الجيل الجديد.. والهويّات المتحرّكة

يتقدّم الجيل الجديد وسط فيض من الرموز التي تتحرك خارج ثبات التعريفات القديمة. العلاقة مع الدولة لا تتخذ شكل يقين، بل تتبدّل كجملة تتراجع علاماتُها نحو الهامش وتبحث عن معنى إضافي في كل سطر جديد. الهوية لا تتجمد، بل تتموّج مثل كتابة تُعاد كل مرة عبر إضافة حرف صغير يفتح باباً لمعنى آخر. هنا، تصبح الدولة نصاً جانبيّاً لا يملك امتياز التفسير النهائي، بل يشارك في حوار تتوزّع ملامحه على أماكن عدة، وتعيد الذاتُ ترتيبَه عبر طبقات متراكبة من التجربة والذاكرة والخيال الرقمي.

الانتماء لدى هذا الجيل الجديد لا ينتظم في دائرة مغلقة، بل ينفتح على عالم واسع يلوّح له من خلف الشاشة. في الوقت نفسه، يتحرك نحو وحدات اجتماعية صغيرة تحمل دفئاً خاصاً، برغم أنّ هذا الدفء لا يكتسب صلابة كاملة. الإحساس بـ«المواطنة العالمية» ينساب مثل ظل طويل، يمر فوق المدن بلا حدود، فيما المكان المحلي يبقى نقطة ارتكاز خفيفة، تقدّم مذاقاً أولياً للهوية، دون أن تكون مركزها الوحيد. هكذا تتوزع الذات بين مساحتين: عالم واسع يشبه كتاباً لا ينتهي، وحيّ صغير يحمل حكاياته الأولى.

اليوم يولد جيل يعيش لحظة إعادة تشكّل حقيقية. الدولة تظهر كإطار واحد ضمن أطر واسعة، والهوية تتحرك بين المحلي والرقمي والعالمي مثل مقطع موسيقي يعيد تركيب نفسه مع كل استماع. وفي هذا التكوين تنفتح السياسة على سؤال جديد: كيف يبني العصر دولة تتناغم مع ذات تنتج معناها باستمرار، وتحتاج إلى انتماءٍ يضيء رحلتها، ويتيح للهوية أن تتنفس داخل فضاء لا يخنقها، بل يمنحها مقاماً آخر في نص العالم؟

تتشكل لدى الجيل الجديد علاقة مختلفة مع فكرة الدولة. الدولة لا تتقدم باعتبارها «الأصل»، بل كعلامة في هوامش النص. تتحول إلى جزء من اقتصاد رمزي مفتوح، يتدفق عبره المال والمعلومة والمعنى. هذه العناصر لا تخضع لبنية مركزية، بل تعمل داخل شبكة تتجاوز حدود المؤسسات التقليدية، وتعيد ترتيب قيم الانتماء. فالعقل الشاب يتحرّك مع سرعات جديدة، سرعات لا تسمح للدولة بالبقاء كمصدر وحيد للشرعية. تتحول المعلومات إلى نبضٍ يومي، وتغدو الهوية سلسلة تجارب تُعاد صياغتها عبر كل تفاعل.

في هذا السياق، يفهم الجيل الجديد الدولة كتجربة تُختبر، لا كقدر يُحمل. يتعامل معها كخيار من بين خيارات أخرى: مكان يُزار، مساحة تُستعمل، علاقة تُبنى عبر لحظات من الاستفادة والتباعد. الانتماء يصبح حركة، مساراً يُصاغ عبر التجربة، لا عبر القوالب الموروثة. لا يظهر الانتماء هنا كإعلانٍ نهائي، بل كاقتراح جديد، كعلامة تتأرجح فوق المعاني وتدعونا لقراءتها مجدداً.

من زاوية فلسفية أعمق، يمكن فهم هذا التحوّل عبر ما يقترب من منطق التفكيك: الدولة تفقد مركزيتها كـ«دال متعالٍ» وتدخل في حوار مع شبكة من الدوال المتناثرة. الحركة بين الواقعي والرقمي تمنح الجيل الجديد قدرة على إعادة كتابة العلاقة، فلا تهيمن الدولة على ذات الفرد، بل تتجاور معه داخل نص واسع. هذا الجيل يختبر الدولة كما يختبر فكرة لامعة ظهرت في كتاب، أو صوتاً غامضاً خرج من سماعة الهاتف، أو مساحة عمل مؤقتة في مدينة بعيدة. ويعيد كل مرة تقييم موقعها في حياته عبر قراءة جديدة، قراءة تزيح الترسبات القديمة وتفتح مساراً إضافياً للهوية.

يصبح السؤال الفلسفي هنا: كيف يمكن للدولة أن تتحول من مركزٍ يُثقل الوعي إلى منصة تحتضن تجربة الانتماء؟ كيف تُصبح مساحة تُصغي وتستقبل بدلاً من أن تُغلق وتفرض؟ الجيل الجديد يتقدم بروح تبحث عن علاقة مرنة، علاقة تسمح للهوية أن تتمدد مثل نص متعدد الطبقات، يحمل أكثر من قراءة وأكثر من احتمال.

اليوم يولد جيل يعيش لحظة إعادة تشكّل حقيقية. الدولة تظهر كإطار واحد ضمن أطر واسعة، والهوية تتحرك بين المحلي والرقمي والعالمي مثل مقطع موسيقي يعيد تركيب نفسه مع كل استماع. وفي هذا التكوين تنفتح السياسة على سؤال جديد: كيف يبني العصر دولة تتناغم مع ذات تنتج معناها باستمرار، وتحتاج إلى انتماءٍ يضيء رحلتها، ويتيح للهوية أن تتنفس داخل فضاء لا يخنقها، بل يمنحها مقاماً آخر في نص العالم؟

Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  مسرحيتنا العربية الدامية.. خلاعة ثقافية
عبد الحليم حمود

رئيس تحرير مجلة "بوليتيكا"؛ روائي وفنان تشكيلي لبناني

Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  محمد شياع السوداني وسط ألغام.. ووحوش العراق