لبنان بين العدوان والحصار.. لا بديل عن وحدة الدولة

هل أصبحت إسرائيل قدر شعوب المنطقة؟ سؤال يفرض نفسه اليوم أكثر من أي وقت مضى، في ظل مشروع "إسرائيل الكبرى" الذي يسعى لتفكيك الدول الوطنية، وخلق كيانات ضعيفة ومقسمة طائفياً، ليصبح لبنان هدفاً استراتيجياً، لا لكونه مجرد دولة حدودية، بل لأنه نقطة ارتكاز في مشروع إقليمي واسع يضع مصير شعوبه على المحك.
إن موقع لبنان الجغرافي بين سوريا وفلسطين، وتنوع مكوناته الطائفية، يجعلانه منذ سنوات ساحة مكشوفة للنفوذ الخارجي، حيث يتم استغلال كل خلاف داخلي وكل انقسام سياسي أو طائفي لتقويض قدرة الدولة على حماية سيادتها واستنزاف إمكانياتها وجعلها عاجزة عن اتخاذ أي قرار وطني حاسم.
الجنوب اللبناني والمناطق الحدودية ليست مجرد خطوط تماس، بل مسرح دائم للضغوط العسكرية والسياسية والنفسية. ومع اتساع رقعة الاستهداف أبعد من الجنوب، لتطال البقاع والضاحية الجنوبية لبيروت (اغتيال القيادي المقاوم الشهيد هيثم علي الطبطبائي وأربعة من رفاقه آخر غصولها)، ثمة رسائل واضحة تهدف إلى ضرب كل ركائز القوة وضرب عمق المجتمع اللبناني. القصف المتكرر، سقوط الضحايا، تهجير آلاف العائلات الجنوبية من قراها، واستمرار الاغتيالات التي تستهدف بيئات مختلفة بهدف نشر الخوف والفوضى، كلها عناصر في حرب مركبة تستهدف إضعاف تماسك الدولة والمجتمع معاً.
هذه الاعتداءات تحصل في ظل انقسام داخلي حاد حول كيفية التعامل مع التهديد الإسرائيلي. فريق يرى أن التفاوض قد يحمي البلاد من التصعيد، وفريق يراه مساساً بالسيادة ويشدد على تعزيز الجيش كخط دفاع أول. لكن المشكلة ليست في تعدد الآراء بحد ذاته، بل في غياب إطار وطني جامع يُنظم الاختلاف ويحمي القرار السيادي من التشتت والاستغلال.
لبنان يحتاج إلى قيادة صلبة، وإلى وعي جماعي يرفض الاستنزاف والتشتت، وإلى إرادة وطنية تضع حماية الوطن فوق كل الاعتبارات. من دون ذلك، ستبقى الاعتداءات الإسرائيلية، وقصف البقاع والضاحية واغتيال القادة المقاومين، وتهجير الأهالي، والحصار الاقتصادي، حلقات متراكمة في مسلسل ينهك الدولة والمجتمع معاً
ما يزيد الوضع هشاشة هو أن الانقسامات الداخلية لم تعد مجرد خلافات سياسية، بل أدوات استغلتها قوى داخلية وخارجية لإضعاف الدولة وشل كل محاولات الإنقاذ. الشلل السياسي، صراع الحصص، البطء في اتخاذ القرارات، ضعف التنسيق بين المؤسسات الأمنية والعسكرية، وحتى الخلاف حول قانون الانتخابات، كلها عوامل تفتح الباب واسعاً أمام أي اختراق خارجي للبنية الداخلية. التجارب في المنطقة من فلسطين إلى سوريا أثبتت أن التشظّي الداخلي هو أخطر مدخل للفوضى.
ولبنان يواجه اليوم تهديداً مزدوجاً: عدوان خارجي مباشر وغير مباشر، بالتوازي مع حصار اقتصادي خانق يضغط على المجتمع والدولة معاً. ضرب البنى التحتية، التضييق على الموارد، الضغط المالي والمصرفي، استهداف الأمن الغذائي والدوائي، كلها أدوات تُستخدم لإبقاء الدولة في حالة هشاشة تجعل أي تصعيد أكبر أثراً وعمقاً.
في هذه اللحظة المفصلية، تصبح المسؤولية مشتركة بين الجميع: رئيس الجمهورية جوزاف عون وكل المؤسسات الرسمية، قائد الجيش والقوى الأمنية، الحكومة والأحزاب السياسية، المجتمع المدني، والإعلام، وصولاً إلى المواطن الذي بات يعيش تداعيات الانهيار على يومياته. لا يمكن لأي طرف أن يعفي نفسه من مسؤولية حماية ما تبقى من الوطن، ولا يمكن لأي جهة أن تنتظر الآخرين ليتحركوا بدلها. وحدة الدولة ليست خياراً، بل شرط وجود.
مواجهة هذا الواقع تتطلب استراتيجية وطنية شاملة تضع المصلحة العليا فوق كل الحسابات. تبدأ بتوحيد الصف الداخلي، وترميم الثقة بين القوى السياسية والطائفية، وبناء منظومة تنسيق فعالة بين المؤسسات الأمنية والعسكرية، وتعزيز قدرات الجيش الدفاعية في كل الاتجاهات، وتحويل الانقسامات إلى مساحة تفاهم بدل أن تكون منصة صدام. كما تتطلب استخدام التحالفات الإقليمية والدولية لتعزيز الردع السياسي والعسكري والاقتصادي بما يخدم السيادة ولا ينتقص منها.
القوة الحقيقية للبنان تكمن في قدرته على التحرك الموحد، ووضع استراتيجيات مرنة وواضحة تضمن مواجهة أي تصعيد خارجي، مع الحفاظ على التوازن الداخلي وتحصين المجتمع. لبنان الموحد والقادر، بجيشه ومؤسساته وشعبه، يستطيع منع تفكيكه وتحويله إلى ساحة صراع مفتوحة. المعركة اليوم ليست فقط على الحدود، بل على استقلالية القرار الوطني وعلى هوية الدولة نفسها.
لبنان يحتاج إلى قيادة صلبة، وإلى وعي جماعي يرفض الاستنزاف والتشتت، وإلى إرادة وطنية تضع حماية الوطن فوق كل الاعتبارات. من دون ذلك، ستبقى الاعتداءات الإسرائيلية، وقصف البقاع والضاحية واغتيال القادة المقاومين، وتهجير الأهالي، والحصار الاقتصادي، حلقات متراكمة في مسلسل ينهك الدولة والمجتمع معاً. والمسؤولية هنا ليست شعاراً، بل التزاماً مصيرياً لا يجوز التفريط به.
Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  تسع ملاحظات على وقف الحرب بين لبنان وإسرائيل
هشام الأعور

أكاديمي وكاتب سياسي لبناني

Download WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  عندما تدفع سوريا ثمن تقاطعات روسيا مع تركيا وإيران!