انقلاب “سديه تيمان” و”بيت ليد”.. “إسرائيل” إلى المجهول

يُحاول هذا المقال تحليل وشرح تداعيات انقلاب "سديه تيمان" و"بيت ليد" على مكونات المجاميع الاستعماريّة اليهوديّة والعلاقات السياسيّة بين مؤيديه ومعارضيه.

نعود للتذكير: في الثلاثين من شهر تموز/يوليو الماضي، هاجم مئات من اليهود، يتقدمهم وزراء وأعضاء في الكنيست، معسكر اعتقال الأسرى العرب “سديه تيمان” في النقب لمنع الشرطة العسكريّة من اعتقال عشرة جنود نكّلوا جنسيّاً بأسير عربي وشلّوه. وعندما تمكنت الشرطة من اعتقال الجنود العشرة ونقلهم إلى القاعدة العسكريّة “بيت ليد” قامت المجموعة نفسها بالهجوم على تلك القاعدة لمنع اعتقالهم (…). وعلى ما يبدو، هناك شكوك كبيرة حول قدرة هذه الأجهزة على محاكمة أحد. لذا يمكن وصف ما جرى في المعسكرين المذكورين بأنه انقلاب مكتمل الأركان، لأن المهاجمين وبينهم ممثلو الحكومة تعدوا على قوانين سنّها برلمانهم الذي يحتمون به، كما بات من الواضح والمؤكد أن أجهزة إنفاذ القانون لن تتمكن من عقابهم.

“إسرائيل الثانية” تُجهز على “دولة بن غوريون” 

بعد تشكيل الحكومة الإسرائيليّة الحاليّة نهاية سنة 2022، كتبت مقالاً تحليليّاً بعنوان ‘كتائب دافيد’ تهاجم “دولة بن غوريون” (جريدة “الإتحاد”، 6 كانون الثاني/يناير 2023) قلت فيه إن الحكومة الحاليّة التي قوامها الفاشنازيين باتت تهاجم “دولة بن غوريون”، التي عبّرت عنها الأدبيات المختلفة بـ”إسرائيل الأولى”، وإن الحكومة التي شكلها (مناحيم بيغين) بعد “انقلاب 1977” أنشأت “إسرائيل الثانيّة”؛ وأضيف الآن – وهي التي منحت أبناء الطوائف الشرقيّة شرعيّة التعبير الإثني، والثقافي والسياسي التي تحفظت “دولة بن غوريون” عليه. فمنذ نشأتها تمكنت “إسرائيل الثانية” من هدم المرتكزات الاقتصاديّة والديموغرافيّة لسابقتها الأولى. حيث تمكنت من القضاء على القطاع العام المتمثل بمصانع وخدمات “الهستدروت” المختلفة (التي شكّلت 80% من اقتصاد الكيان)، وقضت على التعاونيات الاشتراكية الإستعماريّة المتمثلة بـ”الكيبوتسات” (التي لا تزال تحتل أراضي العرب، وكانت ترفد الجيش بالطيّارين والضباط وقادة الأركان)، إضافة إلى تقويض السرديّة التاريخيّة الأشكنازيّة السياسيّة والثقافية، وتحويل قطاع التعليم الديني للمتدينين و”الحريديم” إلى عِزبات ينخرها الفساد ويُديرها “ربانيم” لصالح طوائفهم، وتغلغل قطاع كبير من الضباط المتدينين إلى مراكز القرار في الجيش، الأمر الذي قضى على إمكانيّة أية تسوية مع العرب.

وقد وصلت قيمة هذه الجهود والإنجازات باغتيال (اسحاق رابين) سنة 1995 كرمزيّة عالية الوضوح والدقة على هزيمة “دولة بن غوريون” السياسيّة والاقتصاديّة. كما يمكن القول إن “إسرائيل الثانية” قد أتمت مهامها باقتدار ونجاح باهر بإقامة الحكومة الحاليّة وبداية إنشاء ‘إسرائيل أخرى’ منذ بدء تطبيق التعديلات القضائية، التي ستعمل على خصخصة القوانين واستخدامها لصالح المجاميع اليهوديّة من متدينين، حريديم وفاشنازيين. وقد تُوّج هذا الانقلاب بحادثتي “سديه تيمان/ حقل اليمن” و”بيت ليد” بتاريخ 30 تموز/يوليو 2024.

هناك إجماع لدى علماء الاجتماع اليهود على عدم قدرة مجتمع المستعمرين أو الدولة على رأب الصدع أو التجسير بين المجموعات المختلفة والمتصارعة. لذا يتحدث البعض من هؤلاء العلماء والمتخصصين عن تقسيم الدولة إلى عدة مناطق متجانسة إلى حد ما في الموقف من الدين، الإثنيّة والليبراليّة، كمحاولة لإنقاذ الدولة من مصيرها المحتوم

بين مؤيد ومعارض

كما هو الحال في الكيان، انقسم مستعمروه بين معارض ومؤيد للانقلاب. يُطالب المؤيدون بإطلاق أيادي جيشهم (وكأنها مغلولة) والسماح له بفعل ما يراه مناسباً بما يتجاوز الإبادة الجماعيّة ضد العرب في غزّة، معتبرين أن الجنود هم من الأبطال الذين يدافعون عنهم وعن وطنهم. بينما ينقسم معارضو الانقلاب إلى مجموعتين: الأولى؛ تدعي بأن فتح ملفات جنائية (ضد هؤلاء الجنود) أمام القضاء “الإسرائيلي” من شأنه منع محاكمتهم أمام المؤسسات الدوليّة المختلفة، لأن دولتهم هي التي ستقوم بمحاكمتهم (وفق مبدأ التكاملية بين المحكمة الجنائية الدولية والمحاكم الجنائية المحلية). عندها سنكون أمام قرش آخر، على غرار “قرش شدمي” الذي غُرّم به قائد مجزرة كفر قاسم بتاريخ 29 تشرين الأول/أكتوبر 1956. المجموعة الثانية؛ تدّعي أنها تريد محاكمتهم فعليّاً، لكن إلى أيّ حدّ؟ لا نعلم!

الحكومة تنقلب على جيشها

انبرت وسائل الإعلام اليهودية المعارضة لإدانة الانقلاب لأنه يُسبب شرخاً خطيراً داخل الجيش وبين الجيش والقيادة السياسيّة، وهذا سيكون نهاية الكيان، كما يُحذّر المعارضون. إلا أن هذا التحليل لا يكفي لفهم خلفياته ومخاطره وتداعياته التي قام البروفيسور (يجيل ليفي) المتخصص بسوسيولوجيا الجيش وإدارته، بتحليل هذه الظاهرة وشرحها عدة مرات قبل الإنقلاب وبعده على النحو التالي: توجد في الجيش مجموعة صغيرة العدد من الجنود الصهاينة، المتدينين والمتطرفين في كل شيء مقارنة بأقرانهم وأترابهم من الجنود المتدينين الآخرين. تسمى هذه المجموعة بالـ(حردليم) التي تربى أعضاؤها في مدارس دينيّة تابعة للجيش (مدارس التسوية) لكن قيم المؤسسة العسكرية ومعاييرها المختلفة لا تسري على هذه المجموعة، ويتواجد جزء كبير منها في الضفة الغربيّة. وتعتبر تلك مجموعة صلبة، منظمة ومتطرفة جدا وتحافظ على علاقات تأثير خاصة وقويّة على القيادة السياسيّة اليهوديّة اليمينية المتطرفة في الحكومة التي شارك بعض أعضائها بالهجومين المذكورين، وانبروا يدافعون عن الجنود ويشرعنون جرائمهم التي قتلوا خلالها عشرات وجرحوا المئات من الأسرى العرب في معسكر “سديه تيمان”.

تتبنى هذه المجموعة سنناً متطرفة جداً في ما يخص مناحي الحياة المختلفة من طعام وملبس وفصل جندري. فهم يعلنون ليل نهار بأنهم يحتكمون إلى قوانين الشريعة اليهوديّة التي يعتبرونها فوق القانون “الإسرائيلي”. إن هؤلاء الجنود يقومون بأعمال غير قانونيّة في الجيش مثل قيام أحد الضبّاط منهم بتفجير الجامعة الإسلاميّة في غزة، برغم معارضة قيادته، وتتشكل منهم عصابات في الجيش تعمل على خلخلة وحدته. إن ما يقوله (يجيل ليفي) هام جداً لمعرفة ما يجري في سياق ازدياد شرخ عدم الثقة بين الجيش والحكومة. ويمكن القول إن تفسير (ليفي) على أهميته الكبرى يظلّ مبتوراً من دون وضعه في السياق الاستعماري للحرب مقابل “طوفان الأقصى” الحالي الذي أطاح بكل قيم ومفاهيم التفوق الدينيّ والذهني (كما يدّعون) والعلميّ، والتقنيّ، والأمنيّ والعسكريّ. وباتت قيادة الجيش تسمح وتوعز أو تأمر الجنود بالقيام بأعمال انتقامية ضد كل ما يمتّ بصلة للعرب من حيوان وجماد، كما نشاهد حالياً في قطاع غزّة، وهذا ما عبّر عنه أكثر من مسؤول في الكيان. لذا عاد الجيش والقيادة السياسيّة إلى الغرف من سنن القتل التلموديّة.

إقرأ على موقع 180  مقهى ريش.. شاهدٌ على زمن جميل

هنا يجب التوقف والقول: ما من مجموعة إنسانيّة في العالم ما تزال تحتفظ بمدونات سنن القتل في تراثها المقدس الذي يغذي العنف المتصاعد ضد عرب فلسطين والتحريض ضد كل من يعترض على أعمالهم الإجراميّة. يمكن قراءة هذه السنن في كتاب (المِشناه توره لإبن ميمون/ الرمبام). وكان قد أصدر كل من الرابي إليتسور والرابي يتسحاق شبيرا في سنة 2009 كتابهما الموسوم: “תורת המלך\ شريعة السلطة”، ويُشرعنان فيه إبادة العرب جميعاً ويُفصّلان فيه أسباب شرعية قتل المحاربين والمدنيين والشيوخ والأطفال والنساء والرضّع. وعندما تقدم بعض الأفراد والجمعيات إلى المحكمة العليا سنة 2011 لعقاب مؤَلفيه وسحب الكتاب، اعتبرت هذه المحكمة أن ما ورد فيه هو من باب حريّة الرأي. هنا نرى مدى تداخل العنف المقدس لذاته، مع العنف الاستعماري لذاته. وهذا ما يفسر (أيضاً) دعم القوى الإستعماريّة (أوروبا وأمريكا) لهذا العنف.

التمجيد الدموي

أعتقد أن البشريّة في أكثر الفترات سواداً في تاريخها لم تشهد حفلة تمجيد دموي كما فعل أعضاء الكونغرس الأمريكي عندما ألقت “إسرائيل” خطابها بواسطة رئيس وزرائها (بنيامين نتنياهو) بتاريخ 24 تموز/يوليو 2024! في هذا السياق، علينا العودة والتأكيد أن العديد من مدراء وضباط بعض المدارس الدينيّة التي تعمل على تأهيل الجنود (الحردليم) للجيش، يعترفون بأنهم نازيون- مثل الرابي (إليعيزر قتشئيل) رئيس المدرسة الدينية- (بني دافيد) في مستعمرة (عيلي) في الضفة الغربية خلال مشاركته في حلقة تلفزيونية بثتها القناة 13 مساء التاسع والعشرين من شهر نيسان/أبريل سنة 2019.

نفهم مما تقدم أن خبراء التربيّة والتدريب في الجيش والباحثين خارج هذا الإطار مثل (يجيل ليفي) كانوا يدركون مخاطر الجنود (الحردليم) وغيرهم وعلاقاتهم القويّة والمؤثرة جداً على السياسيين من أعضاء كنيست ووزراء في الحكومة الحاليّة. لكن عنفهم الذي يتم تصنيعه في مصانع السلاح، أي مؤسسات الجيش والدولة لينفجر بوجه العرب يحولهم إلى (Homo Sacer)، كالذي حدث لليهود في أقسى لحظات تاريخهم، كما يدعون. لذا تبقى وجهات النظر المختلفة بين المستعمرين اليهود منصبّة على ‘تطبيق القانون’ لمواصلة إعادة إنتاج كيانهم العدواني على حساب أمن وسلامة ومصالح العرب.

إسرائيل إلى المجهول

من المنطقي أن نستخدم العدّاد التسلسلي لتحقيب الدُوَل والأنظمة المتعاقبة. وبالتالي يمكننا القول إن “إسرائيل الثالثة” قد بدأت بالتشكل. لكن بقاء “إسرائيل الثالثة” لم يعد مؤكداً، وبات في سياق المجهول نتيجة مجريات حرب “طوفان الأقصى” وما اعتراها من ضعف وأزمات بنيويّة عميقة لم يعد بالإمكان تجاوزها- من جهة؛ والانقلاب في حادثتي “سديه تيمان” و”بيت ليد”- من جهة أخرى. فتداعيات العاملين المذكورين أصبحت فصولاً صلبة لا يمكن إغفالها أو نسيانها في الحياة العامة والسياسيّة في الكيان. فالتأريخ الذي بدأ بالطوفان ولن تنتهي تداعياته بالانقلاب الذي من المتوقع أن تتبعه حلقات أخرى متتالية في كل خطوة إشكاليّة قد تقوم بها أيّة مؤسسة مجتمعيّة أو دائرة حكومية. فعلى سبيل المثال، هل ستقوم سلطات تطبيق القانون بمحاكمة الجنود الذين سرقوا ممتلكات المُستعمرين اليهود الفارين من بيوتهم خلال الحرب؟ وهل ستقوم بمحاكمة جندي اغتصب زميله- نعم زميله- أو زميلته؟ (وهنا لا نشير إلى الجرائم التي اقترفوها وسيقترفها الجنود والمستعمرون بحقّ العرب). لذا يمكن الطلب من الردّاحين العرب على الفضائيات المختلفة، الذين يدّعون أن (نتنياهو) لا يريد الصفقة (أيّة صفقة!) أو إنهاء الحرب لأنه يريد التهرب من محاكمته. فالأفضل لهؤلاء أن يصمتوا لأن (نتنياهو) هو واجهة سياسة “إسرائيل” وأمريكا معاً، لأنه لم ولن يفكر أحد بمحاكمته، كما أشرت قبل سنوات.

في سياق الحديث عن التصدع المجتمعي نتيجة للتعديلات القضائية التي تقوم بها الحكومة الحاليّة، هناك إجماع لدى علماء الاجتماع اليهود على عدم قدرة مجتمع المستعمرين أو الدولة على رأب الصدع أو التجسير بين المجموعات المختلفة والمتصارعة. لذا يتحدث البعض من هؤلاء العلماء والمتخصصين عن تقسيم الدولة إلى عدة مناطق متجانسة إلى حد ما في الموقف من الدين، الإثنيّة والليبراليّة (تقرير إيتي مشيح، “هآرتس” 27 شباط/فبراير 2023)، كمحاولة لإنقاذ الدولة من مصيرها المحتوم، كما يعتقدون.

وعندما تتكشف أزمة ما في الكيان يسارع اليهود إلى إلعودة للمربع الأول، ألا وهو مستقبل الدولة ومصيرها. فالانقلاب الذي تحدثنا عنه هو الزاوية الرابعة للمربع الأول، وقد أصبح اليوم أحد التصدعات المركزية التي تُهدّد الكيان ومجتمع المُستعمرين الذي كان هو الآخر سيذهب إلى المجهول لو أن طرفي الانقلاب من المؤيدين والمعارضين أطلق رصاصة واحدة، أو فلتت رصاصة من دون قصد من مئات آلاف المُسلحين في الكيان.

يحدث هذا في الكيان قبل جواب حزب الله على اغتيال الشهيد فؤاد شكر (السيّد محسن)، وجواب إيران على اغتيال الشهيد إسماعيل هنيّة.. إنها المجاهيل كلها!

Print Friendly, PDF & Email
أحمد أشقر

كاتب وأكاديمي فلسطيني

Download Premium WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Download Premium WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
free online course
إقرأ على موقع 180  عاموس هرئيل عما بعد مجدل شمس: ذاهبون إلى تصعيد ما دون الحرب