ذات تشرين.. وما أدراك ما زيتون “راميه”! 

ذات تشرين، في مستشفى الرسول الأعظم ببيروت، وضعت زوجتي مولودها الأول. قرّرت الطبيبة تقديم موعد ولادتها، فركبتُ طيّارة وراء طيارة لأصل إليها لحظة الولادة تماماً. في رواق ذلك البهو، وجدتُ أمّها في حالة من البهجة لا يُشوّشها ترقبٌ ولا انتظار.

بالنسبة لي كانت لحظة غرائبية. ولادة أخرى بعد 16 عاماً. في بلد بعيد وبين أناس غرباء. كانت نقطة انقلاب كاملة سيطرت على عقلي وقلبي معاً.

لكن حماتي الحاجة الدكتورة (هكذا كنت سأناديها)، انصرف بالها عن الحدث تماماً ما أن خرجنا من المستشفى. كان عقلها مشغولاً وبعيداً. وبطبعها لم تكن تخفي الاضطراب والحيرة. لقد كانت تنتظر ولادة أخرى في بلدتها “راميه” أو “راميا” أو “راميي”، كما ينطقها الجنوبيون اللبنانيون.

نحن في تشرين، وقد حان موسم قطف الزيتون، أو “الحواش”! ماذا ستفعل الآن يا ترى؟ مع هذه البنت التي بالكاد تعرف كيف تغيّر لرضيعها؟ كيف تتركها وزوجها الغريب في بيروت؟ ولكن، هل تنتظر حتى يفسد الزيتون؟

تبرّمت زوجتي: “هل هذا وقته الآن”؟

الزيتون لا يعرف وقتاً سوى منتصف الخريف. لمَ لم يختر ابنك سوى خريف الزيتون ليرى النور؟

ربّما لأنّ نوره جاء من نور الزيتون! كما أن نور الله يشبه نور المصباح الموقد بزيت من زيتونة مباركة (يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار.. نور على نور).

***

ينبت شجر الزيتون في بلاد الأنبياء. فوطنه الأم هو فلسطين والشام ولبنان. اعتبر القرآن هذه الأرض كلّها مباركة (طور سيناء)، وأقسم بها (والتين والزيتون).

زيته هو زيت الأسرار المقدسة؛ التعميد والمسحة الأخيرة. وبحسب العهد القديم كان الملوك من بني إسرائيل ينصّبون بطقس “المسح”، أي مسح اليدين والصدر والرأس بزيت الزيتون. من هنا جاءت لفظة “المسيح” المخلّص.

لكن هذا المسح كان أيضا من التقاليد الكنعانية القديمة! كما كان الكنعانيون يضعون أغصان الزيتون على القبور كرمز للسلام الأبدي!

***

استقر الرأي على أن ننزل جميعاً إلى الجنوب. سيتحمّل الرضيع شيئاً من البرد، وسيتنفّس هواء الضيعة في شهره الأوّل. اقتنعت زوجتي أو ربما “خضعت” للتوافق الغريب بيني وبين أمّها. هل يمكن لعاقل أن يُضيّع على نفسه هذه الفرصة في وقت من “الرواق”؟ يدلف فيه بحياة الريف “الأورجانيك”؟

كنت قد تعرّفت إلى راميه من قبل، إنّها “ضيعة” بكل معاني الجنوب! هي قطعة من الجنّة تُركت عذراء طاهرة على حدود فلسطين المحتلّة!

في اليوم المتّفق عليه، مرضت الحاجة لطفية، جدة زوجتي. كانت هي “أم الزيتون”. الراعية والمالكة، الآمرة الناهية فيه، برغم كبر سنّها. لقد سمعت الكثير عن قصصها مع الزيتون خلال الاحتلال الإسرائيلي (1978-2000). ولم أمل من سماعها تُكرّر قصّة الهروب الكبير من فلسطين.

كان عمر لطفية 8 سنوات، حين وصلت عصابات “الهاغاناه” الصهيونية إلى بلدتهم “صلحه”، إحدى القرى السبع التي تنازلت عنها فرنسا إلى بريطانيا لتضمها إلى فلسطين الانتدابية (1919). جمع الصهاينة شباب البلدة في صف عند المسجد، و”قوّصوا” عليهم واحداً وراء الآخر، بعد أن سلّموا أسلحتهم. أمروا البقية بالفرار. “فرّينا.. أعطي كل واحد من العائلة شيئاً يحمله.. فحملت أنا أخي الرضيع مشياً على الأقدام حتى يارون (حدود لبنان)”.

في جنوب لبنان، كان النازحون يراقبون ما يفعله الصهاينة ببيوتهم ومزارعهم بحسرة. اعتقدوا أنهم سيرجعون يوماً ما، فبقيوا هناك في قرى الحافة الحدودية. في أحد الأيام، تروي الحاجة لطفية، قرّر الأهل أن يبعثوا بصغارهم صوب بيوتهم القريبة جداً ليتفقّدوا الأمر وربّما يقطفوا شيئاً من “التين”، ظنّاً منهم بأن الإسرائيليين لن يتسببوا بأذيتهم. قتل الإسرائيلون صبيّاً، واختطفوا صبيّة، قيل لاحقاً إنّها تزوّجت درزياً!

نجت الحاجة لطفية من كل صروف الدهر، وحروب إسرائيل. بقيت مثل شجرة زيتون تربط بجذورها جبل عامل وبحر بيروت وقمم الشوف بالأراضي المقدّسة. من عادات موسم الزيتون، أن تأتي الحاجة لطفية بنفسها إلى راميه، سيّدة مقدّمة في قومها، لتبارك القطاف، بخبز شيء من مناقيش الصاج للشغّيلة والشغّيلات. لكن، كان من سوء حظّي، أنّها لن تأتي هذه المرّة!

***

حمّلنا الكثير من الأغراض، وقدت السيارة كل الطريق كالعادة، ولكن هذه المرّة ليلاً! لم أكن أعلم ماذا ينتظرني في الصباح!

في السادسة صباحاً استيقظنا. كانت كل المعدّات جاهزة. قالت حماتي هيّا قبل أن تمطر! أخذنا دلّة الشاي، وشيئاً من الخبز والجبن، وذهبنا. أنا لا أستطيع أن أبدأ يومي من دون الإفطار. ولأنّني شغّيل الآن، فقد أفطر مرّتين.

أعطتني الحاجة الدكتورة “المشط”، وفرشت قطعاً عريضة من “الخيش/ الشوال” على محيط شجرة، وأعطتني الدرس الأوّل في قطف الزيتون، وهي منشرحة الأسارير. ربّما لم تصدّق أنني سأستمتع بكل لحظة معها، وسأؤجل الإحساس بالتعب إلى حين العودة إلى البلاد.

توقّفت لحظات لتلتقط لي أول الصور ومقاطع الفيديو. لا أزال أتذكّر صوت حبّات الزيتون وهي تتساقط على الأرض. إنّه صوت فريد لا يشبهه حتى صوت حبّات “الكنار” أو “النبق” في الخليج. كان الجو بارداً في الصباح، دافئاً عند الظهر. بعد ساعات خلعت سترتي، واستلقيت على أرض الزيتون، فاتحاً ذراعيّ للشمس.

في كل فترات الراحة القصيرة، كنت أتطلّع حولي في جنبات هذه الضيعة، والتلال التي تحيط بها. تمنّيتُ أكثر وأكثر أن يكون لي موطئ قدم هنا ذات يوم، ربّما لأن الحياة هناك عذرية مثل هذا الزيتون تماماً.

***

قمت أتفقّد زوجتي ورضيعنا. في طريق العودة إلى الأرض وجدت إمرأة تصنع مناقيش الصاج على الطريق، وكان هذا فطوري الثاني كل يوم. قيّمت الدكتورة كعادتها هذا الصاج، وربّما وجّهت له نقداً أو اثنين.

أنا في الطريق من البيت إلى الأرض، على يميني مخفر الدرك ثم مسجد الإمام الحسين، ثم لافتة “راميا ترحب بكم”. الطريق في حد ذاتها مثل نزهة في الجنة. على طول جانبيه تمتد أشجار البرتقال والعنب والتين والتوت وهو بلا مبالغة شارع “أخضر بلا حدود”. يستطيل الخط العام في جل الدرب (أسفل تلة راميه)، ليمر بالمرج حيث حقول التبغ، وينتهي من حيث الرؤية عند جبل بلاط الذي يطل على كل شيء. هناك في الأفق يرتفع برج مراقبة من موقع عسكري إسرائيلي (ربّما في زرعيت).

إقرأ على موقع 180  عائلة البغدادي في ضيافة إردوغان!

لا بد أن جندياً إسرائيلياً كان يشاهدني كل يوم مستغرباً وأنا في الطريق من البيت إلى الأرض، وكذلك في طريق العودة، من برج المراقبة الآخر في موقع راميه، أو ظهر الجمل. تراقب إسرائيل راميه وجاراتها كل لحظة.

كلما تدلّت أمام عيني أوراق الزيتون، أو حرّكها الهواء فكشفت عن منظر مرتفعات راميه ومرجها، تزداد قناعتي بأن الإسرائيليين أرادوا هذا المكان لروعته وجماله. هو يتمّم ما خلف هذا السفح، وقد كان يوماً ما جزءاً من “الجليل”. كان مذهلاً أن الجنود قالوا ذلك فعلاً في لقاءات مصوّرة معهم خلال اجتياح 1982: هذا البلد جميل جداً.. وهو يشبه الشمال.. يشبه الجليل.

مساحة أرض “خلّة حسين” 700 متر مربع. تبدو المساحات هناك كبيرة جداً في عيني، لكن هذه الأرض كانت صغيرة نسبة إلى الأراضي المتوزّعة على هذه التلال، وبعضها يزيد عن 10 دونمات. في لبنان هناك 620 ألف دونم من الأراضي يغطيها الزيتون.

وأنا متعلق بشجرة الزيتون، قلت للحاجة “لقد وعدت أعز أصدقائي الدكتور علي الديري أن أجيء به إلى هنا”. ردّت الحاجة “من لم يكن لديه راميه.. يجيب راميه” فقلت لها “راميه تتسع للجميع”.

في هذه الأثناء، تمر على الطريق دوريات وآليات لقوات “اليونيفيل” (القبعات الزرق). لا عمل لقوّات الطوارئ الدولية هنا، سوى أن تقول إنها موجودة!

***

في اليوم التالي، قالت لي الحاجّة يجب أن تلبس ثياباً غير هذه، لأنّها ستتلف. ذهبت إلى خزانة وأخرجت لي بيجامة رياضية قديمة “هذه ملابس والدي الحاج علي يوسف”! لقد بات لي كل هذا المكان في قلبها. كانت الحاجة تفرح جداً حين يرانا الناس في أرضها “ما هذا الصهر الذي لديك.. هنيئاً لك على هكذا صهر”.

تبدو بعض حبات الزيتون كبيرة. تُشجّعني الحاجة: “لقد كبروا حينما رأوك أتيت”. ثم تعلّق وهي تصوّرني: “لا توجد زيتونة تعصى على هذا الرجل، وكأنّه يحوّش من 100 سنة”. كانت سعيدة جداً. الرزقة كتيرة هذا العام.

نُغادر مبكّرا أحياناً إذا اشتد المطر. نطوي “شوالات” الزيتون، ونحملها إلى البيت. هناك قد تعود الحاجة فتطبخ غداء، أو قد نذهب إلى عيتا الشعب، فنشتري فروجاً. وأينما ذهبنا نسمع ذات السؤال اللطيف “جئتم لقطاف الزيتون”؟

تنظر إلي الحاجة وأنا أعمل المشط بجد في أغصان الزيتون “السعادة التي يعيشها هذا الرجل لا توصف.. مناخ رائع.. أوكسيجين.. رياضة.. ورائحة الزيتون”. أضفت عليها “زائدا العمل والإنجاز”. كان ينقصني فقط أن أتلحّف الهواء. أحسستُ بأن شكل وجهي تغيّر هناك، صار صافياً ونقياً مثل زيت الزيتون.

رافقتنا في الرحلة عاملة المنزل الإثيوبية. لم تخف “آموش” سعادتها برغم كل التعب. كان كل منا يستمتع على طريقته بهذا الحلم الطبيعي الجميل.

***

بقينا على هذا الحال، نراقب الغيوم وتحديثات الطقس، و”نفيق” من قبل طلوع الشمس، ستة أيام متتالية. ومع وصول عديلي، انتهينا أخيراً من قطاف كل الزيتون، أي حوالي 20 شجرة. كان ختام الرحلة قطف زيتون الشجرتين الأخيرتين في أرض الدوّارة، وتناول الترويقة هناك.

بدأت بعدها طقوس “تنقية” وتنظيف حبات الزيتون. فرشنا الزيتون على كامل الشرفة (الفرنده)، واشتغلنا جميعاً. نصفُ حبات الزيتون كانت سوداء (ناضجة) والباقي أخضر. كانت الحاجه تنتظرنا على وجل لكي ندرك المعصرة في عيتا الشعب. إنّها تريد الانتهاء من كل هذا اليوم. حان وقت الختام.

أخذنا الشوالات وذهبنا إلى المعصرة منتشين. لا يعرف أرض المشرق من لم يشهد في حياته عصر الزيتون. هنا فهمت الفرق بين العصر على البارد والحار، والعصرة البكر والمكررة. أخذ العمّال الشوالات، وكبوها في بداية خط الإنتاج داخل هذه المعصرة التي ترج ماكيناتها رجاً طوال الوقت. تنظّف ماكينة حبات الزيتون، وتجهّزها للمرحلة الثانية وهي حسبما أظن نزع النواة، ثم تغسل، ثم تطحن، ثم تعجن، وهكذا تسير في الخط حتى تصل إلى المعصرة، وخلال دقائق سيمكنك أن ترى ذلك السائل الأخضر يتدفّق دون أن يشبهه شيء!

امتلأت 4 براميل بلاستيكية بالزيت، وأخذناها فرحين مزهوين بهذا الحصاد الكبير. أغلب الزيتون هنا هو للعصر لا للأكل. ستجرّب الحاجّة وأهلها الزيت وسيفحصونه، بطريقة لا نفهمها نحن: سيغمسون لقمة من الخبز فيه ويتذوقونه، أو ربّما يضعونه في كوب شاي صغيرة (استكانة) ويرتشفونه ارتشافاً. أنا لا أعلم ماذا يتذوقون، لكن ما أعرفه بأن السلطة والبيض والهريس والمناقيش كلها بلا طعم دون هذا الزيت!

***

في آخر ليلة، سهرنا في بيت أحد الشباب في راميه. على نفس النرجيلة والقصص التي لا تنتهي، تكلّم عديلي عن معاناة “الأرض” في لبنان. كيف تُعدم أطنان الخضراوات والفواكه مثل التفّاح، لصعوبة تخزينها وتصديرها (بسبب إمكانات التبريد والنقل والسيولة). قارن هذا الوضع متأسّفاً بمزارع التفاح في فلسطين المحتلة والجولان السوري المحتل.

هذه الأرض المباركة، إما محتلّة، أو محاصرة!

حين نصل إلى بيروت، ستُسلّم الحاجّة الدكتورة تنكات الزيت لأمّها وتضعها في تصرّفها، لكنها ستدخل عليها منتصرة، رافعة رأسها. لقد حافظت على تراث عمره ستة آلاف عام. قُسّمت التركة، وكان من نصيبي تنكة زيت كاملة، وزّعته مزهواً وكأنّه من زيتون أرضنا!

فيّ زيتون راميه، الذي كنت أراه للمرة الأولى والأخيرة، احتفظت بذكريات مربكة. ذهبت ذات يوم إلى دكّان علي عبدالله، الدكان الوحيد في الضيعة. طلبت منه عصا، لكي نُركّب عليها “المشط” فنصل إلى أعالي تلك الشجرات دون الحاجة إلى ركوب السلّم. كانت فكرة عملية أعجبت الحاجّة.

أخذتني الحماسة فصرت أشرّح أغصان الزيتون بقوّة. أوقفتني الحاجه بلطف: لا يا رجل، هكذا ستكسر الأغصان!

ولكن.. أليست أغصان شجرة الزيتون تنبت من جديد حتى لو قُطعت؟

أليست رمزاً للقيامة والخلود والتجدد؟

ألهذا، ما كان من إسرائيل إلا أن تحرقها!

Print Friendly, PDF & Email
Avatar

كاتب عربي

Download Best WordPress Themes Free Download
Premium WordPress Themes Download
Download Nulled WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  غيلان الصفدي.. التجريبي المُطرّز بألوان ووجوه وأقنعة كثيرة