دعونا نحاول تبسيط الفكرة: من لم يزل يخاف من الموت، ولو بطريقة لا-واعية.. سيظلّ مُعرّضاً لمختلف أنواع الخوف والقلق. أمّا من “حلّ” مشكلَتَه الشّخصيّة معه، أي مع الموت الجسديّ هذا طبعاً.. كما نُذكّر على الدّوام: فلا شكّ في أنّه يكون قد حلّ مُشكلة الخوف والقلق في أعمّها الأغلب، إن لم يكُن من أساسها.
في هذا المقال، أدّعي أنّه من الوظائف النّفسيّة، الفرديّة والجماعيّة على السّواء، والجوهريّة، للمراسم وللعادات وللخطاب وللثّقافة وللفلسفة الحسينيّة-الكربلائيّة: من الوظائف النّفسيّة الجوهريّة لها إذن.. مُعالجة هذه الاشكاليّة تجاه الموت والخوف من الموت بالذّات، لدى الفرد ولدى الجماعة المعنيَّين.
باختصار، تقول هذه الثّقافة لهذَين الأخيرَين ما يلي:
- البلاء هو في حقيقته امتحانٌ إلهيّ.. أي إنّه ابتلاء. فلا بلاءَ لمجرّدِ البلاء؛
- الموت، ليس هو النّهاية أبداً، بل هو البداية في سبيل نيل ما نبتغيه من البقاء؛
- الابتلاء والمصيبة والموت.. تحصل حتّى مع أعزّ خلقِ الله للّه، وأقربهم إليه. بل إنّ البلاء لَيشتدُّ عند وقوعه على الأولياء(!)؛
- الابتلاء لن ينفصل عنك ما دامت روحُك لم تنفصل عن هذا البَدَنِ ذي الفَناء..
- وبالتّالي، الخوف من الموت والبلاء الذي ما هو إلّا ابتلاء، هو في باطن الأمور ومضمونها، ليس من دأب المُؤمنين ولا من شيم العُقلاء..
- وبالتّالي أيضاً، فمن يُخوّف أهلَ هذه الثّقافة ويُهدّدهم بالموت الجسديّ وبالبلاء: فهو كمن يُهدّدُ النّار بالنّار، أو كمن يُهدّد الماء بالماء!
***
أتذكّرُ نفسي دائماً وأنا في وسط مجلس عزاءٍ حُسينيّ..
تتمُّ مُحاصرةُ جيشِ القائد، أي الإمام الحُسين بن عليّ. يتمّ تَخييرُ هذا القائد نفسه.. ما بين الموت والمذلّة. إمّا أن تقبلَ المذلّة.. أو أن تموت (جسديّاً).
يشتدُّ الضّغطُ النّفسيّ والأخلاقيّ.. إلى أقصى ما يُمكن للذّهن الإنسانيّ تصوّره.
يُحرَم الأطفالُ والشّيوخُ والنّساءُ والرّجالُ من الماء.. وسط بيئةٍ صحراويّة.
يُفتَكُ بالطّفلِ الرّضيعِ بلا رَحمة.
يشتدُّ الحصارُ المعنويّ والسّياسيّ والاعلاميّ (بمعنى ذلك الزّمان).. ويشتدّ الحصار العسكريّ والغذائيّ.
ثمّ، يبقى القائد على موقفه، مُقبلاً غير مُدبر، كرّاراً غير فرّار.. فيُقتل البطل الأوّل مستشهِداً بين يَدَيه. ثُمّ البطلُ الثّاني.. فالثّالثُ فالرّابعُ فالخامس.. إلى آخر القائمة المعروفة من شباب آل محمّد بن عبدالله، وآل هاشم وعبد مناف، وآل عليّ بن أبي طالب وأصحابهم وأتباعهم.
تعلو أصوات النّحيب من جانب خِيام النّساء والأطفال. تُولوِلُ الأمّهات الثّاكِلات والأخوات والزّوجات.
تشتدُّ المصيبةُ والفاجعة.. يعلو الغُبار، وتُدقّ الأعناق، وتسقطُ الهاماتُ على أرض كربلاء.. أرضِ الكَربِ والبَلَاء. أيُّ كربٍ هذا، وأيُّ بلاء؟
ثُمّ يتلو القارئُ مصرعَ عليّ بن الحُسين الأكبر. قُتل قائد جهاديّ كبير. مُصيبة كبيرة! أيّ مُصيبة بعد هذه المُصيبة؟
ثُمّ يتلو القارئُ مصرعَ العبّاس بن عليّ بن أبي طالب. قُتل قائد القادة الجهاديّين أجمَعين.. وانكَسَر ظهرُ القائدِ الإمام، ابنِ فاطمة وعليّ خيرِ الأنام.
يبكي القائدُ الحُسين، ولكن لا يستسلم، يستمرّ في المعركة ويُكمل التّعامل مع الوَغى ذي المَنيّة.
ثُمّ يحكي القارئُ مصرَعَه هو، مصرعَ الإمام ابن خير الأنام! قُتل الإمامُ الوليُّ القائدُ نفسُهُ! قُتل الحسينُ القائدُ الإمام! هل من “مصيبة” أكبر؟ هل من “بلاء” أعظم؟ أيّ بلاء أعظم من هذا البلاء؟
كيف “نبقى” بعدَكَ يا أيّها القائدُ الإمام؟ كيف نستمرّ؟ كيف نصمد؟
ثُمّ يؤخَذُ مَن أُخد من آل محمّد مَسبيّاً.. وتُحرق الخيام، ويُذلّ الأيتام..
ويُقتادون جميعهم، مع الرّؤوس الطّاهرة المقطوعة.. إلى الشّام!
تقول لنفسك وسط هذا المشهد: وا-حُسيناه.. وا-آل-محمّداه.. وا-آل-عليّاه!
ما هذه المُصيبة العظمى؟ ما هذه الطّامة الكُبرى؟ ما هذه الدّرجة غير المعقولة من “الشّحار والتّعتير” كما نقول بلهجتنا العامّيّة البقاعيّة والجنوبيّة؟
لا شكَّ في أنّ العالمَ قد انتهى. انتهى كُلّ شيء. انتهى الوجود بأسره. تبكي من قلبك، وتسمع صوت البُكاء مِن حَولك.
ثمّ يُعيدك القارئ، فجأةً إلى الواقع الرّاهن من حولك على حقيقته، ويُغيّر نبرة صوته. يختمُ المجلسَ بقوله أن “لا حول ولا قوّة إلّا بالله”، وأن “سَيَعلَمُ الذين ظَلَموا أيَّ مُنقلَبٍ ينقلبون”.
ثمّ يدعو القارئ عادةً للمجاهدين المُرابطين، ولقيادة المقاومين حول العالم أجمعين، ويعدُك بحقّ محمّد وآله، ودماء أحبّائه.. بفتحٍ قريبٍ ونصرٍ مُبين. كيف لا، والوعد الإلهيّ واضحٌ بأنّ الأرض هذه لا بدّ وأن يرثَهَا “عباده الصّالحون”؟
في الثّقافة الكربلائيّة والحسينيّة: يقترنُ هذا الحزنُ شبهُ الأزليّ.. بيقين أزليّ بالتّأكيد هذه المرّة، بنصرٍ من الله، وبفوز أهل الحقّ في نهاية المطاف. بل لا يُمكن فصل زاوية الحزن عن زاوية النّصر الموعود أبداً وبأيّ شكلٍ من الأشكال. وهنا تكمن نقطة جوهريّة في ما يخصّ هذه الثّقافة.
ويهمّ النّاس للخروج من المجلس الحسينيّ العجيب..
***
عندما تخرج من مجالس كهذه، تشعر في كلّ مرّة بأنّ مناعة مُعيّنة قد زادت عندك في ما يخصّ الخوف من الموت والابتلاء، وفي ما يخصّ الخوف والقلق بشكل عامّ.
ماذا يُخيفنا في دنيا، حصل فيها ما حصل لخير البريّة وأشرفها وأكرمها عند الله؟
من هنا، عندما يرِدُ إليكَ صوتُ منادٍ يُنادي بتخويفِكَ من الموت أو من الأذيّة المادّيّة.. لا يُمكن، إذا ما كنت قد تشرّبت حقّاً هذه المفاهيم وهذه المنظومة الثّقافيّة بما يكفي..
لا يُمكن أن تكون ردّة فعلك إلّا كردّة فعل عليّ بن الحسين، زينِ العابدين، في مجلِسِ عُبيد اللهِ بن زيّاد بن أَبيه.. كما تروي كُتُب التّراث. فتصرخ، بشكل متوقّع على الأرجح:
-بماذا تُهدّدني يا “ابنَ الطّلقاء”؟
-أبالموتِ تُهدّدني؟ أم بموتِ القادة؟ أم بقتلِ “الإمام”؟
-أبالسّبي تهدّدني؟ أم بالتّهجير؟
-أبأدواتك المادّيّة تُهدّدني؟
-أبإعلامك تُهدّدني؟
-أَبِحلفائك المباشرين وغير المباشرين، من العرب والعجم أجمعين؟ أبهؤلاء تُهدّدني؟
-أَبِذكائك الاصطناعيّ تُهدّد من يعتمدُ على “الذّكاء الرّوحيّ الحقيقيّ المتعالي” قبلَ أيّ شيء آخر؟
-أَلَمْ تَعلم.. “أنّ القتلَ لنا عادة، وكرامتَنا من الله.. الشّهادة”؟
***
نكادُ لا نبالغُ إذا ما ادّعينا، بناء على ما سبق، أنّ هذا النّوع من الثّقافة ومن الفلسفة ومن المفاهيم:
(١) من جهة، هو غير معروف بما يكفي لدى أكثر أعداء هذه البيئة، ولدى أكثر حلفائها على السّواء، ممّا يُؤثّر على صحّة الحُكم على مرحلة كالمرحلة التي نمرّ بها. فلنتفكّر جيّداً في هذه النّقطة؛
(٢) ومن جهة ثانية، فهو يُشكّل نوعاً من أنواع أنظمة الدّفاع الفعّالة جدّاً وسط الحروب القاسية والقاسية جدّاً.. ونحن هنا أمام “نظام دفاعي” يعمل على المناعة الفرديّة والجماعيّة معاً كما رأينا.. ويؤثّر بشكل ملموس، وعميق، وبعيد الأمد.
فلنختبر، كمُراقبين، هذه النّقطة الأخيرة أيضاً: أمام حركة ومعطيات الأيّام واللّيالي والمَيدان.. في ما سيأتي إلينا من الأحداث ضمن المكان والزّمان.. وطبعاً، في ما وراء كلّ مكان وكلّ زمان.