من يتابع مسيرة البترول والغاز في لبنان، تتبدى أمامه مفارقة لافتة للإنتباه. تجربة لا تشبه بشيء تجارب دول لا تملك اي تجربة في هذا المجال، وتود استثمار ثروتها النفطية الموعودة وفق احسن الشروط الممكنة التي تستلزمها مصلحة وآمال مواطنيها. هذه الشروط تقتضي بشكل خاص القيام بالدراسات الأولية اللازمة لتحديد الأهداف المتوخاة والوسائل المتاحة، وذلك في اطار حوار وطني شفاف تشارك فيه الجهات الرسمية المختصة، الى جانب ممثلي المجتمع المدني من جامعات ومراكز ابحاث ووسائل اعلام، الخ، وكلها شروط يمليها مجرد الحس السليم، على غرار ما التزمت به بلدان معروفة بحسن ادارة استثمار هذه الثروة وتمكنها من تجنب “نقمة” البترول والغاز كالفساد والمديونية وتراجع سائر القطاعات الإنتاجية وغيرها من الآفات الكارثية التي فتكت بعدد من البلدان المنتجة كفنزويلا وانغولا وغيرها من الدول المنتجة.
المفاجأة الأولى هي انه لم يحصل في لبنان شيء من هذا القبيل. ما حصل هو عكس ذلك تماما، اي عدم القيام بأبسط الدراسات الأولية التي لا بد منها، وتعتيم كامل على الخطوات المتخذة وحصر معالجة الموضوع بوزير الطاقة ومعاونيه في هيئة ادارة قطاع البترول الذين يعملون تحت اشرافه، اضافة الى مستشارين اجانب لا يعرف اللبنانيون وجوههم او لحساب من يعملون، في حين ان حسن الحوكمة والشفافية في لبنان بات ضرورة حيوية، خاصة وأن الفساد قد اصبح متفشيا الى درجة تضع لبنان في المرتبة 138 من اصل175 بلدا غطاها تقريرمنظمة الشفافية الدولية عام 2018 .
حقوق ملكية الدولة للثروات النفطية
الواقع ان بوادر الانحرافات والفساد في مسيرة البترول والغاز في لبنان أخذت تظهر فور صدور القانون البترولي 132/2010 الذي سرعان ما عمل المسؤولون عن هذا القطاع على تزويره وتشويه المبادئ السليمة التي قام على أساسها، وفي طليعتها الأحكام الخاصة بحقوق ملكية الدولة للثروة النفطية، ومشاركتها المباشرة والفعلية في استثمار هذه الثروة في اطار ما يسمى عقود تقاسم الانتاج (Production Sharing Agreements) التي انتشرت بسرعة في اكثر من 70 بلدا بعد تأميم آخر الامتيازات القديمة في سبعينيات القرن الماضي. سبب ذلك هو ان هذا النوع من العقود الذي نص عليه القانون133/2010 (لا سيما المواد 6 و42 و44) يلبي على افضل وجه حاجات الدول التي لا تملك بعد الخبرة والرساميل اللازمة لاستثمار ثرواتها بنفسها، وبالتالي، تلجأ الى نظام تقاسم الانتاج الذي يقوم على التعاون مع متعهد أجنبي يتحمل وحده مخاطر ونفقات التنقيب لقاء حصوله على قسم من الانتاج. في هذه الحالة، يحق للبلد المضيف ان يدخل كشريك عبر شركة نفط وطنية، بنسبة لا تقل عادة عن 40 في المئة سبق وتم تحديدها في الإتفاق مع المتعهد، ويصبح البلد المضيف بموجبها شريكا فعليا يسدد ما يترتب عليه من نفقات ويتصرف بحصته من الانتاج.
مخالفة مبادىء نظام الإستثمار
الا ان الوضع قد إنقلب فجأة رأسا على عقب عندما راحت هيئة ادارة البترول، بالتعاون مع مستشارين أجانب، تضع المراسيم التطبيقية المفترض بها ان تحدد ما يلزم من تفاصيل القانون البترولي، خاصة المرسوم 43/2017 الذي ظل سريا ومجمدا طوال اكثر من ثلاث سنوات نتيجة رفض حكومة تمام سلام 2014 ـــ 2016) الموافقة عليه بسبب تنكره لروح القانون ونصه، الى ان جاءت الموافقة على جناح السرعة، ودون اي مناقشة، خلال اول جلسة عقدتها حكومة سعد الحريري في 4 كانون الثاني 2017. وتعود اهمية هذا المرسوم، الى سببين: اولا، لانه يشكل نموذجا للاتفاقيات المزمع عقدها ويشمل كل التفاصيل الفنية والقانونية والمالية المقترحة لاتفاقيات الاستكشاف والانتاج مع الشركات الأجنببة، وثانيا، وهذا الأهم، لانه يتضمن احكاما تخالف كليا مبادئ نظام الاستثمار الذي تبناه المشّرع في القانون البترولي، وفي طليعتها مشاركة الدولة عبر شركة نفط وطنية في الأنشطة البترولية وما يترتب على ذلك من امكانية تدريب الخبرات اللبنانية ومراقبة عمليات وحسابات المتعهد الاجنبي.
ولعل المخالفة الرئيسية، او بتعبير أصح هذا التزوير للقانون نصت عليه حرفيا وصراحة المادة 5 من المرسوم 43 /2017 التي تؤكد انه “لن يكون للدولة مشاركة في دورة التراخيص الاولى”. يعني ذلك ان بعض موظفي الدولة اللبنانية قد سمحوا لانفسهم بطرد الدولة من الصناعة البترولية الناشئة وبحرمانها من حقوق الملكية على حصتها من الانتاج، ونسف كل نظام تقاسم الانتاج للعودة الى نظام الامتيازات القديمة التي لم يعد يقبل بها حتى اي بلد من بلدان العالم الاكثر فسادا!…
نتيجة هذا التزوير ومن أجل شل دور الدولة المحوري وتغييب شركة وطنية تمثل كل اللبنانيين، اصبح الطريق ممهدا لمصالح خاصة، أجنبية ومحلية، حتى تضع يدها على هذه الصناعة التي رأت فيها فرصة العمر لتكديس المليارات على حساب المالكين الحقيقيين، اي كل لبناني.
تناقضات وتجاوزات أخرى
كما أن منع الدولة من ممارسة صلاحياتها الجوهرية عبر المشاركة في الأنشطة البترولية لم يكن التزوير الوحيد للقانون البترولي، بل رافقته تجاوزات وانحرافات أخرى يمكن ايجاز أهمها في النقاط التالية:
اولا: دمج كل المراحل من الاستطلاع الى الانتاج في “اتفاقية استكشاف وانتاج” تعقد دفعة واحدة لمدة اربعين عاما، وذلك خلافا للمادة 11 من القانون وللأعراف السائدة في كل انحاء العالم، اذ ان المرسوم 43/2017 لا يأتي على ذكر رخصة استطلاع أولية مدتها ثلاث سنوات، من شأنها ان تعطي البلد المضيف صورة أدق حول احتمالات مكامن واعدة، في حين ان الشركات العالمية تملك بشكل عام معطيات (Data) لا يملكها بلد كلبنان، وتتمتع قبل توقيع اتفاقية الانتاج بقوة تفاوضية افضل بكثير من وضع بلد حديث العهد في هذا المجال كلبنان.
ثانيا: تقسيم المنطقة الاقتصادية الخالصة الى 10 رقع فقط بمعدل 1,980 كلم مربع للواحدة، اي خمس مرات اكبر من الرقع الإسرائيلية البالغة 69 رقعة مساحتها القصوى 400 كلم مربع، واربع مرات اكبر مما هي عليه في النرويج حيث لا تتجاوز الرقعة الواحدة 500 كلم مربع (وأقل من ذلك في القسم البريطاني من بحر الشمال)، مع العلم ان مساحة الجرف القاري النرويجي في بحر الشمال تبلغ 2,140,000 كلم مربع، اي تعادل اكثر من مئة مرة كامل مساحة المنطقة الاقتصادية الخالصة في لبنان.
ثالثا: منح التأهيل الرسمي المسبق لشركات مارقة وأخرى لا وجود لها الا على الورق للحصول على حقوق تنقيب وانتاج، منها على سبيل المثال شركة Apex Gas التي سجلها في هونغ كونغ رجل اعمال وسياسي لبناني برأسمال 1,290 دولارا امريكيا فقط لا غير، ما يمنحها وفق دفتر الشروط الذي وضعته هيئة ادارة قطاع البترول حق الدخول كشركة “غير مشغلة”، وبحصة 10 في المئة كحد ادنى، وفي اطار “شراكة تجارية غير مندمجة” يتم منحها حقوق تتقيب وانتاج، مما يعني حق ملكية 10 في المئة على الأقل من كامل البترول والغاز المكتشف!..وذلك بدلا عن شركة نفط وطنية تمثل كل اللبنانيين والتي ما زال بعض المسؤولين عن هذا القطاع يعارض موافقة المجلس النيابي على قيامها!.
المرسوم 43 /2017 يتضمن احكاما تخالف كليا مبادئ نظام الاستثمار الذي تبناه المشّرع في القانون البترولي، وفي طليعتها مشاركة الدولة عبر شركة نفط وطنية في الأنشطة البترولية
للدولة حصتها الأدنى عالميا
رابعا: حصة للدولة من الأرباح من الأدنى في العالم، وذلك لان كل مكونات حصة لبنان من أرباح الشركات العاملة، والتي نص عليها المرسوم 43/2017 وقانون الأحكام الضريببة الخاصة بالبترول والغاز هي دون ما هي عليه في مختلف بلدان العالم. هذه المكونات تشمل في لبنان رسوم مساحات رمزية، وإتاوة (Royalty ) على البترول تتراوح حسب مستوى الانتاج ببن 5 في المئة و12 في المئة من قيمة الانتاج، في حين ان الإتاوة على الغاز تبقى ثابتة لا تتحرك على مستوى هزيل لا يتجاوز 4 في المئة مقابل معيار عالمي لا يقل عن 12 في المئة اي ثلاثة اضعاف ما هو عليه في لبنان.
وتجدر الإشارة الى ان عنصر الإتاوة هو بغاية الأهمية بالنسبة لبلد كلبنان اذ انه يحتسب ويسدد للبلد المضيف كل شهر، او كل ثلاثة اشهر، استنادا الى حجم الانتاج ومستوى الاسعار خلال الشهر او الثلاثة اشهر السابقة. ذلك ان الإتاوة ليست ضريبة بل تعتبر نوعا من التعويض للبلد المضيف لقاء استخراج مادة اولية غير متجددة، ما يجعل منها دخلا أكيدا وسريعا للدولة، بغض النظر عن تحقيق ارباح او عدمه.
علاوة على رسوم المساحات والإتاوة، تشمل حصة لبنان من أرباح الشركات العاملة ضريبة دخل دخل 20 في المئة مقابل معدل 26 في المئة في العالم، مع السماح للشركات باسترداد 65 في المئة من نفقاتها لحساب الربح الصافي الخاضع للضريبة، مقابل حد أقصى لا يتجاوز 50 في المئة في العالم.
وتجدر الإشارة إلى أنه لا نصوص تشريعية في لبنان تشير الى اي من العلاوات (Bonus) المتعارف عليها التي يسددها عادة المتعهد الأجنبي عند توقيع اتفاقية الانتاج وعندما يبلغ الانتاج مستويات معينة.
انطلاقا من هذه المعطيات، يتبين ان حصة لبنان من الأرباح لن تتجاوز مبدئيا وفي افضل الحالات 47 في المئة من ارباح الشركات العاملة خلال سنوات الانتاج الأولى، اي قبل وضع عامل الدخل (Revenue factor) موضع التنفيذ.هذا في افضل الحالات لسببين: اولا، لان حصة 47 في المئة المذكورة لا تأخذ بالإعتبار عنصر الربحية الذي تضيفه الشركات الى توظيفاتها (Internal Rate of Return)، وثانيا، لان حصة الدولة النظرية المشار اليها تفترض ان معطيات الدخل والنفقات التي تقدمها الشركات مطابقة للواقع. وهو امر من الصعب او المستحيل التأكد منه في بلد كلبنان اختار عدم المشاركة في العمليات البترولية وحرم نفسه من كل ما يترتب على هذه المشاركة من نتائج، بما فيها المراقبة من الداخل على عمليات وحسابات الشركات الاجنبية.
لهذه الأسباب يمكن القول ان نسب 52 في المئة إلى 71 في المئة التي يتحدث عنها بعض المسؤولين كحصة مرتقبة للدولة، تشبه الهذيان، خاصة وانها غير مدعومة بجداول مفصلة تبرز طرق التوصل اليها، كما انها لا تميز بين التدفقات المالية المحسومة وغير المحسومة في المستقبل، مع العلم ان حصة الدولة من الأرباح تتراوح بين 65 في المئة و85 في المئة في اكثر من 70 دولة تمارس نظام تقاسم الانتاج في العالم، اي النظام الذي نص عليه القانون البترولي وتجاهله المرسوم ليفرض بدلا منه شكلا من اسوأ اشكال الامتيازات القديمة، مع كل ما يترتب على ذلك من خسائر مالية بالمليارات، علاوة على الخسائر الاقتصادية المباشرة وغير المباشرة الناجمة عن عدم المشاركة الوطنية الفعلية في شتى مراحل هذه الصناعة.
التضليل تحت راية التجربة النرويجية
منذ سنوات طويلة يحاول المسؤولون عن قطاع البترول والغاز تغطية تزوير القانون والتجاوزات الاخرى المشار اليها عبر الإدعاء بانهم يطبقون “النموذج البترولي النرويجي”. وذلك في حين ان مسيرة البترول والغاز في لبنان تتجه كليا على عكس المبادئ الاساسية التي قامت عليها سياسة النروبج البترولية منذ سبعبنيات القرن الماضي، ولا تشبه ولو من البعيد وابعد من البعيد ما حصل في النرويج. هذا ما تدل عليه المقارنة بين البلدين على كل الاصعدة، من الشفافية الى مشاركة الدولة عبر شركة نفط وطنية، مرورا بدور المجلس النيابي ومراقبة الشركات العاملة وتأمين أعلى دخل ممكن حيث تبلغ حصة الدولة من ارباح الشركات العاملة اكثر من 85 في المئة في النرويج لقاء حصة في لبنان هي الادنى في العالم.
هذا الوضع يطرح تساؤلات وعلامات استفهام كبيرة جدا حول طبيعة “التعاون” البترولي ببن لبنان والنرويج، خاصة حول الدور الذي يلعبه الجيولوجي النرويجي من اصل عراقي فاروق القاسم، وحول عملية تضليل اللبنانيين التي قام بها عبر المغالطات والتناقضات بين ما كتبه في جريدة “الأخبار” من جهة، وما حصل فعلا في النرويج وذكره شخصيا في كتابه “النموذج البترولي النرويجي”، من جهة ثانية. تساؤلات تضمنتها رسالة مفتوحة وجهتها مؤخرا ندوة العمل الوطني، التي اسسها وسبق وترأسها الدكتور سليم الحص، الى السلطات النرويجية المختصة.