

منذ عملية “طوفان الأقصى”، في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، تجاوزت المخططات الصهيونية مداها بسرعة خارقة، وبدأ فصلٌ جديدٌ من الصراع العربي– الصهيوني، في ظلّ اختلال موازين القوى وحالة الضعف العربي، وفي ظلّ غياب الحدّ الأدنى من التضامن الذي كنّا قد شهدناه في ستينيات وسبعينيات القرن المنصرم بسبب الانقسامات الدينية والمذهبية والطائفية.
المشروع الذي نحن بصدده عنوانه “ممر داوود”. وممر داوود له علاقة بالأدبيات التوراتية. وهو جزء من الحلم الصهيوني بـ”دولة إسرائيل الكُبرى”. تبدأ حدود هذه الدولة (شمالاً) من الجولان السوري المُحتل، وتمرّ بالقنيطرة ودرعا وجبل حوران، فالبادية السورية باتّجاه التنف عند الحدود السورية-الأردنية-العراقية، ثمّ إلى منطقة كردستان (داخل العراق) حتى ملامسة الحدود التركية (شرقاً).
ويُفترض أن يفتح هذا “الممر” “بوابة” جديدة باتجاه أوروبا. ويعني ذلك إمكانية الاستغناء عن قناة السويس وطريق الحرير الصيني، فيصبح “الممر” طريقاً لنقل البضائع من الخليج وآسيا الوسطى إلى أوروبا. وهنا تكمن أهميّته القصوى بالنسبة لإسرائيل.
لهذه الأسباب تريد إسرائيل التطبيع، وبأسرع وقت ممكن، وبالشروط التي تُحدّدها هي مع البلدان العربية، بحيث تكون موانؤها جاهزة لنقل البضائع براً وبحراً إلى أوروبا.
طموح استعماري قديم
ما علاقة ما يجري في السويداء، من اقتتال ومجازر، بذلك؟ إنه جزء من مخطط الاحتراب الداخلي، والإرهاب الديني والطائفي والإثني، الذي بدأ بالساحل السوري- اللاذقية تحديداً- ثم انتقل إلى حمص، وبعدها إلى جرمانا، وصولاً إلى السويداء. أي المخطط هو تمزيق الوحدة الوطنية المجتمعية في سوريا. والسويداء تقع في قلب “ممر داوود”، وهي آخر عقدة ديموغرافية وجغرافية للوصول إلى التنف، وتشكّل حزاماً فاصلاً بين الجنوب السوري والمناطق الشرقية، حيث النفوذ الأميركي. لهذا يجب السيطرة على السويداء لإعادة رسم طريق الطاقة والتجارة والهيمنة في المنطقة. ولعلّ تفجير الصراع الطائفي والمذهبي سيكون مبرراً لإسرائيل لوضع يدها على السويداء، علماً أن قيادات دُرزية وازنة، وفي مقدّمتها زعيم الطائفة الدُرزية في لبنان، وليد جنبلاط، أعلنت رفضها للحماية الإسرائيلية المشبوهة للدروز.
إن مشروع “ممر داوود” هو طموح استعماري قديم، وجزء من الاستراتيجية الصهيونية. وكان برنارد لويس قد أطلق فكرة “الشرق الأوسط الجديد” منذ العام 1955، ووطوّرها في العام 1979، قبل أن يتبنّاها الكونغرس الأميركي في جلسة سرّية عام 1983. وملخص فكرة لويس هو تقسيم منطقة الشرق الأوسط على أساس عرقي وديني وطائفي تمهيداً للهيمنة عليها. ووضع الباحث الصهيوني عود نيون لمسته على هذا المشروع في العام 1982، كما أجرى ئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، شمعون بيريز، تعديلات عليه بالاعتماد على الاقتصاد كمحرّك أساسي ومشترك لتحقيقه، ونشره في كتابه الموسوم “الشرق الأوسط الجديد“، عام 1992.
الهدف من “ممر داوود” أن يكون مكمّلًا لـ”الممر الهندي–الأوروبي” ليشمل مصر وسوريا والعراق.. والاستغناء عن قناة السويس ومضيق هرمز.. وعزل إيران وأية جهة تُعادي إسرائيل والمصالح الغربية
ولتحقيق هذا الطموح الاستعماري، بدأت إسرائيل بتنفيذ خطة لإثارة الصراع الطائفي واستثماره في السويداء، ومن ثم التدخّل بزعم منع وقوع مجازر بحق الدروز، لتبدو وكأن رسالة إسرائيل “إنسانية”، أي “حماية الدروز”. وللأسف الشديد، فإن المشكلات الدينية والطائفية والإثنية ظلّت بؤرة توتّر في دول الإقليم، والسبب هو عدم حلّها بالحوار السلمي والاعتراف بحقوق المجموعات الثقافية والإثنية والدينية والسلالية واللغوية، وعلى أساس المواطنة المتكافئة والمتساوية.
تفتيت المنطقة
وما هو أخطر من ذلك، أن المشروع الصهيوني يلتقي مع المشروع الهندي–الأوروبي، لكي تصبح إسرائيل دولة مركزية في الإقليم مهيمنة اقتصادياً وعسكرياً وتكنولوجياً وعلمياً عليه، باستغلال ثرواته وممراته الحيوية، سواء بضمّها كاملة أو بالتحكّم بمصيرها. وكانت قمة دول اﻟـ 20G في الهند (2023) قد ركّزت على ربط الهند بأوروبا عبر إسرائيل ودول عربية أخرى.
وبذلك يُصبح مشروع “ممر داوود” مكمّلًا لـ”الممر الهندي–الأوروبي”، بل إنه يمتدّ ليشمل مصر وسوريا والعراق. والهدف هو تقليل الاعتماد على قناة السويس ومضيق هرمز، فضلاً عن عزل إيران وأية جهة تُعادي إسرائيل والمصالح الغربية.
هكذا سيكون “ممر داوود” و”الممر الهندي” مشروعين بديلين عن مبادرة “الحزام والطريق الصينية”، ومنافسين قويين لها، لتقويض النفوذ الصيني وقطع الطريق على توسيعه وتعطيل تحالفه مع موسكو التي لديها بقايا نفوذ في دول الإقليم. كما سيكون معرقلاً لأية حركات أو تيارات لا تنسجم مع المحور الغربي–الإسرائيلي التطبيعي الجديد، عبر عزلها اقتصادياً وتطويقها سياسياً وقمعها عسكرياً بزعم مكافحة الإرهاب، وبحجة منع تهديد الاستقرار في المنطقة.
وقد يأخذ مشروع “ممر داوود” بُعداً آخر بتفتيت سوريا والعراق، عبر إقامة كانتونات إثنية وطائفية، وجعل الجميع “أقليات”، بحسب وصفة هنري كيسينجر، الذي كان يقول “علينا إشادة إمارة وراء كلّ بئر نفط، لتكون إسرائيل الأقلية المتفوقة علمياً وتكنولوجياً وعسكرياً. وإسدال الستار على ما سُمّيَ بالصراع العربي–الصهيوني الذي عرفه الشرق الأوسط منذ أكثر من قرن من الزمن، وزادت وتيرته بعد قيام دولة إسرائيل في العام 1948”.
يأتي مخطط استهداف الدروز بعد مخطط مشابه لاستهداف المسيحيين في المنطقة، وكذلك استهداف المجموعات الثقافية الأخرى، كي يصبح بإمكان إسرائيل أن تدعي أن العرب والمسلمين لا يستطيعون التعايش مع غيرهم، من أديان أو طوائف أو إثنيات أخرى، فكيف يقبلون باليهود؟ في حين أن الصراع العربي-الإسرائيلي هو حول الحقوق والأرض وليس بين الأديان وقيم السماء.
إن مشروع نتانياهو–ترامب التفتيتي التوسّعي يقوم على صناعة الفوضى في المنطقة، وتقويض أية إمكانية لاستعادة بناء دول هذه المنطقة، وخصوصاً سوريا والعراق ولبنان، وبالتالي الإبقاء على خيار وحيد، وهو “ممر داوود” و”الطريق الهندي-الأوروبي” بتبرير مزعوم أنه طريق الرخاء لدولها وشعوبها.