المعتقل نضال أبو عكر.. فسحة حرية مؤجلة!

"الفرح خُطف يا ابنتي الحبيبة، لا تُرجئي موعد زفافكِ، كوني كما أنت دائماً، سيدة الفرح والبهجة والسعادة. سيكون فرحي بزفافك فرحاً كبيراً على الرغم من القيود والسجن والسجان، وسنؤكد للمستعمرين أننا حقاً، مثلما يقول شاعرنا الكبير محمود درويش: "نحب الحياة ما استطعنا إليها سبيلاً"، وأنهم لم ولن يتمكنوا من ضرب إيماننا بأن المستقبل سيكون لنا".

بهذه الكلمات خاطب المعتقل الإداري نضال أبو عكر “أبو محمد” (55 عاماً) من مخيم الدهيشة، ابنته دالية (27 عاماً) التي تستعد مع جميع أفراد العائلة والأصدقاء والصديقات ليوم زفافها (25 أيلول/سبتمبر 2023)، وذلك بعد تأجيل متكرر، بأمل تحرّر أبيها من الاعتقال الإداري التعسفي والعنصري.

منذ أن تمت خطبتها قبل 11 شهراً ودالية تعيش ثنائية “الأمل/اليأس” متشبثة بالأمل، تعدّ الأيام، بل الساعات، منتظرة نهار 29 تموز/يوليو 2023، على أمل بأن يشهد تحرر والدها من اعتقاله الإداري، ليكون فرحها وفرح أسرتها بزفافها مضاعفاً؛ لكن سيف الاعتقال الإداري المستل منذ نحو أربعة عقود ضد الناشط المجتمعي والصحافي نضال أبو عكر كان لها وله ولجميع أفراد الأسرة بالمرصاد، إذ قرر قائد ما يسمى “المنطقة الوسطى” في جيش المستعمرين الصهيونيين تجديد اعتقاله للمرة الثالثة على التوالي لستة أشهر أُخرى، وذلك بناء على توصيات ما يسمى جهاز الأمن العام “الشاباك” بذريعة الاشتباه في كونه يشكل خطراً على أمن المنطقة والجمهور!

وسيكون لعائلة أبو عكر أيضاً موعد فرح مع فسحة فرح غير مكتملة ومنتزعة من أنياب المستعمرين، وهذا الموعد هو 4 آب/أغسطس، ذلك بأن كرمل (25 عاماً)، الابنة الصغرى لنضال، ستتخرج من “دار الكلمة” في بيت لحم حيث تخصصت بدراسة الفنون. وسيكون “أبو محمد” حاضراً في حفل تخرجها وإن افتراضياً، من خلال حضور أشقائه وشقيقاته وابنه البكر محمد ووالدته وأصدقائه، وسيخاطبها قائلاً:

“لك كل الحب والفرح أيتها العزيزة، فترسانة أدوات بطش الاحتلال وقمعه كلها لن تستطيع أن تحرمنا الحقّ في الحياة والفرح، على الرغم من آلام اللجوء، والفقدان بالاستشهاد، والتعذيب بالاعتقال الإداري، والإصابات المزمنة برصاص المحتلين”. 

طفولة قاسية

حكاية نضال مع الاستهداف الاستعماري ومحاولات إخضاعه وإخضاع أسرته بدأت منذ أعوام طفولته عندما كان عمره أقل من 15 عاماً، إذ اتُّهم آنذاك بإلقاء الحجارة على المستعمرين الذين يستبيحون المخيم، مستهدفين ذاكرة اللجوء والتشبث بحق العودة. كان ذلك في سنة 1983 حين اقتيد إلى السجن المسمى “مسلخ الفارعة” ليُحتجز فيه ثلاثة أشهر، وفي إثر ذلك لاحقته اعتقالات احترازية عدة مرات لأيام أو أسابيع محدودة في “الفارعة” ومركز الحاكم العسكري “البصة” في مدينة بيت لحم، تخللها ضرب مبرح وتعذيب.

عن هذه المرحلة من حياته يبحث “أبو محمد” في ذاكرة الطفولة مستعيداً حياة البؤس في المخيم، واستهداف الأطفال قبل الانتفاضة الأولى. يقول “أبو محمد”:

“كانت طفولة لا تشبه أبداً الطفولة الطبيعية لبني البشر، فقد كانت تنوس بين الحرمان والفقر المدقع والحياة القاسية في المخيم على وقع مداهمات جيش المستعمرين والتعذيب الشديد في “مسلخ الفارعة”، بدءاً بالشبح والضرب المبرح والصدمات الكهربائية والضغط على أصابع اليدين بعد وضع أقلام بينها، وليس انتهاء بإرغامنا على تناول الطعام في المرحاض”!

الاعتقال الإداري

في سنة 1985، بدأ الاعتقال الإداري يلازم نضال كظله، ليتواصل خلال الانتفاضة الأولى، وبعد توقيع اتفاق إعلان المبادئ في أوسلو، وفي الانتفاضة الثانية وفي إثرها. والفترة الوحيدة التي نجا خلالها من الاستهداف الصهيوني كانت بعد سنة 1995 حتى اندلاع الانتفاضة الثانية، وبالتالي تمكّن من استكمال دراسته والحصول على درجة البكالوريوس في علم الاجتماع من جامعة بيت لحم، كما استطاع بناء أسرته بعد أن كان قد عقد قرانه على رفيقة دربه وشريكة حياته منال في سنة 1992، لينجبا محمد ودالية وكرمل خلال التسعينيات.

وحدث الاعتقال الأبرز لنضال، من حيث وحشيته، بعد أن أقرّت حكومة المستعمرين الصهيونيين سياسة تكسير العظام ضد المنتفضين الفلسطينيين، وشنّ حملة اعتقالات واسعة النطاق في الضفة الغربية خلال آذار/مارس 1988. وعن هذا الاعتقال يقول:

“خلال نقلنا من “القصبة” إلى مركز توقيف الظاهرية جنوبي الضفة الغربية، كمحطة انتقالية في الطريق إلى سجن النقب الصحراوي “أنصار ٣”، طلب منا جنود حرس الحدود الصهيونيون الموجودون في الحافلة التي تقلّنا الهتاف تمجيداً لكهانا وشتماً للرئيس الراحل ياسر عرفات، فرفضنا ذلك بإصرار، فأقدموا على تكسير زجاج الحافلة برؤوسنا ووجوهنا التي بدأت تنزف. وحين وصلنا إلى مركز توقيف الظاهرية، ونحن مقيدو الأيدي والأرجل لا نقوى على الوقوف من شدة الضرب المبرح الذي تعرضنا له، وقفت المجندات الصهيونيات على أجسادنا وبدأن بالتقاط الصور والضحك، وهو المشهد ذاته الذي نقلته وسائل الإعلام العالمية لمجندة أميركية في سجن أبو غريب بعد الاحتلال الأميركي للعراق في سنة 2003”.

ما سبق يشي بالتعذيب من خلال “عقيدة الصدمة”، وهو الأمر ذاته الذي مارسته وتمارسه الأنظمة الرأسمالية المتوحشة والاستعمار الاستيطاني والأنظمة المستبدة.

وتبلغ الفترة المتراكمة لاعتقال نضال أبو عكر في سجون المستعمرين الصهيونيين نحو 18 عاماً، بينها اعتقاله الحالي، فضلاً عن نحو 14 عاماً في قيد الاعتقال الإداري التعسفي. ويُقدّر عدد مرات اعتقاله بـ 15 مرة، فضلاً عن عدة أعوام من المطاردة والملاحقة.

وكانت سياسة الاعتقال الإداري تكثفت ضده في سنة 2002 وصولاً إلى السنة الحالية، إلى درجة أنه لا يتذكر سوى عامين فقط خلال هذه الفترة الزمنية لم يطله خلالهما الاعتقال الإداري هما سنتا 2012 و2013. وكان في سنة 2019 مطلوباً للاعتقال الإداري ومطارداً.

يتذكر نضال ذلك قائلاً أنه نال الحرية النسبية بين اعتقالين إداريين لـ 37 يوماً فقط في سنة 2008، بينما في سنة 2022 نال “حريته النسبية” لـ 75 يوماً، وتحديداً في الفترة من منتصف أيار/مايو حتى نهاية تموز/يوليو، ومنذ ذلك الوقت. ما زال اعتقاله الإداري متواصلاً، علماً بأنه كان ضمن 30 معتقلاً إدارياً أضربوا عن الطعام 19 يوماً في أيلول/سبتمبر وتشرين الأول/أكتوبر الماضيين، احتجاجاً على سياسة الاعتقال الإداري. وكان نضال أيضاً ضمن نحو 100 معتقل إداري يواصلون مقاطعتهم للمحاكم الصهيونية التي تنظر في هذا النوع من الاعتقال، وذلك منذ نحو 10 أشهر، معتبرين الجهاز القضائي جزءاً بنيوياً من المنظومة الاستعمارية الصهيونية، وأداة طيّعة في يد جهاز “الشاباك”، مهمته فيما يتعلق بالاعتقال الإداري تنحصر في محاولة تجميل هذه السياسة التعسفية عبر الادعاء بوجود رقابة قضائية محايدة!

إقرأ على موقع 180  زيارة قطرية سينمائية إلى لبنان.. وماكرون عالق بين نارين

يقول “أبو محمد” عن فترة الـ 75 يوماً السالفة الذكر، إنها لم تكن كافية لترميم ما انقطع من علاقات أُسرية واجتماعية خلال تغييبه القصري، كما أنها لم تكن كافية لاستكمال علاجه من أمراضه المزمنة، وبينها الضغط وأمراض الجهاز الهضمي التي يحتاج علاجها إلى جراحة عاجلة.

عبارات تنضح بالفاشية

ويضيف “أبو محمد” أنه في الوقت المستقطع ما بين اعتقالين إداريين، فإنه يعيش هاجس توقيت المرة التالية من الاعتقال، ويقول:

“كم عدد الأيام التي سأعيشها بين أفراد أسرتي؟ فالإسرائيليون لا يخفون استهدافهم لي، بل يؤكدونه باستمرار، ولا سيما حين يقولون لي: “لن نكون مرتاحين في بيوتنا ومع أُسرنا حين تكون خارج السجن، ولن نمنحك فرصة وداع والدك” (الذي كان يعاني وضعاً صحياً صعباً عند اعتقالي في سنة 2020، ورحل عن عالمنا في نهاية تلك السنة عندما كنت أنا في قيد الاعتقال الإداري في سجن عوفر)”.

لعل في عرض مضامين قرارات ما يسمى محاكم “الرقابة القضائية” التي تُعقد مع كل أمر اعتقال وتجديد إداري للمعتقلين (بصرف النظر عن حضور أو مقاطعة المعتقلين لها)، ما يؤكد أن السلطة الاستعمارية الصهيونية بجميع مكوناتها تَعتبر سياسة الاعتقال الإداري المتناقضة مع أحكام القانون الدولي والإنساني واحدة من وسائلها الرئيسية لإخضاع الشعب الفلسطيني وكيّ وعيه.

يقول القاضي العسكري في قراره في 31 كانون الثاني/يناير 2023 في ملف 23/ 1170، محكمة “الرقابة القضائية”، والمتعلق بالنظر في قرار “قائد المنطقة الوسطى” تجديد اعتقال نضال إدارياً لـستة أشهر للمرة الثانية على التوالي من 30 كانون الثاني/يناير 2023 حتى 29 تموز/يوليو 2023، ما يلي:

“المعتقل كان في الاعتقال الإداري سابقاً، ليس أقل من 11 مرة، علاوة على فترات اعتقال أُخرى، بسبب أنشطة تشكل خطراً على الأمن والسلام التي نفذها وعاد ونفذها في إطار الجبهة الشعبية. وفي أيار /مايو 2022، أُفرج عن المعتقل من اعتقاله الإداري السابق، ومباشرة بدأ تدفق المعلومات إلى الأجهزة الأمنية عن عودته مرة أُخرى إلى تنفيذ أنشطة معادية تشكل خطراً على سلام المنطقة وأمنها، وذلك على الرغم من التحذيرات التي تلقاها المعتقل من المصادر الأمنية. وبالتالي لا سبيل سوى إعادته إلى الاعتقال”.

وفي جلسة “الرقابة القضائية” على القرار الأول، حمل قرار قاضٍ آخر المضامين نفسها التي تشير إلى الاستناد إلى شبهات وتقديرات لا أساس لها، وبالتالي يمكن الجزم بأن الاستهداف هو القاعدة. كما أن المصادقة على قرارات الاعتقال الإداري وتجديدها بنسبة لا تقل عن 99%، يؤكدان أن القضاة العسكريين في المحاكم العسكرية التي تنظر في الاعتقال الإداري، وعلى غرار قضاة المحكمة العليا، هم جزء لا يتجزأ من المنظومة، وأداة طيّعة في يد النظام الاستعماري الصهيوني وجهاز “الشاباك”.

الأُسرة أيضاً في دائرة الاستهداف

إن الشعب الفلسطيني مستهدف أيضاً في المساعي الاستعمارية لشطب قضيته وحقوقه وروايته وذاكرته التاريخية واستبدالها بالرواية الصهيونية. ومثلما هو معلوم، فإن المخيم الفلسطيني في طليعة الاستهداف من أجل إخضاعه، ومحو ذاكرة اللجوء، وإضعاف تشبّثه بحقّ العودة.

أسرة نضال أبو عكر هي أحد نماذج الأُسر الفلسطينية التي تتعرض لأشكال العدوان والاستهداف الصهيوني كلها، فهذه الأسرة المقاومة تضم الشهيد والمصاب والأسير، أي ثلاثية الألم والفقدان والمعاناة، وفي الوقت ذاته الصمود والصلابة والانتماء.

أخيراً، وكعهده دائماً، يواجه نضال استهدافه المتواصل بإرادة الأمل والتفاؤل بالمستقبل، “فالمستقبل يوم طويل” مثلما كتب الجنرال ديغول في مذكراته.

الشهيد الحي

الشهيد محمد أبو عكر، شقيق نضال، هو نموذج للبطولة والتضحية خلال الانتفاضة الأولى، فقد كان مطارداً وأسيراً قبل أن يصاب برصاصة دمدم قاتله في بطنه في 6 آب/أغسطس 1988. وعلى الرغم من ذلك، فإنه تحدى الموت وانتصر عليه بإرادة الحياة، لـ 26 شهراً ونصف شهر، متنقلاً بين المستشفيات في فلسطين وخارجها، ومتناولاً تغذية اصطناعية عبر الوريد حتى يوم استشهاده في 22 تشرين الأول/أكتوبر 1990، بحيث أُطلق عليه لقب الشهيد الحي، والشهيد الأسطورة، كي تبقى ذكراه خالدة.

أمّا محمد، الابن البكر لنضال، فكان عرضة لاعتقالات متكررة لـ 4 أعوام ونصف عام، أمضى أكثر من نصفها في الاعتقال الإداري الذي واجهه بإضراب عن الطعام لـ 40 يوماً، في حين أن رأفت، “أبو محمد”، شقيق نضال التوأم، مستهدف أيضاً بالاعتقال بشكل دائم، وهو اعتقال وصل إلى 8 أعوام أمضى 6 منها في الاعتقال الإداري. وقد التقى الأخوان في الأَسر أكثر من مرة ومع أبنائهما محمد وراني. بينما حازم الشقيق الآخر، فَقَد إحدى عينيه برصاصة احتلالية في اليوم الأربعين لاستشهاد أخيه محمد في سنة 1990!

وفضلاً عن الإخوة والأبناء، فإن منال زوجة نضال ورفيقة دربه لا تزال تعاني جرّاء آثار إصابة برصاص الاحتلال في صدرها منذ سنة 1989، ومع ذلك فإنها لا تزال تندفع في كل مرة يقتحم فيها المستعمرون بيتها كاللبؤة، دفاعاً عن زوجها وأبنائهما الثلاثة.

أمّا أم نضال، سفيرة الأسرى في أكثر من مؤتمر دولي في العالم، فهي نموذج للأم الفلسطينية الملهمة لشعبها، فحين أعلمها نضال بقرار تجديد اعتقاله إدارياً للمرة الثالثة قالت: “ولا يهمك يَمّا، نحن نستعد لزفاف دالية وتخرّج كرمل بكل الفرح والسعادة. لن نخضع ولن نُهزم، وسنبقى صامدين متشبثين بحق العودة إلى رأس أبو عمار” (القرية الفلسطينية المهجرة في قضاء القدس).

ملاحظة: خلال كتابة هذه السطور كانت أوامر تجديد الاعتقال تصل إلى المعتقلين الإداريين في سجون المستعمرين بالجملة، بينما يتحدث ضباط استخبارات السجون وضباط “الشاباك” عن نيتهم الإفراج عن عدد من المعتقلين الإداريين الذين يناقش ممثلوهم المباشرة في تنفيذ برنامج مواجهة شامل ومفتوح ضد هذه السياسة التعسفية.

(*) كُتبت المقالة في تاريخ سابق، لذلك بعض التواريخ في النص أصبح من الماضي، وقد جرت الإشارة إليها في المقالة بصيغة المستقبل.

(**) المصدر: مجلة الدراسات الفلسطينية

Print Friendly, PDF & Email
عبد الرازق فرّاج

كاتب وصحافي فلسطيني. أمضى (على دفعات) سبعة عشر عاماً في سجون الإحتلال الإسرائيلي، كان في الجزء الأكبر منها رهن الإعتقال الإداري.

Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
free online course
إقرأ على موقع 180  زيارة قطرية سينمائية إلى لبنان.. وماكرون عالق بين نارين