عامٌ على عدم وقف النار… هل تتجدد الحرب على لبنان؟

قارب اتفاق وقف الأعمال العدائية بين "إسرائيل" ولبنان إنهاء عامه الأول، وللمناسبة توجّهت المنسّقة الخاصة للأمم المتحدة إلى لبنان جينين هينيس بلاسخارت إلى نيويورك وقدّمت إلى مجلس الأمن الدولي إحاطتها حول تنفيذ الرقم 1701 مدى العام المنصرم. وكان لافتاً للانتباه في تقرير بلاسخارت إشادتها بالتقدم الذي أحرزته القوات المسلحة اللبنانية في معالجة مسألة السلاح خارج سلطة الدولة، "ولا سيما في منطقة جنوب نهر الليطاني" وإشارتها "إلى أن وجود الجيش الإسرائيلي شمال الخط الأزرق والنشاط العسكري الإسرائيلي المتكرّر في جميع أنحاء البلاد "يُشكّل انتهاكًا لسيادة لبنان وسلامة أراضيه".

في قراءة بسيطة للتطورات الميدانية والسياسية على مسافة سنة من توقيع اتفاق وقف العدائية بين لبنالن و”إسرائيل”، يبدو واضحًا أن تنفيذ الاتفاق تم فقط من الجانب اللبناني، أمّا من الجانب “الإسرائيلي” وبدعم أميركي فاضح فإنه لم يُنفّذ، وإن كانت الحرب الميدانية قد توقفت فإن كل ما تبقى من الحرب تواصل بشراسة، وبالتوازي مع ضغط أميركي على السلطة اللبنانية وعلى بيئة المقاومة اقتصاديًا وماليًا وسياسيًا وإعلاميًا، ومؤخرًا عسكريًا أيضًا، ما يطرح السؤال: إلى أين تجري الأمور وهل هناك تصعيد “إسرائيلي” يتمدد إلى الميدان؟

قبل الإجابة لا بد من الإشارة إلى أن قوات الطوارئ الدولية المؤقتة في لبنان (اليونيفيل) أصدرت خلال الأسبوع الماضي بيانًا قالت فيه إن عدد الخروقات “الإسرائيلية” للاتفاق على كامل الأراضي والأجواء اللبنانية من أقصى الشمال الشرقي إلى الجنوب مرورًا بالعاصمة بيروت قد بلغ 7500 خرق جوي و2500 خرق بري، وبذلك تكون الخروقات الإسرائيلية بمعدل 28 خرقًا يوميًا، فيما أعلنت وزارة الصحة اللبنانية أن عدد الشهداء اللبنانيين جرّاء هذه الخروقات قد بلغ 337، وبلغ عدد الجرحى قرابة 642 من ضمن هؤلاء جنود في الجيش اللبناني. علماً أن قوات “اليونيفيل” لن تسلم من الاعتداءات “الإسرائيلية” التي طالت قواتها وقواعدها أكثر من مرة خلال العام المنصرم.

حرب إسرائيل لم تتوقف

في المقابل، فإن الجانب اللبناني لم يقم بأي خرق للاتفاق، وتقول “اليونيفيل” إنها عثرت على 360 مخبأ أسلحة مهجور تمّت إحالتها إلى الجيش اللبناني، وتضيف أن انسحاب المقاومة من منطقة جنوب نهر الليطاني وتسليم سلاحها للجيش اللبناني قد تم بسلاسة ومن دون أية عوائق، وتجاوزت خطة انتشار الجيش اللبناني في هذه المنطقة الـ 80 في المئة، وأن العائق الوحيد أمام هذه الخطة هو مواصلة الجيش “الإسرائيلي” احتلاله لمناطق داخل الأراضي اللبنانية وتحريك الجدار الفاصل الذي بناه إلى شمال “الخط الأزرق” في خرق واضح ليس فقط للاتفاق المذكور بل أيضًا لقرار مجلس الأمن الدولي رقم 1701.

إن قراءة هذه الأرقام تُشير إلى أن الولايات المتحدة الأميركية، ومن خلال موقعها على رأس لجنة مراقبة تنفيذ الاتفاق أو ما اصطلح على تسميتها لجنة “الميكانيزم”، مارست خلال العام المنصرم سياسة غضّ الطرف عن كل العدوانية “الإسرائيلية” مشفوعة بحملة ضغط كبيرة على الدولة اللبنانية بكل مؤسساتها لدفعها إلى فرض عملية نزع سلاح المقاومة شمال نهر الليطاني بالقوة ومن دون انسحاب الجيش “الإسرائيلي” من الأراضي اللبنانية، أي أنها وضعت الدولة اللبنانية بين فكي كماشة: عدوان “إسرائيلي” متواصل جوًا وبرًا من جهة، وضغط سياسي ودبلوماسي ومالي واقتصادي أميركي من جهة أخرى. وتفسير ذلك أن المطلوب أميركيًا من الدولة اللبنانية هو الخضوع والاستسلام لمنطق القوة الذي تنتهجه “إسرائيل” في خرق واضح لقرارات مجلس الأمن الدولي ولاتفاق وقف الأعمال العدائية.

لماذا الضغط على عون وهيكل؟

في ظل هذه الأجواء، جاءت واقعة تأجيل زيارة قائد الجيش العماد رودولف هيكل إلى واشنطن بقرار منه رداً على أساليب الضغط التي تمارسها الإدارة الأميركية على الجيش والدولة اللبنانية، ومن التبسيط القول إن الأمر يرتبط بعبارة استخدمها قائد الجيش، لكن الأكيد أن واشنطن غير راضية على بيان للجيش اللبناني وصف فيه “إسرائيل” بالعدو، علماً أن الولايات المتحدة تعرف جيدًا أن عقيدة الجيش اللبناني تعتبر “إسرائيل” دولة عدوة وكذلك القانون اللبناني، إذًا ليس في بيان الجيش من جديد، أما الجديد في الأمر فهو أن الإدارة الأميركية صعّدت مؤخرًا من ضغطها الاقتصادي والإعلامي والسياسي على لبنان تنفيذًا لخطتها التي ترى فيها توفير الأمن لـ”إسرائيل”، وقد سبقت هذه الخطوة بأن لوّحت بفرض عقوبات مالية على بعض المسؤولين اللبنانيين وطالبت الدولة اللبنانية بإيقاف ترخيص “مؤسسة القرض الحسن” التي تعتبرها البنك المركزي لحزب الله، بالإضافة إلى تلويحها بإيقاف مساعداتها للجيش اللبناني، إلى جانب ذلك تولّت أحزاب وشخصيات سياسية ووسائل إعلام موالية لواشنطن في لبنان والمنطقة العربية تسويق التهديد “الإسرائيلي” بحملة عسكرية واسعة على لبنان مع نهاية العام الجاري بهدف نزع سلاح المقاومة. هذا كله يضاف إلى ممارسة واشنطن “الفيتو” على إطلاق عملية إعادة البناء لما دمّرته الحرب في مناطق البيئة الحاضنة للمقاومة، إن كان في الجنوب أو البقاع أو الضاحية الجنوبية لبيروت.

محاصرة واشنطن للسلطة اللبنانية بكل هذه الأمور، معطوفة على غارات جوية “إسرائيلية” يومية على أهداف مدنية وعمليات اغتيال من الجو تمارسها المسيّرات “الإسرائيلية” وتطال نيرانها مواطنين مدنيين، وبينهم موظفون رسميون وجنود في الجيش اللبناني، تكاد توحي وكأن السلطة في لبنان هي بيد حزب الله وليس سلطة أنجبتها الإدارة الأميركية. وهنا لا بد من التذكير أن إعادة تركيب السلطة التنفيذية في لبنان تمت بقرار وضغطٍ أميركيين، فانتخاب العماد جوزاف عون رئيسًا للبنان وتكليف القاضي نواف سلام بتشكيل الحكومة وتنفيذه ذلك، كلها أمور انطلقت بضوء أخضر أميركي، وحتى تعيين العماد رودولف هيكل إلى جانب قادة الأجهزة الأمنية والاستخبارية وتعيين كريم سعيد حاكمًا لمصرف لبنان، كلها أيضًا تمت بموافقة الأميركيين.

إقرأ على موقع 180  العراقيون والأصول الهندية.. السياسة أولاً!

وفوق كل هذا، فإن الجيش اللبناني الذي تعتبر واشنطن أنها استثمرت فيه الكثير من الأموال والدعم اللوجستي على مدى العقدين الماضيين كان ينبغي أن يكون أكثر مطواعية لإملاءاتها، وأن ينفذ هذه الإملاءات دون أية حسابات وتقديرات للمصلحة الوطنية اللبنانية. لذلك فإن الغاء مواعيد لقائد الجيش العماد هيكل في واشنطن هو نوع العقاب للمؤسسة العسكرية ومن خلفها للرئيس جوزاف عون شخصيًا، فعندما انتقد عون بعض الشخصيات والجهات اللبنانية التي “تبث سمومها” ضده في واشنطن، فهو إنما وجه نيرانه ليس فقط لهذه الشخصيات والجهات بل أيضًا إلى الإدارة الأميركية برمتها، إذ إن إعطاء المسؤولين الأميركيين لهؤلاء الفرصة للكلام ضده ورسم سياستهم وفقًا لهذه “السموم” يظهرهم سذّجًا إن لم نقل أغبياء في التعامل مع الوضع اللبناني المعقد جدًا. فهل من شك بأن الرئيس عون يريد أن تكون الدولة بإدارته قوية وفاعلة؟ وهل من شك بأن الرئيس عون يريد حصرية السلاح بيد الدولة وهو على رأسها؟ لكن الدولة القوية والفاعلة تتطلب أن تكون أرضها محررة من أي احتلال، وأن تكون عادلة في التعامل مع مواطنيها، وأن تبادر إلى احتضان البيئة التي تعرض أولادها للقتل، والبعض منهم للأسر بعد وقف إطلاق النار، وتعرضت ممتلكاتها للدمار والحرق، وأن تقوم بذلك عبر إطلاق عملية إعادة البناء حتى وإن كان باللحم الحي وبوقف الحصار المالي الذي يمنع عنها وصول أموال مغتربيها إلى أهلهم والتي تُقدّر بنحو ثمانية مليارات دولار سنويًا، وهي أكثر من كافية لتنفيذ عملية إعادة الإعمار من دون مساعدات خارجية.

خيار شمشوم!

إن إصرار الإدارة الأميركية على تأمين ما تقول إنه أمن “إسرائيل” دون الأخذ بالاعتبار حاجة الدولة اللبنانية إلى تأمين سيادتها على كامل أراضيها وإطلاق سراح أسراها وإعادة إعمار ما خلّفته الحرب من دمار، إن إصرار واشنطن على ذلك هو مجرد مراوحة لن تجدي، وكل التهديدات “الإسرائيلية” بشن حملة عسكرية كبيرة ضد لبنان ما هي إلا للتهويل، لأن هناك ثلاثة أمور أساسية تحول دونها:

الأمر الأول، هو قوة المقاومة في لبنان، فلو كانت التقديرات العسكرية “الإسرائيلية” تشير إلى أن الحملة ستكون سهلة ومتاحة لما أوقفت أساسًا حربها الميدانية وفق اتفاق وقف إطلاق النار في العام الماضي بعد 66 يومًا من مواجهات برية ميدانية أسطورية لم يستطع خلالها الجيش “الإسرائيلي” التقدم أكثر من ثلاثة كيلومترات في الأراضي اللبنانية. وبحسب تصريحات قادة “إسرائيليين” وتحليلات صحافية “إسرائيلية”، فإن المقاومة اللبنانية قد تمكنت من ترميم الكثير من قدراتها خلال العام المنصرم، إن كان على المستوى اللوجستي والتسلّحي، أو على المستوى التنظيمي. وزد على ذلك، فإن حملة الاغتيالات التي سبقت ورافقت العدوان البري في العام الماضي قد تمكنت من تصفية معظم القيادة العسكرية للمقاومة، وبالتالي فإن من يتولى القيادة حاليًا هم أشخاص مجهولون لدى الأجهزة الأمنية والاستخبارية “الإسرائيلية”، وهذا ما يصعّب الخيار الميداني.

الأمر الثاني، هو أن “إسرائيل” تنفذ ما تشاء من عمليات تدمير واغتيال فوق الأراضي اللبنانية من دون أية خسائر من جانبها، لا ميدانيًا ولا دبلوماسيًا، وهي باتت تعير الأمر الأخير اهتمامًا بالغًا بعد ما لمسته من تضرر صورتها أمام شعوب العالم جراء حربها على قطاع غزة خلال العامين المنصرمين.

أما الأمر الثالث، فهو أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب حريص على تظهير صورته كصانع سلام، وقد عمل جاهدًا لوقف الحرب في غزة، وإن كان على طريقة وقفها في لبنان، أي فقط من الجانب الفلسطيني كما فقط من الجانب اللبناني، لذلك فإنه لن يعطي ضوءًا أخضر لعمل بري غير محسوبة نتائجه بصورة واضحة ولا أحد يعرف مدى استمراره، لا سيما مع سياسة الغموض التي باتت تعتمدها المقاومة في لبنان حيال كل خططها.

وعلى الرغم من استبعاد فكرة الحملة العسكرية الميدانية على لبنان للأسباب المذكورة أعلاه، فإن الحكومة “الإسرائيلية” الفاشية والأكثر يمينية في تاريخ الدولة العبرية تبقي مجال الشك قائماً وإن بشكل ضعيف. فحسابات هذه الحكومة ليست فقط عسكرية بل يدخل فيها العامل الشخصي لرئيسها بنيامين نتنياهو الذي يحاول حتى الآن ابعاد كأس المحاكمة عنه بتهم الفساد، كما أن محاولة ترامب التوسط لوقف محاكمته لم تجد آذاناً صاغيةً حتى الآن في القضاء “الإسرائيلي”. لذلك فإن نتنياهو قد يعمد الى “خيار شمشوم” (عليَّ وعلى أعدائي) ويُطلق حملته لتفادي سقوطه السياسي المدوي.

Print Friendly, PDF & Email
سلطان سليمان

صحافي لبناني؛ كان يُوقّع مقالاته باسم "ماهر أبي نادر" لضرورات عمله

Free Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Download Premium WordPress Themes Free
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  "الإنخراط الوطني" في التدمير الممنهج.. ووهم إنتظار بايدن!