء. الصلوات، ليست همهمة، بل نقاء الروح أولاً. مساعدة الغلابى أولاً. توزيع الفرح بدل أفعال الندامة والاعتراف والارتكاب. الأغنياء والأثرياء المرتكبون، لا يتلون فعل ندامة. هم معفون من واجب الندم على الإرتكاب. يأمرون فيطيعهم الإكليروس. تنشأ عصبة عصبية بين رجال الدين وبين رجال المال وأباطرة السياسة وأباليسها.. ليتحول المطران إلى مرجعية سياسية. والمرجعية السياسية في لبنان، مشبوهة. ترتع في الفساد. تأكل أموال اليتامى. لا يُردُ طلب لنافذ. حصة المطرانيات محفوظة. هم أحد صناديق المال. المال السخي من الدولة وأرباب المال غريب. إنهم يُعاملون النهابين كالقديسين. يتصدرون الصفوف الأولى. هذا هو فضاء الكنيسة المذهبة.
المطران غريغوار طلّق هؤلاء. صار مطران الفقراء والمنبوذين والأوادم. تجرأ على التقليد الديني. السياسة لا علاقة لها بالدين. الدين تفسده السياسة. السياسة مضادة للدين. ومع ذلك، فإن المرجعيات الدينية لا تجالس الفقراء، بل تختار الإقامة في الصالونات الوفيرة. ولا تزور إلا مواقع المرجعيات المالية والسياسية. المسيح كان للفقراء. المرجعيات داومت على زيارة قصر بيلاطس.
قامت القيامة على المطران غريغوار، عندما أنشأ مجلة فكرية، تدعو إلى العلمانية. اتهموه. لم يرد. استمر في المشروع. كتب كتاباً دقيقاً جداً وواضحاً جداً، يُبرز فيه فضائل العلمانية في مجتمع متعدد الطوائف والأديان. تحلّقت حوله نخبة من الأساتذة والكهنة والراهبات قرّروا ممارسة الحياة الكهنوتية خارج الأديرة، وتحديداً في صلب الوجع الإنساني. الفقر خطيئة قاتلة. حاسبوا النهّابين.
تداعت المرجعيات لتدشين حملة لرجم المطران حداد. اتهموه بما ليس فيه. نبذوه. رفعوا عليه دعوى إلى الفاتيكان. لم يناقشوه. لا يتجرأون على مواجهته. هو ليس مقاتلاً، ولكنه صاحب موقف. يشبه نفسه ولا يشبه أحداً سواه. لا مال، لا بهورة، لا نفاق، لا فخامة، لا سيارات، لا.. لا. لكل ما لا علاقة له بالمحبة، والأجدر بأن يُحبوا، هم إخوان يسوع: الفقراء، في بلد بُني على التغول الرأسمالي. مدارس الطوائف اللبنانية، قادرة على تعليم أولاد الفقراء، إذا شاءت واتخذت سيرة يسوع نموذجاً لها. ما حصل في لبنان، على مستوى الكهنوت والأبرشيات، هنا وهناك، دليل فادح، على أن المسيح والانجيل شيء، والكنائس المختلفة شيء آخر. بحيث أن البعض، لا يرى وجه شبه بين المسيح، الذي ولد في مزود، في بيت لحم الفلسطينية، وبين الأبراج العاجية وودائع الطوائف في المصارف، من روما إلى عندنا.. إلى أميركا اللاتينية التي أُبتليت بالجوع، إلى إفريقيا المحطمة. (عليَ أن أتوقف هنا خوفاً من شطط وعقوبة).
الإعلام الكهنوتي، ليس بحاجة إلى تلفزيون، يُلقّن فيقول. القداديس، الزياحات، المرجعيات، تبث كرهها للمطران. أسموه “لعنة كهنوتية”. تجرأوا على عزله. أعطتهم روما الإذن. صار وحيداً. اعتزل في أعالي الجبال اللبنانية. قرأ. كتب. صلى. وصمت صمتاً عميقاً أغنى روحه.
وذات يوم، في طريقه إلى تلفزيون مسيحي، تعرض للكم والضرب. بلغ بهم الكفر الإنساني، أن جعلوا من التدين مقصلة.. وبلا محاكمة.
أتساءل: هل المسيح هو رأس الكنيسة اليوم. طبعاً كلا وألف كلا.
يُحدثنا محبوه ومعاونوه مجاناً عن تقشفه. عن مصاريفه. عن وجبة الطعام. عن مائدته، إذا دعا إليها مجموعة. مائدة بائسة لا تشتهى ولكنها تشبع. سألوه مراراً. كان يجيب: “هلقد معي”. لا يعرف المال. ومع ذلك، ملوك الكنائس وتيجان الذهب وبطرشيل الفضة وعصا المطرانية المذهب، لا تعني له شيئاً. يفرح قلبه إن أطعم جائعاً، إن زار مريضاً، إن أنشأ مكتبة، إن أسّس مؤسسة.
لقد فازت الكنسية على غريغوار حداد. مات وكأنه كائن مجهول. كأنه أحد فقراء الأحياء الفقيرة. ولكن الذين صاحبوه في رحلته الأخيرة، أقنعونا، أنه لم يكن يريد غير ذلك. الموت ليس مهرجاناً. الموت هو نهاية حتمية للجسد. أما الروح.. فسلام على روحك يا غبطة المطران المعزول
خلاصة القول: الخلاف ليس دينياً البتة. الخلافات الإسلامية ليست ذات أصول دينية. الخلافات سياسية، والسياسة مصالح ومطامح ومطامع. من سقيفة بني ساعده إلى.. إلى.. إلى حروب التصفيات المجنونة راهناً. الخلاف في الأداء. هناك أداء إنساني وأداء لا إنساني.
وكما نُبذ المطران غريغوار حداد، نُبذ الشيخ ياسر عودة، مع الفارق البسيط في الوقائع.
السؤال الإلزامي: من فاز؟
الجواب بكل أسف: فازت المؤسسات الدينية. إنها مؤسسات راسخة في الحضور وفي حقب التاريخ. لقد فازت الكنسية على غريغوار حداد. مات وكأنه كائن مجهول. كأنه أحد فقراء الأحياء الفقيرة. ولكن الذين صاحبوه في رحلته الأخيرة، أقنعونا، أنه لم يكن يريد غير ذلك. الموت ليس مهرجاناً. الموت هو نهاية حتمية للجسد. أما الروح.. فسلام على روحك يا غبطة المطران المعزول.
وغداً، من سيثور؟ ياسر عودة أم أعداء عودة من المُعمّمين؟ يصعب التأكيد. جمهور لبناني، وربما عربي، إسلامي وغير اسلامي، يقف إلى جانب الشيخ. هل سيشكلون قوة بديلة؟ لا أعرف. السِير السابقة لا تشجع. ومع ذلك لا بد أن يعلو صوت صارخ في البرية. أعدوا الطريق الى الحق. ستشرق الشمس كل يوم. لا بد ان تكشح الظلام من نفوس أكثرية مؤمنة، ضلّلتها القوى السياسية والمالية.
سنتعلم منهما، ومن المطران إيلاريون كبوجي الكثير، مع معرفتنا المسبقة، بأن القبر وحده هو الذي يكون قد بدأ الموت.
فكم من أمة ماتت، لم ينقذها دينها، بل كان سبباً في صراعاتها وهلاكها وانحرافها وتشتتها.
خلاصة: السياسة تفسد الدين.. فارتدعوا حفاظاً على أديانكم.
طبعاً. هذا صوت صارخ في البرية، ولن يسمعه أحد.
مؤسف ومحزن ومحبط، أن تكون القوة وحدها، هي الحق.
تباً لهذه “الإنسانية”!