على الرغم من أن مظفّر النوّاب لم يكتب سيرته الذاتية، لكن سيرته اختلطت بسيرة آخرين وهذه موزّعة على مدن وشعوب وبلدان. صار مظفّر النوّاب فلسطينيًا وسوريًا ولبنانيًا ومصريًا وخليجيًا ومغاربيًا. سكنت الأممية روحه وهو المثقّف الكوني والإنسان الحر المفطور قلبه على الحريّة، حتى لكأن سيرته صارت تؤرخ للشغف والأمل والحنين والعوالم الحالمة.
كانت حياة مظفّر مثل أجوبته معلّقة على الاحتمال، تتداخل فيها الاتّجاهات. تصطرع في أحيان عديدة لتلتقي وتتعانق عند فضاء الحريّة وفلسطين والانتصار للفقراء.
إن سيرة مظفّر مركّبة وعميقة وإن لم تفلت من سطوة الزمن، لكنها ظلّت تحفر فيه لتترك أثرًا وبصمةً ورؤيةً وفلسفةً وتاريخًا. اختلفت سيرته عن سير الكثير من السياسيين والإعلاميين التي كانت سريعة العطب والذبول والتلاشي. إن سيرته مثّلت الفن والإبداع والمعاناة والجمال. وقد كتب قصائده بلغة المؤرخ العارف بأسرار التاريخ وخفاياه وخباياه، لدرجة خاض في طرقه ومنعرجاته قديمًا وحديثًا، وفي بعض الأحيان حاول أيضًا استنطاقه كمن يكتب شهادته. لم تكن تهمّه الوثائق لأن الوقائع مكتوبة في قلبه وكان يقرأها من عقله.
هكذا جمع بين القلب والعقل برهافة حسّه ورقّته، يتّكئ حينًا على هذا وحينًا أخرى على تلك. يغوص في التاريخ ليتجاوزه وإن استلهم أبطاله فيعيد ترتيب وتكوين أولوياته، ويتوّقف شاهدًا أخلاقيًا على ما لم يعره التاريخ اهتمامًا. وهكذا بحث عن المجهول والمهمل والمنسي والمسكوت عنه، واستولد منه موضوعات خارج نطاق المألوف والسائد والمكرّر والتقليدي.
الشعرية والشاعرية
في هذه الأجواء الإبداعية-التمرديّة نشأت شاعرية مظفّر، حيث تلاقحت موهبته مع رسالته الشعرية باستخدام تكنيك شعري ولغوي ومصطلحي خاص به، حتى ليمكن القول إن ثمة قاموسًا مظفّريًا بدأ يتكوّن، لا سيّما في اللغة المحكية (القصيدة الشعبية).
وإذا كانت الشعرية تتعلّق ببحور الشعر وأغراضه والشواهد الشعرية والانفتاح على اللغة ودلالاتها، فإن الشاعرية كمصطلح استُخدم في أواسط القرن العشرين كتعبير عن الإحساس الرفيع بتمثيله الروح التي تلامس الشعر وتعبّر عن جوهره، وهو ما جاء عليه غوستاف باشلار في كتابه “شاعرية أحلام اليقظة” (1991)، فكيف يمكن التوقّف عند شاعريّة المبدعين ومنهم مظفّر النوّاب (…)؟
وتختلف الشاعرية من شاعر إلى آخر باختلاف إبداعه، وهذا هو الفرق بين شاعرية تنطلق من الروح وأخرى شكلية. وبالطبع هناك معمار لكلّ قصيدة يتم هندستها وفقًا لمعجم الشاعر اللغوي واستعاراته وتركيباته، والأمر ينسحب على مكنونات الإبداع الأدبي والفني، وبقدر ما يكون المبدع متقنًا لصنعته تكون اللغة مطواعة بين يديه؛ والرسالة الابداعية بقدر جماليتها فإنها تعبّر عن مدى إنسانيتها.
وبالنسبة لمظفّر النوّاب فكتابة الشعر وإن كانت خلاصًا فرديًا وتعبيرًا عن روحه التوّاقة إلى الحريّة، إلّا أنها بدأت تأخذ بعدًا أكثر جماليةً ورمزيةً في الخلاص الجماعي، لا سيّما الانحياز إلى المظلومين والمهمّشين.
المبدع والمكان
صوته الخفيض وأدبه الجم ورقتّه ووداعته أضافت جزءًا مكمّلًا لشخصيته بما فيها من جمال وكارزمية ووقار، حتى لتحسبه شخصًا آخر غير مظفّر النوّاب الذي يعتلي المنصّة ليُعبّر عن غضبه وسخطه وازدرائه لكلّ ما حوله، خصوصًا حين يتعلّق الأمر بمن تغطرس أو تجبّر أو ظلم الفقراء وتنكّر لفلسطين.
في رحلته الأولى إلى الأهوار، بدأ مظفّر النوّاب يكتشف نفسه وعلاقته بالطبيعة التي تعلّق بها، فقد أدهشته تلك الصور المتدفّقة فاختزنها في مخيّلته، حيث الأفق الشاسع الممتد والهادئ، الشمس في بهائها والقمر في صفائه، وانسيابية مياه الأهوار، والسماء المرصّعة بالنجوم والمشاحيف (الزوارق) الرشيقة وكأنها رماح، والأشجار والأسماك والطيور ووجوه النسوة الحالمات والمسحوقات. كان ذلك بمثابة اللقاء مع الحياة الجديدة التي أخذ يكتشفها، تلك التي ظلّت تسحره وتلهمه، وهو ما زاد من إحساسه بالجمال على كلّ ما حوله، مثلما عاظم من شعوره بالمحيط الذي يعيش فيه بكلّ عنفوانه، بشرًا وشجرًا وحجرًا وأرضًا وفضاءً وسماءً، وهكذا تكون الطبيعة إضافة إلى الموهبة ساهمت في نسج إبداعه الشعري وشاعريته وهي ما أعطته الشمول، أي لقائه بالحياة وعلاقته المتميّزة بالكون والإبداع.
أصبح المكان مسرحًا جماليًا للتاريخ والدين والصورة الشعرية التي احتلّت قصيدة النوّاب بما فيها من رمزيّة متعدّدة ومتنوّعة، وبُعد سيكولوجي وسيسيولوجي تعبيرًا عما تمثّله الهويّة والانتماء، وما يستحضرْ التاريخ ويستدعيه الريف بكلّ تنوّعه والمدنية بكلّ تعقيداتها.
وإذا كان المكان عنصرًا مهمًا في الشعر ويحتلّ مقامًا متميّزًا لدى مظفّر النوّاب بحضوره الكثيف، وذلك لأنه عاش ما يزيد عن نصف عمره البيولوجي في المنفى وأكثر من ثلثي عمره الإبداعي فيه (…).
ويبدو أن المكان له خصوصية شديدة لدى مظفّر، لا سيّما بعض المدن مثل القدس وبغداد وبيروت ودمشق وأثينا وباريس، وكان قد تنقّل في العديد من المدن، مثل طرابلس والقاهرة والخرطوم وظفار وإريتريا، إضافة إلى الفاعليات التي أقامها في لندن وبرلين وأمستردام والولايات المتحدة وغيرها من البلدان والمدن، فقد ولد في الكاظمية في العام 1931 كما سيأتي ذكره.
الأصول والذاكرة
وفي حوارات عديدة، أولها في بغداد (أواخر العام 1968) وفي براغ (أواخر العام 1970) وآخرها في بيروت في العامين 2005 و2006، وما بينهما في الثمانينيات والتسعينيات الماضية في دمشق ولندن، قال مظفّر النوّاب إن أصوله تعود إلى الجزيرة العربية، ومنها جاءت العائلة إلى العراق، وهي تنتسب إلى الإمام موسى الكاظم، واضطّرت بعد عسف العباسيين للهجرة إلى الهند وأقامت في مقاطعة كشمير وحكمت جزءًا منها، وكان لأجداده نفوذ كبير وذلك بسبب ثرائهم أيضًا. وبعد احتلال الهند حاول البريطانيون استمالتهم، لكنهم رفضوا ذلك، بل انحازوا لصالح مقاومة الاحتلال ولتلك الأسباب تمّ نفيهم، فاختاروا العراق بلد الأجداد الأول، ولوجود العتبات المقدّسة.
اختزن مظفّر النوّاب في ذاكرته كلّ هذا الترحال الذي كان يتردّد على لسان أفراد العائلة والقصص التي كان يرويها الكبار، خصوصًا حين اختار المنفى بعد رحلة سجن قاسية وطويلة في سجن نقرة السلمان الصحراوي (نحو أربع سنوات) وسجن الحلّة الذي هرب منه بعد أن خطّط مع رفاقه لعملية الهروب الشهيرة تلك.
وكان حسين سلطان، القيادي الشيوعي، قد روى أجزاء مهمة من عملية حفر نفق تحت الأرض طوله نحو 22 مترًا والتي دامت بضعة أشهر يُفضي إلى كاراج خارج السجن، وذلك في خريف العام 1967، فتسلل منه مع 42 محكومًا سياسيًا بعضهم بأحكام ثقيلة، وقد أُلقيَ القبض على بعضهم، وقد رويت في أكثر من مناسبة أننا نظّمنا سفرة طلابية كغطاء مقبول لنقل 2 من السجناء الهاربين إلى بغداد، وقد أصبح أحدهم من أصدقائي القريبين وهو سعدون الهاشمي شقيق سامي مهدي الهاشمي الذي استشهد في صراع داخلي محموم في 28 أيلول/سبتمبر 1968 (…).
أما مظفّر فقد اختفى في المزارع القريبة من الحلّة وسدّة الهندية وخرج إلى العلن بعد انقلاب 17 تموز/يوليو 1968 بعد أن صدر قرار من مجلس قيادة الثورة بالعفو العام عن السجناء وإطلاق سراحهم وإعادة المفصولين إلى وظائفهم. وكان قد قضى بضعة أسابيع في الأهوار ساكن فيها الفلاحين. وحسبما يقول كان ذلك استعدادًا لإعلان الكفاح المسلّح، كما كان يجري الحديث عن ذلك في حينها، خصوصًا في ظلّ الصراع داخل الحركة الشيوعية.
الحدث والمكان والحبكة الدرامية كلّها ظلّت تمدّه بصور متنوّعة، وإن كان فقدان المكان الأول “الوطن” ومنهل الإبداع “الأهوار” قسريًا أو اختياريًا، سبّب نوعًا من الألم لشاعر حسّاس ابتعد عن بيئته ومناخها الطقوسي، خصوصًا بعد تجربة مريرة وخذلان سياسي عانى منه، مع ذلك عمل على تحويله إلى شيء إيجابي، ولكن ليس دون معاناة وتحدّ وإصرار على استعادة صورة الحياة البغدادية والأهوارية في ذاكرته، وتجسّدت لديه الخصوصية بكلّ مستلزمات قوّتها بما فيها من ذكريات طفولية ظلّت عالقة في ذهنه، بل إنه كان يُجري عليها تظهيرًا بانوراميًا، تعويضًا عن الواقع.
وتلاقحت خصوصيته مع شمولية كونية في إطار تزاوج بين الأصالة والحداثة وفقًا لباشلار، فثمة علاقة عضوية بين الخصوصية والكونية وبين المحلي والعالمي. وظلّ مظفّر يشق طريقه عبر المكانية مكتسبًا أفقًا جديدًا وحساسية جديدة عمّقت من شاعريته، خصوصًا في قصائد الفصحى في المنفى وهي تمثّل ثلثي عمله الإبداعي (…).
المحكي والفصيح والاغتراب
وبين الفصيح والمحكي كانت تتراوح أغراضه بين الغزل والثورة، ولا ثورة حقيقية وكاملة دون حب حقيقي، ومثلما ليس هناك نصف حب، فليس هناك نصف ثورة، فقد أعطى مظفّر روحه للثورة والحب وتسامت صوره الشعرية في ذلك، مع وطنية وجدانية باهرة، وبقدر ما كان مغتربًا وحزينًا فإن ذلك ينعكس على المكان مدحًا أو قدحًا، سواء في هجائه أو في حنينه وأساه لفراقه.
عاش مظفّر النوّاب مغتربًا ليس مكانيًا حسب، بل كان اغترابه عضويًا أبعد من ذلك في وطنه وبين رفاقه وفي حزبه، و كان في الكثير من الأحيان يشعر بالانفصال والغربة عمّن حوله بقدر ما كان يشعر بالألفة والانسجام مع الناس البسطاء، فما بالك حين يكون مظفّر مغتربًا جسديًا وروحيًا، سواء في الوطن أو في المنفى، في السجن أو في خارجه. وحين يكون في ذلك المحيط الاغترابي يستدعي خصوصيته وفردانيته، وحتى في سجنه كان يدفع حائط السجن ليُطلق العنان لخياله ليرى قلبه حرًا طليقًا في عالم الغربة، فالسجن كمكان مغلق لم يتمكن من حبس مخيلته.
وبقدر ما عاش مظفّر زمانه فقد عاش المكان أيضًا، وكما يقول محي الدين بن عربي “الزمانُ مكانٌ سائلٌ، والمكانُ زمانٌ متجمِّد“، وأحيانًا كانت صوره زمكانية، فاستلهم الكثير من الشخصيات من تاريخنا العربي – الإسلامي وما قبله وفي تاريخنا المعاصر كذلك، بل أن التاريخ والفلسفة كانتا مادتين أساسيتين في خلفيته الفكرية والأدبية، وهما يتعانقان مع القيم الكونية. لقد استحضر مظفّر “عشتار” زوجة تموز الأسطورية وآلهة الحب والخصب والجمال في بابل القديمة، مثلما جاء على “داعس والغبراء” مرورًا بالسيد المسيح والحسين بن علي، شهيد معركة الطف في كربلاء وكافور وسليمان بن خاطر وحسين الأهوازي وحمدان القرمطي وعبد الناصر، وبالطبع لبعض الشخصيات رمزيتها الإيجابية ولأخرى وجهها السلبي.
الفنان
مظفّر النوّاب ليس شاعرًا فحسب، بل رسام أيضًا، إضافة إلى صوته الجميل، مثلما له أذن موسيقية، ومن المؤثرات الأولى، كما قال في حديث مطوّل حين استضفته مع نخبة من المثقفين العرب في لندن (1999). المواكب الحسينية والمشاعل والخيل والأعلام الملوّنة والصناجات، وهذه ظلّت عالقة في ذاكرته، بل لصيقة في مخيلته أيضًا، حيث كانت تلك المشاهد والحشود تتجمع في عاشوراء، رجالًا ونساءً يدخلون ويخرجون في حركية طقوسية عاشورائية (في منزل جدّه وشقيقه المفتوحان على بعضهما)، وكان هناك من يحمل إبريقًا لرش الذاهبين والآيبين بماء الزهر والعطور.
ومعروف ما كان يقدّم في تلك المناسبات من استعادة تمثيلية تسمّى “الشبيه” لتمثيل مشهد اغتيال الحسين في كربلاء، وقد “نذرته” عائلته في طفولته ليمثل دور عبدالله الطفل الرضيع الذي قُتل في معركة الطف. والواقع فبالصوت والصورة كانت تلك أقرب إلى مسرحيات حقيقية حاول المخرج المسرحي المبدع جواد الأسدي استلهامها في أعماله المسرحية.
الشعر والإيقاع المنغّم وموسَقته تركت تأثيراتها الأولى عليه، يضاف إلى ذلك جدّه الذي كان يشبه الشاعر الهندي طاغور بلحيته البيضاء وهيبة شخصه ومكانته الاجتماعية، فهو يعزف على القانون والبيانو، إضافة إلى كونه شاعرًا باللغتين العربية والفارسية. أما والدته فكانت تعزف على البيانو ووالده يعزف على العود وخاله يعرف العزف على الكمان. وكان خلال تكوينه الأول على تواصل مع عدد من الفنانين، حيث تتلمذ على يد حافظ الدروبي، إضافة إلى تعاونه مع سلمان شكر عازف العود وخالد الرحال الرسام المعروف والشاعر بلند الحيدري.
كانت الأجواء التي عاش مظفّر في كنفها مشحونة بالعاطفة المتدّفقة ابتداءً من المنزل مرورًا بالأصدقاء ونهايةً بالمدينة التي كانت المناسبات الدينية أحد عناصر مائدتها الثقافية، وذلك على مرّ أيام السنة، حيث المناسبات العديدة، في الأفراح والأتراح كما يُقال.
صداقة مديدة
ارتبطت مع مظفّر النوّاب بصداقة أعتزّ بها زادت عن خمسة عقود من الزمان، رويت جزءًا منها في سردياتي عنه، ولعلّ ذلك يعود إلى أحد أهداف إصداري هذا الكتاب، إجلاءً للحقيقة، وإلقاء ضوء كاشف على شعره وشاعريته، فضلًا عن تعريف القارئ العراقي والعربي به وبشعره الذي ظلّ بعيدًا عنه أو يسمع بعض أخباره ليس من مصادر وثيقة الصلة به، بسبب انغلاق الوضع السياسي وهيمنة الواحدية والإطلاقية الشمولية، طيلة ثلاثة عقود من الزمن تقريبًا. يُضاف إلى ذلك صدور طبعات عديدة من مجموعاته الشعرية غالبيتها الساحقة لم يكن على علم بها، وقد بيع منها عشرات الآلاف دون أي علاقة له بها، ناهيك عن أن العديد منها احتوى الكثير من الأخطاء، سواء قصائد العامية العراقية (اللغة المحكية) أو قصائد العربية الفصحى.
(*) كتاب “رحلة البنفسج” للكاتب العراقي الدكتور عبد الحسين شعبان، صدر عن “دار النهار” اللبنانية عام 2023.