سُلطتُنا اللبنانية: واجهوا الخطر الوجودي بالتنازل عن نقاط قوّتكم!

شاءت الأقدار أن تأتي ذكرى تغييب الإمام السّيّد موسى الصّدر وأخَويه هذه السّنة.. فيصبح معها سؤال "الدّخول إلى الدّولة" الذي طرحناه قبل عام: أقرب ربّما، وللأسف، إلى سؤال كيفيّة إدارة نوع من "الخروج الاضطّراريّ من هذه الدّولة" نفسها، خصوصاً بعد الذي حصل هذا الأسبوع من قبل أغلب أركان السّلطة التّنفيذيّة في البلد، ويبدو أنّه مقصودٌ إلى حدّ كبير، ومُدبّرٌ من قبل بعض الأطراف المحلّيّة والاقليميّة وربّما الدّوليّة، بما فيها جانب من العقل الاسرائيليّ نفسه.

المهمّ الآن؛ كيف نُخاطب القائد-الرّمز، المؤسّس لجانب أساسيّ من عملنا التّحرّريّ كلبنانيّين مؤمنين بالخطّ المقاوِم والعروبي؛ كيف نُخاطب السّيد موسى الصّدر الحاضر-الغائب، أمام احتمال عالٍ كهذا، بأن يكون “الخطر الوجوديّ” قد أصبح واقعاً حقيقيّاً، ملموساً وداهماً.. وربّما مخطّطاً له إلى حدّ أكثر من المتوقّع حتّى الآن؟

***

لنركّز تحديداً على جوهر الذي حصل هذا الأسبوع، إذن، دون الدّخول في التّفاصيل الصّغيرة للحياة السّياسيّة في لبنان، أي من زاوية تُخوّلنا – عموماً – مخاطبة الجانب التّاريخيّ – والجماعيّ إن جاز التّعبير – قدر الإمكان:

  • مع قبوله بالحوار حول نقاط جوهريّة في ما يخصّ استراتيجيّتَي الأمن والدّفاع الوطنيَّين، وفي ما يخصّ نقد المرحلة أو المراحل أو المفاهيم السّابقة كلّها إذا لزم الأمر..
  • يجهد مُكوّن لبنانيّ ومشرقيّ أصيل، منذ نهاية العام الماضي تقريباً، ومن خلال قياداته وأغلب نخبه وعلماء دينه، في التّنبيه إلى أنّ بعض قُراه ومُدنه ونَاسه بات مهدّداً بشكل وجوديّ وملموس – خصوصاً من باب احتمال التّهجير والذّبح والابادة – إن كان من جهة العدوّ الاسرائيليّ نفسه جنوباً (وجنوب اللّيطانيّ بالتّحديد)، أو من جهة الجماعات الأصوليّة المتطرّفة شرقاً (وفي بعلبك-الهرمل بالتّحديد)؛
  • ويجهد هذا المكوّن أيضاً، من خلال أغلب نخبه إذن، في التّنبيه إلى واقعيّة وحقيقة هذا الخطر (على سبيل المثال لا الحصر: تصريحات العدوّ وبعض قادته ونخبه أنفسهم؛ بعض الخرائط المطروحة – أو المُعاد طرحها – اقليميّاً ودوليّاً وجنوب-لبنانيّاً؛ الأحداث السّوريّة الحديثة، غير القابلة لشكّ ولا لتشكيك في ما يخصّ احتمال التّذبيح والتّهجير والسّبي إلخ.). ويُضيف هذا الخطاب ما يلي، ومع التّبسيط:

(١) نحن نتفهّم مخاوف بعض “الآخرين” في البلد وتساؤلاتهم ونقدهم. ونحن مستعدّون للحوار، ولكن العقلانيّ والواقعيّ، لا الدّوغمائيّ والتّهجّميّ، وضمن سقف عدم تسليم أي نقطة قوّة جوهريّة تخصّنا – والوطن – للعدوّ ولحلفائه؛

(٢) ولكنّنا نطلب من حضراتكم، كذلك، أن تتفهّموا أنّ علينا معالجة المخاطر الوجوديّة والدّاهمة – على ناسنا – أوّلاً، كما تفرض طبيعة الأمور في هذه الدّنيا (هذا إن كنتم تعتبرون، حقّاً، أنّنا جزء مثلكم من هذا الوطن)؛

(٣) وبالتّالي، لا مشكلة في الحوار والتّخطيط سويّاً، ولكن: قولوا لنا كيف ستقومون بمعالجة هذا النّوع من المخاطر؛ وكيف ستأتون بتنفيذ اتّفاق وقف الأعمال العدائيّة من قبل العدوّ؛ وكيف ستُسلّحون الجيش اللّبنانيّ؛ وبأيّ سلاح ومن خلال أيّ تمويل (أي من دون أن يكون العدوّ نفسه هو المشرف على الخطوط الحمر لهذا التّسليح – عمليّاً – وبشكل غير مباشر)؟

***

ومع ذلك، كيف تعامل أهمّ أركان السّلطة التّنفيذيّة الحاليّة بالذّات – وحتّى الآن – مع هذا الخطاب ومع هذه المناشدات من قبل مكوّن أو جزء أساسيّ من هذا الوطن ومن هذا الشّعب؟

باختصار أيضاً:

  • أصرّ أغلب هؤلاء على تبنّي خطاب يتضمّن كثيراً من الشّعارات والكلمات والجمل.. الدّوغمائيّة الطّابع في الأعمّ الأغلب. وكمثال على ذلك، حديثهم عن “حصريّة السّلاح بيد الدّولة” وكأنّها قانون عامّ مطلق، أنزله اللّه سبحانه من السّماء في ليلة لبنانيّة مُباركة، أو استقراه علماء الفيزياء والطّبيعيّات من خلال التّجربة العلميّة المتكرّرة. ومن مثله، كما رأينا سابقاً، الحديث عن أفكار غير واقعيّة، كقولهم إنّ جيشنا الوطنيّ يُمكن أن يحميَ لوحده.. دون أن يشرح هؤلاء بأيّ سلاح مستجدّ بشكل عامّ، أو بأيّ سلاح ليس خاضعاً للخطوط الحمر الأميركيّة (أي تلك التي تضعها الولايات المتّحدة بالتّنسيق مع “إسرائيل” نفسها عمليّاً). ومن مثله أيضاً، كما سبق ورأينا كذلك، حديثهم عن “الدّولة” وكأنّها كيان ميتافيزيقيّ أو عقيدة دينيّة مُنزلة أو مفهوم مُطلق غير مشروط بشرط.. إلى آخر القائمة التي سبق أن ذكرنا أغلبها في اعتقادي؛
  • عمل هؤلاء على تبنّي توزيع أدوار بينهم، حيث يظهر أحدهم بمظهر المفاوض اللّطيف (Gentil)، بينما يظهر الآخر بمظهر الأشدّ لؤماً (Méchant). وطبعاً، لا هذا ولا ذاك يُمكنه، بحسب هذه اللّعبة “الذكيّة” جدّاً، السّيطرة على الثّور اليمينيّ المتطرّف الهائج (والفاشيّ في أحيان كثيرة)؛
  • قام بعض هؤلاء بإلقاء عدد من الخطابات المستفزّة وذات المضمون – لا بالضّرورة الشّكل – الطّائفيّ (دون علم الآخر طبعاً، بحسب اللّعبة إذن).. كرَمْيه بعض أطراف المنطقة بالاتّهام دون الآخرين، أو كمحاولته اعطاء شرعيّة لمنظّمات جهاديّة غير متّفق عليها أبداً بيننا في المنطقة، أو كسعيه أحياناً إلى فتح جراحات حربنا الأهليّة من باب عدالة انتقائيّة طائفيّة المضمون ولو حاولت الظّهور بغير ذلك (إلى آخر القائمة)؛
  • شغل هؤلاء، إذن، أو حاول اشغال: بعض نخب فريق “المقاومة” وبيئتها وقياداتها بلُعب من هذا الصّنف، لا سيّما بِتِلك التي تُوهم بأنّ الموقف الرّسميّ للدّولة سيظلّ صلباً أمام أيّ ضغط خارجيّ، ولو جاء من جهة أميركيّة أو خليجيّة.
  • … إلى أن جاءت كارثة هذا الأسبوع، المخزية واقعاً، والتي تمثّلت بخضوع السلطة السياسية لإملاء خارجيّ واضِح فاضِح مُبين.
إقرأ على موقع 180  الفيدرالية في سوريا: الحل والتحديات

***

لنركّز جيّداً، وبكلّ حذر: على ماذا اتّفق أهل السلطة في مضمون الأمور وجوهرها واقعاً؟

اتّفقوا واقعاً، وفي جوهر الأمور ومن دون مبالغة تُذكر، على:

(١) التّسليم لإملاءات الدّول المذكورة أعلاه خصوصاً، غير مبالين بالأسس التّفاوضيّة التي كانوا هم يُدافعون عنها بأنفسهم ومنذ أيّام معدودات فقط؛

(٢) ولو كان أثر ذلك هو إعطاء العدوّ ما يُريده قبل أن يتفضّل هو ويطبّق التزاماته ضمن اتّفاق ٢٧ تشرين الثّاني/نوفمبر الماضي أقلّه؛

(٣) محاولة انهاء جهد مقاوم تراكميّ عمره 50 سنة في أقلّ تقدير، من دون اكتراث لا برموز ولا بتضحيات ولا بإنجازات تاريخيّة ولا بوجدان فئات وازنة بأكملها؛

(٤) ولو حصل ذلك دون تقديم “بديل” دفاعيّ حقيقيّ للنّاس كما أشرنا؛

(٥) ولو كان من أثر ذلك أيضاً، وعمليّاً.. احتمال وضع الجيش الوطنيّ في مواجهة بيئة المقاومة.. والأهمّ هو بلا شكّ:

(٦) ترك بيئة لبنانية معينة لمصيرها الوجوديّ عمليّاً، أمام عدوّ متربّص في الجنوب، وأمام خطر منسّق معه (غالباً لا كلّيّاً) ومع حلفائه من جهة الشّرق.

***

في المحصّلة، إذا ما عُدنا إلى بداية المقال وإلى محاولة مُخاطبة الإمام القائد والرّمز إذن، فما الذي قالته لنا سلطتنا التّنفيذيّة هذه.. هذا الأسبوع، وفي جوهر الأمور؟

قالت لنا سلطتنا التّنفيذيّة ببساطة: قد تكونون أمام خطر وجوديّ، وقد يكون العدوّ يجبرنا على التّنازل عن بعض نقاط قوّتنا من دون مقابل حقيقيّ..

.. ولكن، لا نكترث بكم من جهة (في مضمون الأمور)؛ ونريد أن ننتهي من قصّة مقاومتكم هذه، ومن قصّة هذا الخطر الاسرائيليّ المزعوم (في المضمون أيضاً، وإلى حدّ لا يستهان به) من جهة أخرى.

عزيزي القارئ؛

تصرّف الحكومة في هذه الأيام فظيع. بلا مبالغة. شخصيّاً، لم أشعر أبداً بما شعرت به مساء يومي الثّلاثاء والخميس: إهانة، محاولة قهر، اضطهاد، ظلم، محاولة إبادة جماعيّة معنويّة!

فظيع ما قاموا به.. بينما نحن نقول لهم، كأناس أوّلاً قبل الأحزاب.. انتبهوا فنحن مهدّدون!

قد يكون جواب الإمام الصّدر الاعتياديّ هو بالتّشديد على منطق الانخراط في الدّولة وعدم ترك هذا المشروع مهما حصل.. دون نسيان التّمسّك بفلسفة الوحدة الوطنيّة، وبنهائيّة الكيان-الوطن..

ولكنّ الموقف الصّدريّ هو كذلك، وفي أصل أصوله إن شئت.. موقف ثوريّ تحرّريّ استشهاديّ حسينيّ أوّلاً!

سيّدي الامام؛

باسم “مشروع الدّولة” الموعود، أنقبل بأن نُذبح كالنّعاج؟

بالتّأكيد لا.. لذلك، يتوجّب على شعبنا ونخبه وقياداته التّوقّف قليلاً أمام اللّحظة الرّاهنة، والتّفكّر جيّداً.. فالموت في ساح القتال، لا سيّما مع العدوّ، هو بالتّأكيد خير من الموت كالنّعاج الخائفة!

“لا والله، لا أعطيكم بيدي إعطاء الذّليل.. ولا أُقرّ إقرار العبيد” ( الحسين بن علي).

ملاحظة: الصور المرفقة من أرشيف جريدة “المحرر” اللبنانية في مطلع سبعينيات القرن الماضي.

Print Friendly, PDF & Email
مالك أبو حمدان

خبير ومدير مالي، باحث في الدراسات الإسلامية، لبنان

Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
free online course
إقرأ على موقع 180  وما أدراكَ ما الحرب.. جُرحنا المفتوح