مأزق الأكثريات والأقليات.. وسايكس بيكو الجديد!

تصريح المبعوث الأميركي، توم برّاك، حول امكانية ضم لبنان إلى بلاد الشام، أثار اشكالية قديمة جديدة تتعلق بالخرائط التي رسمت للمنطقة بعد اتفاقية سايكس-بيكو. غداة تصريح برّاك هذا، وضمن سياق مختلف، اندلعت اشتباكات بين مجموعات درزية مسلحة والقوات الحكومية السورية في محافظة السويداء أعادت إلى الأذهان مجازر الساحل التي ارتكبت بحق العلويين. الحدثان (مواقف برّاك وأحداث السويداء)، وان بديا مختلفين، إلا أنهما نتاج عطب في منظومة سياسية عربية أنتجت مجتمعات متناقضة ومفاهيم مشوهة وممارسات قاصرة.

بدايةً، لا أستسيغ على الاطلاق إطلاق تسمية “الأقليات” على مكونات طائفية أو مذهبية أو قومية تعيش في مجتمعاتنا. غير أنّ واقع بلداننا العربية، يميل في تركيبة أنظمته السياسية، إلى أن يقترن ببنية طائفية أو مذهبية صار الكثيرون يقاربونها من خلال ما يُسمى “المكونات”؛ المصطلح الذي راج في أعقاب الغزو الأميركي للعراق عام 2003.

عندما نُردّد مصطلحات مثل “مشكلة الأقليات” أو “مأزق الأكثريات” كأننا نرمي مشاكلنا على أنفسنا، فيما المشكلة الأساس ترتبط بدولنا وأنظمتها السياسية التي عجزت عن صهر المكونات الدينية والطائفية والقومية، في بوتقة واحدة.

وبدلاً من أن تكوّن الدولة هوية وطنية جامعة، رأينا مجتمعاتها تنخرط، بفعل عوامل داخلية أو خارجية، في نزاعات أهلية/طائفية. ولا بد في هذا السياق من إرجاع المسألة أولاً إلى القوى الاستعمارية التي توالت على منطقتنا، وبخاصة بعد اتفاقية سايكس بيكو الشهيرة وما نتج عنها من رسم حدود مصطنعة لجماعات كانت تعيش في رقعة جغرافية واحدة قبل أن يُقرّر الاستعمار حدود هذه الدول نسبةً لمصالحه.

وعلى هذا المنوال، تمّ اخضاع مجموعات طائفية ومذهبية لتصير ضمن بيئة مجتمعية واحدة وتحت عباءة سياسية واحدة. غير أن هذا الاخضاع لم يكن نتيجة تأصيل عقد اجتماعي حقيقي، بل بفعل عملية قاصرة ومجتزأة ومبتورة، من فوق إلى تحت بدلاً من أن تكون من تحت إلى فوق. إزاء هذا الواقع، لم يُترك لهذه المجموعات سوى الخضوع الاضطراري للدولة ومؤسساتها. وفي بعض الحالات الضيقة، تمردت هذه المجموعات عندما أتيحت لها الفرصة.

تسلّط حزب البعث على الوطن السوري، لم يمرّ من بوابة الطائفة أولاً، بل أتى كنتيجة حتمية لمسيرة تسلط على الجيش والدولة ومن ثم المجتمع والطائفة، وساهمت كل هذه العوامل، في قيام نظام ديكتاتوري، استمر لخمسة عقود من الزمن، كان من أبرز ضحاياه أبناء الطائفة العلوية الذين دفعوا أكبر الأثمان في الأزمة السورية وبعدها

بالمناسبة، فإنّ العشائر، بوصفها تشكيل اجتماعي ما قبل طائفي، مشكلتها الأساس في مجتمعاتنا الحديثة، أنها مع الطائفة وليس مع الدولة ذلك لأن نشوء الطائفة كتشكيل سياسي، قد قضى على مرتكزات عصبية العشائر. إذاً، هُمّشت الأقليات الطائفية والمذهبية والقومية في عهد الاستعمار الحديث لدولنا (الاستعماران الفرنسي والإنكليزي). وزاد الطين بلّة أنّه عندما نالت بلداننا العربية الاستقلال في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي، مارست التهميش نفسه الذي تركته ورثة الاستعمار، إزاء هذه الأقليات. ولم تنخرط هذه الدول بعملية إنضاج وحدة وطنية على قاعدة محددات هوياتية وثقافية محددّة، فحكمت أنظمتها السياسية إما بفعل القوة العسكرية (انقلابات عسكرية) أو التحالف مع القوى الدولية الكبرى الناشئة بعد الحرب العالمية الثانية (الولايات المتحدة أو الاتحاد السوفياتي أو قوى إقليمية) أو بسبب العاملين المذكورين في آنٍ واحد.

وعندما رسخّت القوى الحاكمة في العالم العربي حكمها، إنما رسّخته لا بالاستناد إلى تفاهمات وطنية لها أسسها السياسية والتنموية والاقتصادية والثقافية، بل بالاستناد إلى تكثيف القمع الذي رافق مسيرة حكمها، منذ أن تسلمت هذه الأنظمة مقاليد الحكم في منتصف القرن الماضي وصولاً إلى شرارة الربيع العربي (2011).

وبناءً على ذلك، كلما اندلعت أزمة سياسية أو اقتصادية أو أمنية في بلداننا، يبرز مجدداً الخوف على الأقليات، لأنّ طبيعة التأسيس السياسي والمجتمعي، غير مبني على أسس متينة. وفي منطق التاريخ وعلم النفس، فإنّ تهميش أي جماعة واقصائها والتعامل معها بوصفها شريكاً غير مؤسس للوطن، سيدفع هذه الجماعة في وقت معين، للانتقام أو محاولة انتاج كيانها السياسي والمجتمعي البديل للنظام المركزي. من هذا المنظار، يجب أن يُنظر إلى محاولات الأكراد الانفصالية؛ فلو أن الكرد مدمجون في مجتمعاتنا العربية، لما فكّروا في تأسيس كيانات ذاتية. وهنا المشكلة تقع على عاتق الأنظمة السياسية الحاكمة ولا سيما في كل من سوريا والعراق؛ النظامان اللذان همّشا الكرد سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وثقافياً.

وعلى سبيل المثال لا الحصر، فإنّ البعثين السوري والعراقي، وعلى الرغم من خلافهما المستميت، الا أن هذا الخلاف لم يمنعهما من اقصاء وتهميش الأكراد. عموماً، دفعت الأقليات الثمن مرتين: مرة بفعل تركة الاستعمار ومرة أخرة بفعل الأنظمة القمعية الحاكمة طبعاً فيما خلا بعض الاستثناءات لا سيما في الحالة اللبنانية.

وحتى في حالة النظام الأسدي العلوي الأقلوي، فإنّ تسلّط حزب البعث على الوطن السوري، لم يمرّ من بوابة الطائفة أولاً، بل أتى كنتيجة حتمية لمسيرة تسلط على الجيش والدولة ومن ثم المجتمع والطائفة، وساهمت كل هذه العوامل، في قيام نظام ديكتاتوري، استمر لخمسة عقود من الزمن، كان من أبرز ضحاياه أبناء الطائفة العلوية الذين دفعوا أكبر الأثمان في الأزمة السورية وبعدها..

إقرأ على موقع 180  أميركا وإيران: الصراع القاتل على النفوذ

ويسري ذلك على باقي الأقليات مثل الطائفة الدرزية التي يُصار إلى استخدام “قضاياها” لأجل خلق دفرسوار إسرائيلي ضمن الواقع السوري الجديد؛ وليس خافياً على أحد أن إسرائيل لن توفر لا أكثرية ولا أقلية عندما يتصل الأمر بمصالحها وأمنها القومي؛ لكن جوهر المشكلة يكمن في قدرة أنظمتنا العربية على تلقف هواجس كل الفئات وادماجها من خلال المواطنة، لا من خلال الهويات الطائفية والمذهبية.

والحال أنّ الكثير من المثقفين والنخب السياسية في المشرق العربي الذين ينتمون إلى الأقلية المسيحية فيه قد أثروا الحياة السياسية والحزبية العربية فكانوا جزءاً أساسياً من الحياة السياسية في العالم العربي. إضافةً إلى ميشال عفلق مؤسس حزب البعث، وجب الحديث عن الإرث الفكري والسياسي لمؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي أنطون سعادة (مسيحي لبناني) ومؤسس الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين جورج حبش (مسيحي فلسطيني) والأمين العام السابق للحزب الشيوعي اللبناني جورج حاوي (مسيحي لبناني) وغيرهم..

تأسيساً على ما تقدّم، فإنّ المأزوم في هذا السياق ليست الأقلية، إنما المجتمعات العربية بشعوبها “الأكثرية” أيضاً، والتي لم تستطع بلورة صيغ سياسية واجتماعية يجتمع تحت عباءتها شعب واحد بمحددات مشتركة. وبحال نجاح هذا الأمر سابقاً، لانتفى الحديث عن منطق “أكثريات” و”أقليات” واستبدلناها بـ”مجتمعات” و”دول”.

في المحصلة، ضعف المناعة الوطنية وعدم تماسك المجتمعات الوطنية وغياب الهويات المشتركة واقصاء السياسة بوصفها عملية مجتمعية متكاملة، كلها عوامل أسهمت في تردي وضع الأكثريات في العالم العربي، فكيف الحال بالنسبة للأقليات القلقة على حاضرها ومستقبلها. قلقٌ عرفت كيف تستغله الأنظمة الحاكمة أو القوى الاستعمارية لتبرير قمعها واحتلالها. كادعاء بشار الأسد في سردية تبريره للعنف أنه يحمي الأقليات في سوريا أو في أنّ إسرائيل تود حماية دروز الجنوب السوري أو أنّ فرنسا قلقة على مصير موارنة لبنان!

ثمة سايكس بيكو جديد ترتسم معالمه في المنطقة.. وإلا ما معنى الحديث عن عدم نهائية الحدود والكيانات من مصر إلى العراق مروراً بفلسطين وسوريا والأردن ولبنان.

Print Friendly, PDF & Email
عطالله السليم

كاتب وباحث سياسي

Download WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  تقرير "أمان": سنتان للقنبلة النووية.. والحدود الشمالية قابلة للتفجر