تدور أحداث هذا الفيلم في أميركا قبل الحرب الأهلية، حيث تمّ تحرير أحد المستعبدين ويدعى “جانغو” من قبل صائد جوائز ألماني، وأصبحا شريكين. هذا الأخير يصطحب الرجل الأسود إلى بلدة صغيرة في الجنوب الأميركي، فيدخلان ممتطيين حصانين وكأنهما متساويان. وهنا يتبدى مشهدٌ مُعبّرٌ يُجسد غضب الناس وتجمهرهم لأن هذا “النيغرو”، أي الرجل الأسود يتصرف كالبيض عندما يمتطي الحصان ويدخل الحانة، ليتدخل رجال الأمن في ذلك الزمن لاعتقاله على خلفية فعله المشين هذا!
أكتفي بهذا القدر مما جاء في الفيلم للقول إن هذا المشهد العنصري الفظيع ذكّرني، من حيث لا أدري، بما يجري من عنصرية، دعوني أقول إنها فظيعة أيضاً، ضد فئة من اللبنانيين. لماذا؟ أعطيك عزيزي القارئ أمثلة:
يستشهد يومياً على يد العدو التاريخي، الوجودي، للبنان، مواطنون، شباناً وشيباً ونساء وأطفالاً. فيرد الخبر كأنهم قضوا في حادث سير. ويُكتفَى بنبأ تُعممهُ وزارة الصحة يعلن عدد الشهداء والجرحى وكأن الأمر لا يتعدى حادث مرور (مثل بيانات قوى الأمن عن حوادث السير والضحايا يومياً). لا أهمية لكون المستهدف هو رجلٌ ضريرٌ تصطحبه زوجته وهما في طريقهما إلى المستشفى أو المدرسة لملاقاة أولادهما، أو أنه مقاتلٌ سابقٌ يزور قبر والدته وبالتالي صار مدنياً يُجرّم القانون الدولي استهدافه، أو أنه مهندسٌ ذنبه الوحيد سعيه لإزالة الأنقاض وإعادة الإعمار. لا أهمية إن استُهدِف مع أطفاله وجيرانه، أو حتى مع مارّين لا ناقة لهم ولا جمل كما حصل في بنت جبيل وعشرات القرى الجنوبية. ويا ليت الأمر يتوقف هنا. بل إن العنصرية وصلت لدرجة الشماتة حتى بالأطفال، ووضع الأمر في خانة “العدالة الإلهية”.
أناسٌ هُدمت بيوتهم، وفقدوا أرزاقهم ومصدر عيشهم. معظمهم ليسوا منخرطين بالعمل المقاوم، لكن بات ممنوعاً علينا مساندتهم، بل المطلوب محاصرتهم مالياً ونفسياً وحياتياً. المطلوب منعهم من إزالة الركام وإعادة إعمار ممتلكاتهم. هؤلاء عليهم أن يتحملوا مسؤولية موتهم ليكفروا بالمقاومة وأهلها. ذنبهم أنهم في قرارة قلبهم آمنوا بفعل المقاومة، أو ربما انحازوا (عاطفياً) للمقاومين، لقرابة عائلية أو مناطقية أو دينية أو حتى لتقارب عقائدي، حتى لو لم يقوموا بأي عمل مادي للمساندة. هم أبناء القرى التي ظلّت مشرعة على القتل والاجتياحات طوال عقود من الزمن، وظلّ الفراغ الرسمي مقيماً هناك طويلاً إلى أن أتى من ملأ الساحة وحقّق التحرير في العام 2000.
الدم لا يتوقف، والجروح ما زالت تنزف والألم ما زال عميقاً، وبرغم ذلك لا يتردّد بعض جهابذة الصحافة والسياسة، وبدون مراعاة للأيتام والأرامل والثكالى والمهجرين الذين لم تبرد قلوبهم بعد، لا يتردّدون في طلب التطبيع مع عدو لم يضع سلاحه حتى اليوم ولم يكفّ عن إظهار حقده ووحشيته. هؤلاء الجهابذة يموتون حسداً ممن طبّع أو ينوي التطبيع، وكأن ثمن التطبيع منّ وسلوى، وأنهار من العسل واللبن، ويتناسَون أن من يطلبون التطبيع معه هو القاتل والجاني. يُبرّرون للعدو بلغة مقيتة. فكيف تريدون من والد طفل قُتِل أو والدة شاب استشهد أو من يتيم أن يغفر لكم طلبكم هذا وتبريركم ذاك؟ هؤلاء يُهدَّدون بمنع الإعمار وبالطرد من بلادهم كأنهم لاجئين. يكبتون شعور الحزن والألم والفقد فيُقابلون بالشماتة جهاراً نهاراً، وبالتشفي والتنمر والتضييق عليهم.
ما يقترفه العدو، وإن كان غير شرعي وغير مبرر، لكنه مفهوم. مفهومٌ من موقعه كعدو لنا أولاً. ولا يمكن تفسير ما يقوم به إلا في خانة قتل روح المقاومة وإرهاب من يتبنون هذه الروح وصولاً إلى تحييدهم أو قتلهم، لأنهم يشكلون خطراً أو “تهديداً” يجب القضاء عليه من منظور عدونا التاريخي. أما ما يقوم به بعض خصوم المقاومة في الداخل فبمَ يُفسّر؟
هل هكذا تُبنى الأوطان؟
لدينا تاريخ مشترك، بحلوه ومرّه، لدينا ثقافة مشتركة مهما طمستها الاعتقادات المختلفة، يبقى أن نحتفظ بإرادة العيش المشترك، لنؤسس أمة متعددة المعتقدات الدينية، لكن توحّدها عقيدة الانتماء للوطن.
ليس بالكيدية والثأر والانتقام نؤسّس لدولة قوية جامعة واحدة، بل بالتلاقي وبلسمة الجراح. ليس في فرض الشروط وباضطهاد فريق وجعلهم يحسّون أنهم “نيغرو” هذا البلد. هناك فئة كبيرة من المواطنين، نعم، هم مواطنون ولا منة لأحد في مواطنيتهم، لديها إحساس بالاضطهاد أصبح خطيراً. نعم هو خطير لأننا إذا اتفقنا على ضرورة إعادة تأسيس عقدنا الاجتماعي فيجب أن يتمّ ذلك على أسس من الفهم والتفاهم والتفهّم والتكامل والمحبة.. وما عدا ذلك يطرح أسئلة كثيرة، لعل أخطرها هو سؤال الإنفجار.. وللبحث صلة.
