منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر يتعرض بعض الصحفيين والمثقفين لحملات حادة في فرنسا بحجة معاداة السامية المفترضة. ولكن من دون ذكر الإسلاموفوبيا. فقط اليمين المتطرف يربط بين اللاسامية وبين المهاجرين والإسلام بشكل عام.
وقد تطوّر الأمر وحصل ما لم يكن من الممكن تصوره قبل عشر سنوات، حيث ذاب اليمين المتطرف في الطيف السياسي الفرنسي جنبًا إلى جنب وتوافق على تقييد حريات التعبير والرأي والتظاهر، وذلك بموافقة وزير الداخلية. من جهتها، تقوم وسائل الإعلام، سواء بتصميم أيديولوجي أو بسبب كسل فكري، بتشبيه المظاهرات والتجمعات لدعم القضية الفلسطينية بمعاداة السامية». (راجع “لوموند ديبلوماتيك”، عدد فبراير/شباط 2024 الصادر في باريس).
لماذا تتميز فرنسا في هذا التقييم للاسامية؟
الولوج بالأسباب والمسببات والظروف الموضوعية التاريخية التي أوصلت إلى هذا الواقع الإعلامي المنحرف، يُوجب تسليط الضوء على بعض معالم «المجتمع الفرنسي» وتحولاته ويمكن الذهاب بعيداً في غياهب تاريخ فرنسا قبل الثورة وخلالها.
اللاسامية تعود إلى أزمنة الحملات الصليبية وهي كانت (ولعلها ما تزال) متأصلة في الفكر الأوروبي والفرنسي بشكل خاص. ففي تلك الأزمنة جاء البناء التاريخي لشخصية اليهودي في اللاوعي الأوروبي عبر علاقته بالشيطان (1)، وجاء ذلك بسبب الخلط بين «سبت السحرة» أو «السبت الشيطاني» وهو تقليد أسطوري في الأرياف الأوروبية، وبين تعبير Shabbat أو شابوس (في اللغة اليهودية) وهو اليوم السابع من أيام الأسبوع أي السبت. وهو يوم الصلاة والراحة مثلما هو يوم الأحد بالنسبة للمسيحيين والجمعة بالنسبة للمسلمين.
وبرغم أن هذا الموضوع واسع ويطال 21 قرناً من تاريخ المسيحية وترابطها باليهودية إلا أنني سأحاول اختصار اسس اللاسامية المتأصلة في أوروبا وخصوصاً في فرنسا عبر مراحل تاريخية أساسية:
أولاً؛ “معاداة اليهودية من المسيحية”:
تأسست منذ بدء المسيحية، واستمرت من العصور الوسطى حتى القرن العشرين. وقد برزت هذه المعاداة في عدد من الأعمال الفنية، وعلى سبيل المثال لا الحصر، في أعمال الفنان التشكيلي الإيطالي جيوفاني كانافيسيو Giovanni Canavesio (1492)، حيث يظهر في عدد من لوحاته السيد المسيح أمام قيافا (Caïphe)، محاطًا باليهود وعلى وجوههم بغض واشمئزاز. وقد دام هذا الكره الذي أجّجه ملوك فرنسا على أساس أن هذه الدولة، أي فرنسا، هي الإبنة البكر للكنيسة.
ثانياً؛ «الكراهية الاجتماعية»:
ظهرت مع الثورة الفرنسية التي حرّرت يهود فرنسا، وكانت مبنية على انفتاح المجتمع وتحرر الكتابة إلى جانب تفلت المشارب العلمانية المختلطة مع الفلسفة البروتستانتينية المادية، وبرغم اضطهاد الثورة للكنيسة إلا أن الـ«دوكسا الكاثوليكية» بقيت على رواسبها تعمل في لاوعي الشعب الفرنسي.
ثالثاً؛ «معاداة السامية العنصرية»:
ظهرت مع دخول العصر الصناعي وبروز طبقات عمالية مسحوقة والتي لاقت في ألمانيا ـ الدولة الأكثر تقدما صناعياً ـ التيار النازي الذي قاد إلى المحرقة. وفي فرنسا، كان أفضل تعبير عن هذه العنصرية اللاسامية المتفلتة تشريعات حكومة فيشي العميلة التي هتكت الميثاق الوطني بتسليم «مواطنيها اليهود الفرنسيين» إلى قطارات الموت التي توجهت بهم إلى المحرقة. وانتظرت فرنسا جاك شيراك لكي «يعترف» (1996) بمسؤولية الدولة الفرنسية عن التنكيل بمواطنيها من ذوي الديانة اليهودية ودفعهم نحو أفران أدولف هتلر. وما زالت فرنسا حتى اليوم ترتجف عند ذكر هذه الحقبة وتعمل بشكل حثيث على محوها من الذاكرة بتطرف من خلال محاربة اللاسامية.
مع الوقت بات المهاجرون المجنسون يشكلون 14% من سكان فرنسا وترافق وصول الجيلين الثاني والثالث من هؤلاء المهاجرين مع انفتاح العالم على مواقع التواصل وحرب العراق وانتشار الدعوة الإسلامية واحتدام الصراع على أرض فلسطين، وكل ذلك أدى إلى تنامي التباعد بين الطائفتين وارتسام خطوط تماس بين الفرنسيين اليهود والفرنسيين من أصول عربية غالبيتهم من المسلمين
رابعاً؛ «الحقبة المعاصرة ومرآة اسرائيل»:
ارتبطت هذه الحقبة بهذا «الشرق المعقد»، حسب قول الجنرال ديغول، ولكن لهذه المرحلة المعاصرة المستمرة حتى الأمس القريب، تاريخ متشابك مع مراحل السياسة الفرنسية وعلاقاتها مع الشرق (الشرق الأوسط والمغرب العربي).
وقد بدأت هذه المرحلة مع اندحار الإستعمار الفرنسي من شمال أفريقيا (المغرب، تونس والجزائر). مع استقلال الجزائر، هجر المستوطنون الفرنسيون البلاد وانتقلوا إلى فرنسا. وشكّلت هذه الهجرة المضادة موجة هائلة من الوافدين إلى فرنسا من أبريل/نيسان إلى يوليو/تموز 1962 واعتبروا من أصل أوروبي حتى قبل وصول المستعمر الفرنسي عام 1830 حيث كان وجود اليهود في الأرض الجزائرية يعود إلى أكثر من ألفي سنة. وقد ازداد عددهم مع سقوط الأندلس.
ضَمِنَ الإستعمار الفرنسي احترام الحرية الدينية لكل الجزائريين، وتم إلغاء «حساب الذمة» الذي كان يخضع له اليهود في البلاد الإسلامية. وقد يُفسّر هذا تأييد اليهود الجزائريين لفرنسا خصوصاً بعد أن أصبحوا مواطنين فرنسيين استناداً لمرسوم كريميو (Crémieux عام 1970). وهكذا اختاروا بأغلبية ساحقة العودة إلى فرنسا مع استقلال الجزائر بينما اختارت أقلية منهم اللجوء إلى إسرائيل. (في الواقع ما يزال بضع مئات من اليهود المحافظين يعيشون في الجزائر).
بعد العام 1962، جاءت حرب الأيام الخمسة عام 1967. ظهرت في فرنسا موجة عنصرية ضد العرب الذين هُزِموا أمام الجيش الاسرائيلي وباتت صور «أحذية الجنود المصريين» المرمية في صحراء سيناء مادة تهكم شهيرة في الأعلام الفرنسي وقتذاك. وبرغم أن استقلال الجزائر دفع بالعديد من التونسيين والمغاربة من الديانة اليهودية للهجرة إلى فرنسا ولكن لا يمكن القول إن الفرنسيين اليهود كان لهم دور كبير في هذه الموجة العنصرية، ولعل دعم مصر لاستقلال الجزائر كان المحرك الأول لهذه الموجة.
مع حرب تشرين/أكتوبر 1973 والإضاءة على عدم تنفيذ إسرائيل أي قرار من قرارات الأمم المتحدة، بدأت المسألة الفلسطينية تأخذ حيزاً في فضاء النقاشات السياسية الفرنسية ولا سيما في الأطياف اليسارية. وبخلاف ما يعتقد البعض، فإن اليسار الفرنسي كان أقرب للطروحات المؤيدة لإسرائيل من اليمين باستثناء اليمين المتطرف ذي النزعة النازية الذي كان يتصدى للديغولية وعارض الخروج من الجزائر والذي ما زال قسم منه «لا يعترف بالمحرقة» (والد مارين لوبن مؤسس حزبها حُكِمَ عليه قضائياً لأنه اعتبر مسألة المحرقة تفصيلاً من دون أهمية).
ومنذ نهاية الحرب العالمية يسعى اليمين الجمهوري واليسار لمحاربة اللاسامية عبر تأسيس «قاعدة تربوية محكمة» في محاولة لمحو ممارسات فرنسا الحافلة باللاسامية منذ قرون، وإن ألبسوا هذه القاعدة ثوب محاربة العنصرية.
كان اليمين متحفظاً على الاعتراف بما فعلته فرنسا وذلك لحماية الإرث التاريخي لفرنسا في مسألة حقوق الإنسان وتوجيه الاتهام باللاسامية إلى نظام فيشي الخائن، وكان ذلك تحت عباءة ووهج الجنرال ديغول المحرر، وكما ذكرنا أعلاه، ساهم جاك شيراك بتنفيس الإحتقان باعترافه بدور فرنسا بمعاونة النازيين.
اليسار الفرنسي كان يتجاهل هذه المسألة على اعتبار أن حكم فيشي كان يمينياً وبالتالي كانت أسهم الاتهامات لا توجه لليسار، خصوصاً بعد أن بدأ هذا اليسار ينحاز لدولة اسرائيل على أساس أنها “واحة ديموقراطية” وتُطبّق تقسيم العمل حسب نظريات يسارية كانت رائدة (الكيبوتز والتعاونيات).
ومع انطلاق المقاومة الفلسطينية واحتدام الصراع بين شرق سوفييتي وغرب أطلسي كان اصطفاف الرأي العام معادٍ للعرب بشكل عام وخصوصاً مع هبوط نعمة البترودولار على بعض العرب بموازاة ارتفاع اسعار النفط. ورافق ذلك نهاية ما تسمى «حقبة الثلاثينيات المجيدة»، أي سنوات نمو الاقتصاد الفرنسي، وبدء وصول اليد العاملة المغربية بداية ومن ثم الإفريقية ومعظمها من المسلمين الذين تم تجنيسهم.
في بداية الأمر كانت هذه العمالة «مترو + عمل + نوم» لا تلتفت إلى طيات السياسة الفرنسية ولم يكن معها وقت لذلك.
ومن المفارقات أن المهاجرين المغاربة سكنوا في نفس الأحياء التي سكنها اليهود القادمون من المغرب العربي (سفراد). وتمنع القوانين الفرنسية الحديث عن الدين وهوية المواطن الدينية. التعايش كان ودياً والتخاطب في السنوات الأولى كان يعكس تعدد لهجات المغرب العربي، وحصل الانصهار في مجتمع الضواحي الفرنسية من دون خضات بين مغاربة وسفراد.. والكل كان فرنسياً بالهوية، ومن يرتقي اجتماعياً، سواء أكان يهودياً أم عربياً يخرج من الضواحي إلى الأمكنة التي تعكس ترقيه الإجتماعي.
ومع الوقت بات المهاجرون المجنسون يشكلون 14% من سكان فرنسا وترافق وصول الجيلين الثاني والثالث من هؤلاء المهاجرين مع انفتاح العالم على مواقع التواصل الاجتماعي وحرب العراق (صواريخ صدام التي نزلت على اسرائيل) وانتشار الدعوة الإسلامية في أوروبا واحتدام الصراع على أرض فلسطين، وكل ذلك أدى إلى تنامي التباعد بين الطائفتين.
من هنا بدأت ترتسم خطوط تماس بين الفرنسيين اليهود والفرنسيين من أصول عربية غالبيتهم من المسلمين.
ولكن ماذا تُمثّل اسرائيل بالنسبة للفرنسيين اليهود؟
اليوم بات هناك ارتباط عضوي، ولكن في بداية المسيرة كانت دولة اسرائيل تمثل للفرنسيين اليهود «الملجأ»، أي الهروب من الحقبات الثلاث الأولى أي أن الثقة كانت شبه مفقودة، أضف إلى ما عانته هذه الطائفة من ألمانيا (لا بل كانت المعاناة شبه عامة في أوروبا). ولعل ما زاد من خوف الفرنسيين اليهود هو تنامي مشاعر معاداة إسرائيل بين الفرنسيين من أصول عربية، وهذا الخوف غطى على الأصوات المنتقدة لإسرائيل بين اليهود الفرنسيين وحتى على الإسرائيليين المنتقدين لسياسات حكوماتهم اليمينية المتطرفة.
ومنذ تفجيرات 1986 وما أعقبها من أعمال إرهابية، إنتقل خوف الفرنسيين اليهود من «المجتمع الفرنسي العميق اللاسامي» إلى نوع من الاسلاموفوبيا (2). وقد تنافست الحكومات الفرنسية المتعاقبة في محاربة اللاسامية بكافة ألوانها وإن كان اللون الإسلاموفوبي بقي هو المهيمن.
ومن هنا نرى أنه لا توجد «مؤامرة» والإعلام يذهب باتجاه مداراة «خوف المجتمع العميق» من ذكرياته اللاسامية وهو ما يفسر هذا الانحدار الأيديولوجي للإعلام منذ 7 تشرين/أكتوبر.
1) Blumenkranz Bernhard, Le Juif médiéval au miroir de l’art chrétien, Paris, Études Augustiniennes, 1966, p.11-39
2) Danielle Delmaire L’Histoire,”L’antisémitisme en France” https://doi.org/10.4000/tsafon.2696