اليسار المصري في الحوار الوطني.. معزوفة رديئة!

يشترك اليسار المصري في الحوار الوطني الدائر عبر عدة منظمات، على رأسها كما كان الوضع دوماً، حزبا التجمع والشيوعي المصري. تذاع الجلسات على التلفزيون أو لا تذاع، يتناقل البعض مداخلات ممثلي الحزبين في الجلسات، وهي وإن كانت مداخلات موقوتة فإنها كشفت ما هو أكبر بكثير مما يحتمله زمن المداخلات (4 دقائق) ولا عجب. فالمشهد بكامله يراد له أن يغطي أوضاعاً، لكنه فعلياً يكشف تلك الأوضاع.

إن التماهي مع مفهوم الحوار بكل بساطة ينسف مشروعية المشاركة، والمشروعية تعوز الحزبين من الأساس كونهما تحولا إلى سبب رئيسي ودليل واضح على عجز اليسار المصري في طبعته تلك، طبعة المصري كما أراد أحد رفاق الحزب الشيوعي أن يشير إلى ماضٍ كان الحزب فيه ملء السمع، وهي الطبعة التي وبصرف النظر عن طبيعة كل سلطة في كل عصر، بحثت ووجدت دون عناء أرضاً مشتركة مع تلك السلطة.

تكشف المداخلات ابتداءً ومن جديد عن نسخة شديدة البهوت والرداءة لأنها نسخة تخلو حتى من أي مفهوم ماركسي، والماركسية جزء من دستور الحزب الشيوعي المصري إلا أن مداخلات ممثليه لا تحف حتى من بعيد بالماركسية ولا بالتحليل الطبقي لدرجة أنه لو قام أحدهم بقص الجزء الابتدائي من المداخلة الذي يتضمن تعريفاً بالمتكلم وحزبه لما ميزت بين ما يقول وما يمكن أن يقوله أياً من أحزاب “الحركة المدنية الديمقراطية”.

فلا معنى لإصرار ممثلي الحزب الشيوعي المصري مثلاً على افتتاح مداخلاتهم بالمطالبة بالإفراج الفوري عن المعتقلين ووقف حملات القمع السياسي، لأنه لا بد أن ممثلي الحزب يدركون أنهم يقفون بالذات في محفل نظمته السلطة ذاتها التي تحاورهم، وهي تحاورهم تحديداً لأنه لا وزن حقيقياً لما يقولون وما يعرضون وما يطالبون، فما يحدث هو مجرد “مونولوج”، صدى صوت مشوه، معزوفة رديئة على شرف سفينة غارقة.

ما معنى الحديث العام شديد العمومية عن تعليم جيد؟ ما معنى الحديث عن حرية الرأي؟ ما قيمة مطالبة من تسببوا في الأزمة بعلاجها؟ خلت مداخلات السادة ممثلي الحزب من أي تحديد واضح للأصول الطبقية للسلطة وتفنيد جذر كل موقفها على المستوى الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، وساروا في جوقة واحدة يُردّدون ما يبدو وكأنه أنشودة نظامية عليها يافطة حزب كف عن الوجود بأيدي قادته.

 هل الطبقة التي خربت التعليم سوف تصلحه؟ والطبقة التي جرفت العمل السياسي في مصر سوف ترد للعمل السياسي دوره الحر الديمقراطي؟ هل بالإمكان الحوار مع السلطة في ظل موازين القوى الداخلية من الأساس؟ أليس لجوء السلطة لهذا الحوار دليل على أزمتها التي تحاول بلعبة دعائية أن تخفيها عبر خلق “وحدة وطنية” شكلية ولكنها ضرورية تماماً لمحاولة خلق ضجة حول مسلك ديمقراطي شكلاني بالتوازي ثنائية الإفراجات – الاعتقالات التي تجري هذه الأيام؟

ولعلنا نخشى أن يتم التذرع بلينين، لينين الذي دفنته اللجان المركزية المتعاقبة للحزب الشيوعي المصري سوف تستخرج رفاته الآن، وسيلوح المشيعون لنا بكراسه عن “الصبيانية اليسارية” وأصحاب الجملة اليسارية، كالعادة سوف يُحشر لينين في معادلة لا دخل له بحسابات أطرافها، فالمشاركة اليسارية في الحوار الوطني تحت هذه الظروف سوف تثبت لا جدواها مثلما أثبتت مشاركة التجمع في كل الانتخابات النيابية لا جدواها، وهذا لعدة أسباب. أولها أن اليسار المصري في طبعته تلك كف عن أن يكون يساراً لأنه كف عن الاعتقاد ببطلان المشروعية التاريخية للرأسمالية وبالتالي فإنهم يقفون مع تلك الرأسمالية على أرض واحدة، وهم يطالبونها فقط بإفساح المجال لهم كي يمارسون السياسة على نفس تلك الأرضية، وترتيباً على هذا ثانياً، ليس لدى اليسار ما يعرضه، سوى عورته، مجموعة شعارات ومطالب مفككة لن يمر منها إلا ما تسمح به السلطة والسلطة لا تسمح إلا بما تريد أو أن يجبرها الظرف الإقليمي والدولي على السماح به، أو أن تتغير موازين القوى الداخلية سواء بدخول الجماهير إلى الصراع – ثورة برتقالية هكذا وصفها أحد ممثلي الحزب وخشي من تكرارها – أو بصدع في جسد الرأسمالية، أن يتهاوش الرأسماليون على الصيدة، وثالثاً أن هذا الحوار الوطني غير ملزم لأنه ككل الفاعليات التي سبقته عبر تاريخ تأسيس الجمهورية المصرية بدءأً من المؤتمر الوطني الناصري للقوى الشعبية لم تتح لها إمكانية انتزاع أي مكاسب جماهيرية لأنها كانت دوماً تمر عبر أقنية السلطة المنظمة. هل تجهل السلطة جذر الأزمة؟ هل تجهل الرأسمالية المصرية أنها جذر الأزمة بما يجعلها تقرر دعوة القوى “السياسية” لحوار وطني لكشف جذر الأزمة؟ رابعاً أن آلية الحوار لا تتيح لليسار عرض ما لديه – هذا إن كان لديه شيء – وبالتالي لا يمكن القول إن المشاركة في الحوار تتيح لليسار عرض مشروعه للجماهير!

ولعل مداخلة ممثل حزب التجمع وعضو مجلس أمناء الحوار الوطني حول التدهور الصناعي تضمنت إشارة لغياب الإرادة الوطنية، لكن انتفاء وجود هذه الإرادة يعني أساساً عبث المشاركة في الحوار ولا جدواها السياسية، ثم يؤكد ممثل الحزب ضرورة استقرار الاقتصاد الكلي، اقتصاد الأزمة البرجوازي، وهو لا يفصح عن كيفية القيام بذلك، برغم علمه الذي لا شك فيه، تثبيت الاقتصاد الريعي المدين التابع الخاضع لابتزاز دائنيه والسعي الحثيث لمراكزه نحو تفكيكه، تلك الرؤية الكلية تتماهى تماماً مع الرؤية الجزئية (in micro) لاختلالات النظام ليس فقط الاقتصادي بل والسياسي، فاليسار صار يتعاطى مع السياسة من واقع أزمته هو، فتقزمت السياسة إلى حدود ما يسمح به خصمه البرجوازي المفترض وهذا الخصم لا يسمح بشيء، وبالتالي يصبح الحوار ديكوراً سيء الإخراج يلعب فيه اليسار دوراً لا ميزة فيه، لا بسبب وزنه الضئيل فحسب ولكن لأنه صار يسعى فقط لتحصيل مساحة من الضوء تحت قبضة السلطة التي هي سلطة الطبقة التي لم يعد اليسار يعاديها بل يتماهى مع قواعدها.

إقرأ على موقع 180  التقارب المصري ــ التركي.. الطاقة أولاً

 

Print Friendly, PDF & Email
Avatar

كاتب مصري مقيم في لندن

Premium WordPress Themes Download
Free Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  من غزة إلى بعبدا.. الفرصة مفتوحة حتى الانتخابات الأميركية