ليالي رمضان يجتاحها نيزك مسلسل “البطل” السوري

شهر رمضان ليس فقط شهر العبادة والاستعانة، بل يُعتبَر أيضًا موسمًا ثقافيًا تتفجّر فيه الشاشات الصغيرة بالدراما التي تُجسّد هموم المجتمع وتاريخه وأساطيره.

في العام 2025، قدّمت الدراما الرمضانية خليطًا من الأعمال المتنوّعة بين “التاريخي الفنتازي” (معاوية) الذي أثار الجدل في سرده الذي يُظهِر معاوية في المسلسل وكأنه شخصية من شخصيات مارفل؛ وبين الاجتماعي الواقعي (البطل)، وبين الحركي مثل (تحت سابع أرض) لسامر البرقاوي وصادق الصبّاح اللذيْن، وكما في السنوات السابقة، اعتمدا فورميلا واحدة مع تيم حسن، ولكن الفرق هذه السنة، كانت أكثر سوداوية وعبثية، إذْ لا وجود في سوريا المعاصرة لشخصية طيبة. الكل حاقد والكل فاسد والجميع ساقط اجتماعياً من الأم و”انت نازل”، كما نقول بالعامية. وهناك المسلسل المصري (عتاولة٢) بنصٍ مستنسخ عن الجزء الأول، و(ليالي روكسي) لمحمد عبد العزيز، العمل الأنثروبولوجي المصحّح للبيئة الشامية الذي صنع مسلسلًا لمحبّي تاريخ السينما وليس لجمهور “الشامي” مغني شارة “تحت سابع أرض” وغيرها من الأعمال الكثيرة.

***

 في شهر رمضان، يُتابع المشاهد العديد من الأعمال كما في كلّ عام باحثاً عن العمل المتفرّد الذي يسطع متربّعاً على قمة الأعمال في المحطات التلفزيونية والمنصّات. ولقد استوقفني هذه السنة مسلسل “البطل”، إخراج الليث حجو (مخرج “ضيعة ضايعة”، “الخربة”، “الندم”، “مسافة أمان”..) وسيناريو رامي كوسا وبطولة بسام كوسا، محمود نصر، نور علي، حسين عباس، جيانا عيد، خالد شباط.

في هذا المسلسل، يعود الليث حجو إلى واقعيته، ولكن بحلّة جديدة في نص عبقري مأخوذ عن مسرحية “زيارة الملكة” لممدوح عدوان بمعالجة عبقرية أيضاً لرامي كوسا ولواء اليازجي.

يطرح العمل قصة قرية سورية يستقبل أهلها نازحين من قريةٍ أخرى. وكما كانت “ضيعة ضايعة” أيقونة الدراما والكوميديا السوداء السورية، شدّ حجو لجامه في “البطل” لينطلق في السباق الرمضاني مستعيناً بفريق عمل أقل ما يقال عنه إنه محترف في الأسلوب الواقعي كما في الديكور والتعبير والتصوير.

في هذا المسلسل، جسّد حجو روح الواقعية الجديدة خلال الحرب في سوريا، وتفاصيل الأماكن والحياة اليومية والمعاناة المعتادة؛ مثل، انتظار الكهرباء وشحن الجوّال والأحذية الموحّلة وعقبات الكرسي المدولبة وعدم الخروج من المنزل من دون الهوية الشخصية وتنشيف المنشفة فوق مدفأة الحطب وحلم المستقبل الرغيد المتمثّل بالهجرة والسفر خارج البلاد، وغيرها الكثير الكثير من التفاصيل المحزنة والمضنية.. ولكن الجذابة.

***

الواقعية كفنّ وأداة ليست غريبة عن الفنانين السوريين، كالراحل مبكراً عبد اللطيف عبد الحميد في أفلامه الأولى (ليالي ابن آوى؛ رسائل شفهية). وأكاد أرى عدسة وائل عزّ الدين مدير تصوير معظم أفلام جود سعيد التي جسّدت تفاصيل الحياة في الأزمة السورية (مطر حمص، رحلة يوسف، مسافرو الحرب..)، إذ إنه كان سبّاقاً في استقراء الواقع السوري وترجمته بلغة سينمائية عالية الإحساس. وتلك الواقعية نفسها تذكّرنا بالواقعية الإيطالية الجديدة كفيلم «سارق الدراجة» (١٩٤٨) الذي أخرجه فيتوريو دي سيكا، والذي يجسّد روح الواقعية الجديدة بعد الحرب العالمية الثانية، باستعانته بممثلين غير محترفين ومن خلال تصويره في شوارع روما، محوّلاً الصراعات اليومية إلى فنّ عالمي.

أما في ما يخصّ التصوير، فيقدّم حجو أسلوباً جديداً في روايته من خلال العدسة القريبة والكاميرا المحمولة في مواقع حقيقية للتوثيق ولاستفزاز المشاهِد حتّى يستقرئ لغة الصورة. ولا نستطيع إلاّ أن نقارن العمل بالموجة الفرنسية الجديدة كفيلم «الأربعمائة ضربة» (١٩٥٩)، أي عندما استخدم فرانسوا تروفو في فيلمه – شبه السيرة الذاتية – كاميرات محمولة وتصويرًا في مواقع حقيقية في باريس، لالتقاط عزلة الشباب. ونشمّ، كذلك الأمر، رائحة سينما سبعينيات القرن الماضي القاسية الجريئة، كفيلم “سائق التاكسي” (١٩٧٦) حيث يُظهِر مارتن سكورسيزي تحوّل السائق إلى بطل فوضوي من الطبقة العاملة في ليالي شوارع نيويورك القاسية، تماماً كما تحوّل فرج (محمود نصر) من إنسان عادي يُرثى لحاله، إلى بطل تستغيث به القرية وقت الشدّة، ومن ثم إلى رجلٍ قاسٍ لا يستطيع كبت غضبه. أما المايسترو راجح (حسين عبّاس) الذي يُحيّرك بأدائه، مجسّداً رجل القانون البيروقراطي حتى النخاع، بمعيار قيّم يتحرّك حسب الوضع الراهن في القرية أثناء الحرب السورية، أي عندما تآكلت المؤسسات وتحلّلت وفشلت (كالمخفر والمدرسة والبلدية).

نسج مسلسل “البطل” مصطلحات هذه القرية الحقيقية وانتقدها مؤسّسياً في نسيجه السردي. فالحوار الأصيل السهل (الصعب جداً في نظمه) من أهم عناصر الواقعية التي تبلورت في أوائل القرن الحادي والعشرين في مسلسل «ذا واير» (٢٠٠٢–٢٠٠٨) حيث تُستخدم مصطلحات محلية ولغة بيروقراطية تعكس طبقات بالتيمور الاجتماعية. وهنا لا بدّ من الإشادة بأداء الشاب “الكاميليون” (خالد شباط) في مشاهد لا تُنسى، كتفاصيل ردة فعله بصمت أمام عنصر الحاجز عندما يكون في سيارة الأجرة متوجّهًا إلى لبنان (الكثير منّا ممّن تعرّضوا للموقف نفسه يعرفون هذا الشعور الصامت المرير). تقصّدت عدم الكلام عن العرّاب بسام كوسا صاحب الوجود الساحر الذي يضيف لأي عمل بعداً إبداعياً جديداً في دراسة الشخصية، وعن الفنانة جيانا عيد بأدائها المتقن الذي يخطف الأبصار. أمّا من جهة الديكور والإخراج الفني والإكسسوارات والأزياء والماكياج، فنُفّذت بحرفية فائقة لدرجةٍ لا يشعر المشاهِد أنها مشغولة أو مركّبة أو موجودة أصلاً. هذا فضلاً عن موسيقى سعاد بشناق التي تدخل حجرات القلب الأربع لتجعلها تنبض بالحزن والشجن الجميليْن وتحاكي السنين الشاقة التي مرّت على الشعب السوري.

إقرأ على موقع 180  دستور أحمد الشرع: الرجل الواحد، الفاتح.. "البونابرتية السورية"!

لعلّ المشهد القاتل (أو ما نسمّيه بلغة الصورة الـ”ماستر سين”) في مسلسل “البطل”، ظهر في الحلقة الأولى عبر مشهد تحيّة الصباح. الكاميرا خلف مدير المدرسة من الأعلى ونرى ونسمع تآلف موسيقى النشيد الوطني مع أصوات الطلاب ليتّسع المشهد ونرى المدى البعيد للمدرسة وصولًا إلى التلال المجاورة حيث الدخان والنيران القريبة. مشهد يختصر الواقع في سوريا المعاصرة وليس مجرّد لقطةٍ مذهلة، بل خلاصةٌ رمزيةٌ لصراعٍ بين الأمل والدمار. وهنا تكمن عبقرية “البطل”: فهو لا يكتفي بسرد القصة، بل يدفع المشاهد إلى تأمل التناقضات التي صنعتها الحرب. وأيضاً مشهد راجح (حسين عباس) عندما يُعطي زوجته وبناته قنبلة يدوية ليفجروا أنفسهم اذا أحسّوا بخطر الأسر. ففي هذا المشهد ما لم يقله راجح اشد بلاغةً مما قاله في أداء هذا المشهد وهو بالمناسبة مشهد حقيقي سمعناه من سوريين عاشوا مأساة الحرب. ماذا بعد؟

في خِضَمّ الزخم الدرامي الرمضاني الذي يتبارى فيه صنّاع المحتوى بين اجتذاب الجمهور واستفزاز ضميره، يبرز مسلسل “البطل” في محاولة لإثبات أن الفنّ السوري ما زال قادرًا على خلق أعمالٍ تُحاكي الواقع من دون أن تُسقطه في فخّ السوداوية المفرطة، أو أن تُزيّنه بطلاء الدراما التسويقية. فبينما تنغمس معظم الأعمال في تكرار الصيغ الجاهزة أو الانزلاق نحو العبثية والفساد كمرآةٍ مشوّهة للمجتمع، اختار الليث حجو ورامي كوسا أن يعاكسا المألوف، مُعيدَيْن تعريف “الواقعية” ليس كمجرد تقنية فنيّة، بل كفعلٍ مقاومٍ يُوثّق تفاصيل الحياة اليومية السورية بكلّ ما تحمله من قسوةٍ وجمال.

***

لم يكن “البطل” مجرّد مسلسلٍ يُضاف إلى قائمة الأعمال الرمضانية، بل تحفةٌ فنية تُذكّرنا بأن الحرب السورية، وبرغم جراحها، أنجبت مبدعين قادرين على تحويل الألم إلى فنٍّ عالمي. فمن خلال عدسةٍ قريبةٍ تلامس همسات الشخصيات، وديكوراتٍ تبدو كأنها نُسخت من قرى سوريا المُنهَكة، وحوارٍ يمتزج فيه السرد المسرحي (المستوحى من ممدوح عدوان) مع اللهجة المحكية ببراعة، استطاع العمل أن يختزل مأساة شعبٍ بكامله في قصة قريةٍ صغيرة. وعليه، لا يُوجد أبطال خارقون، بل بشرٌ عاديون تُحاصِرهم الظروف، فيتحوّلون من ضحايا إلى جلّادين، أو من أحلام الهرب إلى واقع التمزّق بين الانتماء والنجاة.

في زمنٍ تُسيطر عليه الأعمال السريعة المُنتَجة لـ”الترند”، يطرح “البطل” سؤالًا جوهريًا: هل يمكن للفنّ أن يكون شهادةً تاريخيةً من دون أن يفقد روحه الجمالية؟ مسلسل “البطل” أجاب على هذا السؤال الذي أثبت أنّ الدراما السورية قادرة على المنافسة العالمية لتبقى خلاصة الخلاصة أن الدراما العربية بخير.

Print Friendly, PDF & Email
حيدر الصفّار

كاتب سيناريو، العراق

Premium WordPress Themes Download
Premium WordPress Themes Download
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  ما هو سر دفء العلاقات بين موسكو وطهران من وجهة نظر الإسرائيليين؟