للأرض المعطاء، الأم الرؤوم التي احتضنت أولادها فرمت عليهم عباءتها غطاءً يقيهم البرد القارس في أعالي الجبال وفي أعمق الوديان.
أم أقول مع الشاعر القروي رشيد سليم الخوري:
خير المطالع تسليم على الشهداء
أزكى الصلاة على أرواحهم أبدا
أم إلى الجرحى الذين تركوا مدارسهم والجامعات، أشغالهم والمصانع، الأهل والأحبة والجيران، وفتحوا شرايينهم كي يرووا أرض الكرامة، وكأني بهم يُردّدون مع الشاعر الكبير عمر شبلي:
هم فاوضوني على جرحي فقلت لهم
خذوا الضماد فجرحي لا أغيرهُ
ورحت أمشي وجرحي في الطريق معي
والجرح يصبح جرحاً حين تخسرُهُ
أم إلى الأمهات اللواتي يصررنَ على الحمل المنذور للدخول في أزمنة تأتي محملّة بسيوف بلا أغماد، وبخاصة تلك التي أُعلن استشهاد ابنها بعد انقطاع دام شهراً كاملاً فعاد إليها ليرمي بنفسه تحت أقدامها، فتسبقه لترمي بنفسها أمام قدميه في منظر تعجز فيه عن حبس طوفان الدمع في عينيك.
بعد وقف اطلاق النار سألتْ إحدى الصديقات، هل أضحك أو أبكي؟ فقلت لها بلا تردد تضحكين نعم، وتبكين نعم، شرط أن يكون الضحك والبكاء متلازمين.
ضحكة الانتصار جميلة.
ودمعة الانتصار أجمل.
الفرح هنا له ألف سبب.
والدمعة هنا لها ألف مبرر.
صحيح أنهما مختلفان في المبنى، لكنهما واحد في المعنى. وعلى قاعدة اختلافهما، أرى انهما توأمان يحصلان بعد الولادة.
من منا لم يشهد أماً تبتسم بعد أن تلد طفلها؟
ومن منا لم يشهد طفلاً يبكي بعد الولادة؟
للبكاء فلسفته الخاصة وما أعمقها حين تضع الحرب أوزارها.
هل الدمعة مستحبة؟
نعم، بل هي واجب على الشرفاء والمنتمين وأبناء الأصل والأرض.
ما رأيت جباناً يبكي قضية مقدسة، ولا رأيت مُحرضاً ضد المقاومة يبكي، إلا بعد هزيمة العدوان.
البكاء نعمة الشرفاء وصَدَقَتهم على الشهداء، والصدقة بشرعنا تنزل بين يدي الله سبحانه.
أنا بكيت يوم رأيت شهيد الأمة ينعي ابنه الشهيد فؤاد شكر، لكني لم أبكِ يوم استشهد السيد. جفّت دموعي، فيبست مآقيّ، ونشفت عروقي.
وأبلغ كلام لشاعر صديق يختلف مع الشهيد السيد في بعض التوجهات ويلتقي معه في المقاومة. قال صديقي: “لا يُستشهد إلا العظماء، والسيد هو شهيد عظمته رحمه الله”.
وأردف شعراً:
بكيته رغم أني لم أكن معه
بعض البكاء له قربى بلا نسبِ
أما اللامبالون أو الهازمون أنفسهم مُسبقاً، أولئك الذين استقالوا قبل أن يبدأوا، يتحدثون اليوم عن الأخطاء متبنين سردية لا تنتمي إلى روح الشعوب في نزوعها نحو الحرية، فتجاهلوا خطايا العدوان والاستكانة له، وأمضوا وقتهم في تعداد الخسائر المادية والإنسانية، ولم يصرفوا دقيقة واحدة من وقتهم لرفد مقاومتنا ولو بالدعاء لها. هذا إذا تجاوزنا المجنّدين المكلّفين بتوهين روح المقاومة على امتداد أرضنا المقدسة.
نعم لقد خسرنا الأرواح والأرزاق والبيوت، لكننا ربحنا كرامة الله بالاستجابة لأوامره بالجهاد “كتب عليكم القتال وهو كُرْهُّ لكم”.
وأنا أكتب هذه السطور، أتذكّر أنّه على مدار الساعة واليوم والأسبوع والشهر والسنة، في النهار والليل، كانت مصانع الأسلحة في الغرب شغّالة، رفداً للعدوان، بل لإيقافه على رجليه بعد أن خارت قواه على أعتاب وتخوم بلدنا.
وبعد هل تدرون من كنا نحارب؟ أو على الأصح من كان يُحاربنا؟
وبرغم ذلك كانت العودة المظفرة إلى الديار بعد احتضان دافئ وحميم. عودة المهاجرين والأنصار ليعيدوا الفتح الموعود بشروط الكرامة وشروط السيادة.
نعم السيادة هل فهم البعض مقصدي؟
ما أعظمكم وأنتم ترفعون راية المقاومة وتشكّونها فوق أنقاض بيوتكم المدمرة، أو على شجراتكم الناجية من فوسفور الهمجية، أو فوق سطوحكم التي لطالما فرشتم عليها الصعتر ومونة البيت.
ما أنبلكم حين عناقكم لبعضكم كطيري الحب.
ما أنخاكم يوم وقفتم إلى جانب المظلومين في غزة تحت شعار “هيهات”.
أنا مدينٌ لكم ببقاء منزلي في بيروت كما في صيدا والجبل وطرابلس وباقي المناطق الناجية من العدوان.
تهدمت بيوتكم وحميتم بيتي وعواميده وسطحه الذي أرفع عليه علم لبنان وراية المقاومة.
أنا كلبناني من خارج الجنوب مدين لتضحياتكم من أجلي، دون أن تتعرفوا عليّ أو تعرفوا اسمي.
فأنا لم أكن جاراً لكم في السكن.
وأنا لم أكن قريباً لكم في النسب.
وبرغم ذلك “فرضتم” عليّ نعمة الانتساب.
أنا كعربي من لبنان ذكرتموني بنخوة العرب وخذلان العربان.
أنا كمسيحي مشرقي ممتنٌ لكم بجمعكم بين كنيسة القيامة والمسجد الأقصى، وأعاهدكم على إكمال رسالة التوحيد والوحدة.