الوسيط في مرمى النيران.. قراءة في الاستهداف الإسرائيلي للدوحة

حرب «طوفان الأقصى» كانت نقطة تحوّل ما يزال صداها يتردد في حسابات الإقليم والدول الكبرى؛ العملية التي أطلقتها المقاومة الفلسطينية في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 قلبت موازين الأمن والإدارة السياسية في المنطقة، وأجبرت اللاعبين الإقليميين والدوليين على إعادة رسم أولوياتهم الاستراتيجية بين إدارة أزمة إنسانية متفاقمة، ومحاولة استثمار عسكري وسياسي لمكاسب آنية.

لم تكن حرب “طوفان الأقصى” مجرد اشتباك عسكري محلي بل ولّدت تسلسلاً من المبادرات والمواجهات التي امتدت آثارها إلى ساحات دبلوماسية متعددة وفتحت مجالاً واسعاً لاستثمار الأزمة داخلياً في سياسات بعض الأنظمة الإقليمية والداعمين الخارجيين.

في هذا السياق، جاء الاستهداف الإسرائيلي لدوحة الوساطة، والذي يعد تصعيداً نوعياً: غارة جوية إسرائيلية استهدفت مواقع يُقال إنها تضم عناصر من قيادة حماس في العاصمة القطرية وأسفرت عن خسائر بشرية بين قتيل وجريح، ودفعت السلطات القطرية والمجتمع الدولي إلى إدانات واسعة وقلق دبلوماسي غير مسبوق تجاه مسألة السيادة ووظيفة الوسيط. هذه الضربة لم تكن مجرد عمل استخباراتي أو عسكري تقليدي بل رسالة سياسية ضمن منطق يسعى لقطع طرق الوساطة وفرض معطيات جديدة على طاولة التفاوض، وهو ما عزّز الانطباع لدى كثيرين بأن تل أبيب ترى في ضرب قواعد الوساطة وسيلة لإضعاف أي حل تفاوضي يُقلّص مكاسبها الميدانية والسياسية.

وفي حين أعلنت حركة حماس أن قياداتها العليا نجت من الضربة، فإن مقتل عناصر وذوي علاقة بالمفاوضات أضعف الثقة في مسارات الإفراج عن الرهائن وفي أي تفاهمات قيد البناء، ما جعل شروط وقف النار في غزة تبدو أكثر تشدداً واستعصاءً على القبول من الأطراف الفلسطينية المعنية، خصوصاً عندما ارتبطت الضربة بوقت كان يجري فيه بحث مقترح أميركي لوقف نار تفاوضي. هذا الانكسار في ثقة الوسطاء يُحقّق مصلحة من يريدون استمرار حالة القتال كآلية لإعادة ترتيب النفوذ والوظائف السياسية.

دبلوماسياً، أثّرت الضربة في الدوحة مباشرة على علاقة المحور الخليجي-الغربي؛ استنفار قطري وخليجي أدى إلى انعقاد قمة عربية إسلامية ولقاءات طارئة وزيارات دبلوماسية للتنسيق واحتواء تداعيات الهجوم على استقرار الخليج، كما دفعت المسألة مجلس الأمن إلى قراءة مرحلة جديدة من الضغوط والمواقف التي لم تكن متوقعة في ساحة كانت تُعدّ فيها البحرين والإمارات وقطر جزءاً من شراكات هشة مع قوى غربية، لكن الضربة كسرت الكثير من مفاهيم الضمانات التقليدية وأظهرت أن قواعد اللعبة قد تتبدل بسرعة حين تتقاطع المصالح الأمنية مع منطق الاستهداف المتجاوز للحدود.

النتيجة العملية هي أن الضربة في الدوحة وأمثالها تضع الوساطات التقليدية على المحك؛ أي عملية تستهدف قادة أو مفاوضين داخل دولة ثالثة تُقلّل من فرص حل تفاوضي سريع وتطيل دائرة المعاناة الإنسانية. كما أنها تفتح باباً واسعاً أمام فصائل وطبقات سياسية ترى في استمرار الحرب فرصة لإعادة ترتيب مواقعها أو كبح تقدم مشاريع التهدئة التي تقصم أجنحة بعض اللاعبين الإقليميين

لفهم دوافع صانعي القرار في تل أبيب لا بد من إدراج البعد الداخلي الإسرائيلي؛ الاستمرار في حالة قتال يُخفّف ضغوطاً داخلية عن قيادات سياسية تواجه تحديات سياسية واقتصادية وقانونية، ويجعل من الخطاب الأمني غطاءً لإجراءات سياسية يمكن أن تُبرّر أمام جمهور داخلي متشظٍ. استثمار الحرب هنا ليس مظهراً عشوائياً بل آلية متداخلة مع أهداف أوسع: ضبط الساحة الإقليمية، إعادة رسم خرائط النفوذ، وإبراز قدرة إسرائيل على العمل الاستخباراتي والعسكري حتى خارج محيطها التقليدي. هذا المنطق يتوازى مع رهانات خارجية تستفيد من حالة الانقسام الدولي، وبخاصة عندما يجد المتحركون الإسرائيليون غطاء من شركاء دوليين يمنحونهم فسحة عملية.

لكن القراءة الدولية لم تقتصر على مآلات عسكرية؛ الصراع اتخذ وجهاً اقتصادياً واستراتيجياً واسع الأبعاد. صعود قوى ىسيوية كالصين وتنامي الشراكات بين روسيا والهند وشركاء آسيويين آخرين أعاد صياغة موازين القوة، وطرح تساؤلات حول قدرة الولايات المتحدة والغرب على حصر التأثير الدولي في اتجاه واحد. في هذا المناخ، تصبح القدرة على التحكم في سلاسل الإمداد والمواد الحيوية -من معادن نادرة إلى حبوب وأسواق تصديرية- سلاحاً ذا قيمة استراتيجية، بينما يفرض استمرار التصعيد عولمة مخاطره عبر ضربات اقتصادية متبادلة قد تستهدف قواعد قاعدة انتخابية أو صناعات أساسية في الدول المتورطة.

النتيجة العملية هي أن الضربة في الدوحة وأمثالها تضع الوساطات التقليدية على المحك؛ أي عملية تستهدف قادة أو مفاوضين داخل دولة ثالثة تُقلّل من فرص حل تفاوضي سريع وتطيل دائرة المعاناة الإنسانية. كما أنها تفتح باباً واسعاً أمام فصائل وطبقات سياسية ترى في استمرار الحرب فرصة لإعادة ترتيب مواقعها أو كبح تقدم مشاريع التهدئة التي تقصم أجنحة بعض اللاعبين الإقليميين. أخيراً، فإن دولاً صغيرة نسبياً لكنها ذات نفوذ وموارد، مثل قطر، أمام خيارين لا ثالث لهما: إما العمل الحثيث على تنويع تحالفاتها وزيادة أدواتها الاقتصادية والسياسية والدفاعية، أو تقليص هامش المناورة أمام موازين قوى متغيرة تجعل من دور الوسيط عرضة للمخاطر كلما تعاظم منطق الضربات العابرة للحدود.

خلاصة التحليل تكمن في أن الحرب والتحولات الاقتصادية-الجيوسياسية مترابطة: منطق الحرب يخدم أطرافاً تبحث عن نفوذ مؤقت أو إعادة رسم سياسات داخلية، بينما التحولات الاقتصادية وجغرافيا التحالفات الجديدة تحدّ من قدرة أي طرف على حسم المعادلة لمصلحة أحادية على المدى الطويل.

إقرأ على موقع 180  واشنطن والرياض.. التطبيع مع إسرائيل ليس ثالثهما!

في نهاية المطاف، أيُّ طريق للخروج من هذا المأزق يمر عبر مسارين متوازيين:

أولاً؛ وقف فوري وشامل لإراقة الدماء وإدارة إنسانية للأزمة.

ثانياً؛ منظور استراتيجي إقليمي-دولي يعيد توزيع فوائد الاستثمار في الأمن مقابل الاستثمار في التنمية والاستقرار.

ما عدا ذلك يعني أن دورة العنف ستدور من جديد وتُكسب من يراهنون عليها وقتاً ومكاسب قصيرة الأمد على حساب الاستقرار الطويل.

Print Friendly, PDF & Email
هشام الأعور

أكاديمي وكاتب سياسي لبناني

Download Best WordPress Themes Free Download
Download Premium WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  المفاوضات بين طهران وواشنطن.. ممكنة ومتی؟