

“الصائغ” سمير منشغل بتطويع الألف على طريقة “الواحد المتعدد”. يضعها أرضاً لترتاح قليلاً وتشلح غُبار الحرب فإذا هي قادرة على التحول والخروج من هيكلها الصلب لتتأنق بقوام سفينة؛ أو يضعها أمام تحدي الحجاب، فتفلت من شِباك السلطة الدينية وتظل تسعى من أجل الحرية. بل يذهب الصايغ إلى محاولة إخراج “أهل الصناعتين” من كهف الجمود مستعيداً مأساة الحلاج الذي رأى واستشهد.. والصايغ لا يتأخر عن السؤال: هل ترون في لوحة المصلوب قيامة القدس!
كان يمكن الاكتفاء بهذا القدر من التعليق على الفاتحة الافتراضية للمعرض والتي جعلتنا نقف بخشوع أمام لوحة صعود القديس، لولا أن وظيفة الألف أن تفتح الباب للولوج إلى بستان الصايغ الذي عبر الأزمنة والتجارب، شرقاً وغرباً، متجاوزاً مفاهيم الحداثة وما بعدها ليستقر على رؤية نقدية تعلن تفكك النظامية التقليدية للثقافة العربية، وقيام “مملكة ما بعد الحروف”، وفيها تتعدد المقاربات التقنية للشكل واللون في زمن الذكاء الاصطناعي وولادة عصر صناعي جديد.
وقفتُ طويلاً أتأمل في جمالية اللوحات الحمراء المستوحاة من دراسة معمّقة لفنون الخط الصينية، وفي محدودية الألوان التي اختارها الفنان لجدلية الذكر والأنثى التي ينقصها شيء يُحرّرها قليلاً من النزعة الفلسفية.
مقاربة سمير الصايغ لإشكالية “نعم ولا” تُظهر قوة التكثيف في صياغتها الدينامية لتجعلها تتبوأ مكانة الجوهرة بين الأعمال المعروضة، وتالياً تغرينا باستعادة الحوارية الرمزية بين المُعلِّمين الكبيرين، إبن عربي وإبن رُشد. امتدت الحوارية على ثلاث لقاءات، حصل الأول عندما كان إبن عربي في سن العشرين (نحو 1185)، وكان لإبن رشد علاقة صداقة قوية بوالد إبن عربي، وهو أعرب عن رغبته في التعرف على الشاب الذي راحت شهرته الروحية تكبر يوماً بعد يوم في الأندلس والمغرب. سأله إبن رشد “أي نوع من الخلاص وجدت عبر الإشراق أو الإلهام الإلهي! هل هو مماثل لما يُوفّره لنا التفكير النظري”؟ فما كان من “الشيخ الأكبر” إلّا أن أجاب: “نعم ولا، بين النعم واللا تُحلّق الأرواح خارج المادة”.
ويُروى أن إبن عربي كان يبغي لقاء ثانياً مع قاضي قرطبة، لكن هذه المرة “كان ثمة حجاب خفيف، وكنت أراه عبر هذا الحجاب، من دون أن يراني هو ويعرف أنني كنت هنا”. أخيراً، حصل لقاء ثالث مختلف عندما حضر إبن عربي مراسم جنازة إبن رُشد بعدما استعيدت رفاته من المغرب حيث تُوفي، إلى قرطبة على دابة حملت جثمان الفيلسوف من جهة، وكُتبه من الجهة الأخرى. وظل هذا المشهد موضوع تأمل للشيخ الأكبر طوال حياته: “المعلم من ناحية ومؤلفاته من ناحية أخرى. آه كم أتمنى أن أعرف إذا كانت رغباته قد استُجيبت”!
لا أدري إذا كان سمير الصايغ قد وجد أخيراً ما يُرضيه في حصاد العمل المميز بين الشعر والنقد والرسم، ولكن الأكيد أنه لا يتوقف عن السعي المنتج، وأن الأعمال التي يضمها معرضه الأخير هي من النوع الذي يُحلّق بعيداً عن الأُطر المادية المصنوعة لاحتواء المواضيع المختلفة، والدليل يتجسد بالمعاني والأبعاد الجمالية المفترضة في افتتاحية الألف التي يُمكن أن نتساءل في شأنها عما إذا كانت تُمثل كشفاً لمحنة اللغة والثقافة العربية تحت وطأة الانحطاط السائد؟