من ابن عربي إلى ابن تيمية.. من يُرمّم السماء فوق دمشق؟

يشهد المشرق، اليوم، انهياراً في البنية التاريخية التي كانت تنظّم عيشه المشترك أكثر مما تنظّم عباداته. فالمشكلة لم تعد في اختلاف المذاهب بحدّ ذاته، بل في غياب «سعة التصوّر» التي شكّلت عبر القرون الإطار السياسي والفلسفي لإدارة هذا الاختلاف. ومع تراجع دمشق عن دورها كمركز لهذا الأفق الواسع، تتقدّم في المنطقة خطاباتٌ متشدّدة ومتقابلة لتجعل الدين أداة صراع على السلطة والهوية.

لكن ما يتصدّع هنا ليس عقيدةً ولا طقساً، بل نموذجٌ كامل للحكم ولتنظيم المجتمع. فدمشق كانت لقرون مختبراً سياسياً وفلسفياً يجمع الفقيه والمتصوّف، والسنّي والشيعي والدرزي، في إطار يسمح بالتمايز من دون تفكّك. هذا النموذج الذي بلوره ابن عربي في رؤيته الواسعة للوجود-وتبنّاه العثمانيون كأساس لإدارة تنوّع إمبراطوريتهم- لم يكن ترفاً روحياً، بل أداة حكم ناجحة مكّنت المشرق من استيعاب تناقضاته. وكما قال الشيخ الأكبر ابن عربي: «الأرض كلّها مسجد، ودمشق محرابه». فإذا اختلّ اتجاه هذا المحراب، اختلّت القبلة المعنوية للمنطقة بأسرها.

وتكمن خطورة اللحظة في أنّ كلّ طرف يظنّ نفسه حارساً للإسلام الحنيف. فالمؤسسة الدينية الإيرانية ترى تدخّلها حمايةً لـ« للأمة الإسلامية وخط المقاومة»، والحركات السلفية تعدّ ممارساتها «تطهيراً للعقيدة»، بينما زعم النظام البائد في دمشق الدفاع عن «التعدّد» بينما كان يُوظّف الخوف المذهبي لتثبيت سلطته. في الوقت نفسه، تقف الطائفة الدرزية اليوم عند مفترق طرقٍ حاسم بين إرث الأمير التنوخي الذي أسّس لتفاهم تاريخي مع المركز السني الرسمي، وبين تيارات انعزالية أو تحالفات تسعى إلى فكّ ارتباطها بمحيطها الاسلامي. وفي ظل هذه الفوضى السياسية والمذهبية، يغيب صوت ابن عربي – صوت الوحدة في إطار الاختلاف، ورؤية الإسلام التي تحتمل التعدّد ولا تنفيه.

من هنا، لا تدور أزمة المشرق حول خلافات دينية فقط، بل حول صراع جوهري بين رؤيتين للسياسة:
-رؤية ضيّقة تختزل المجتمع في هوية واحدة وتدفع نحو الصدام؛

-ورؤية واسعة تعتبر التعدّد أساساً للاستقرار ووحدة المجال السياسي.

ولعل السؤال الذي يواجه المنطقة اليوم- من طهران إلى بغداد ودمشق وديار بكر- هو أيّ من هاتين الرؤيتين سيصوغ مستقبل المشرق: رؤية الانغلاق أم رؤية الاتساع؟

إنّ القراءة الهادئة لمسار الإسلام الشامي- من إرث ابن عربي إلى الصراع الطائفي الحالي، ومن توازن العثمانيين إلى فوضى ما بعد الاستعمار- هو أنّ المشرق لا يعاني فقط من أزمة سياسية أو جيوسياسية فحسب، بل من أزمة فقهية–روحية تضرب جوهر تصوّر الإسلام في هذه المنطقة

ابن عربي والتصوّر الشامي العثماني للوحدة

قبل أن يرث العثمانيون دمشق ويرفعوا من شأن إرث ابن عربي داخل مؤسسات الدولة، كانت المدينة نفسها- منذ أواخر العصر المملوكي- مختبراً واسعاً للتعدّد الفقهي والروحي. ففيها تعايش فقهاء كبار مثل الإمام النووي الذي شكّل نموذجاً للورع والمدرسة الشافعية، وابن كثير وابن القيم الذين قدّموا صياغات سنّية أكثر توازناً في مواجهة صرامة ابن تيمية نفسه؛ كما برز فيها شيوخُ الصوفيّة من أمثال الشيخ الجشتي المدفون في قاسيون، وامتدّ فيها تأثير العفيف التلمساني الذي نشر التصوّف الأكبري قبل قرنٍ من دخول العثمانيين. وفي الوقت ذاته، لعبت شخصيات مثل الأمير عبد الله التنوخي دوراً في صياغة علاقة تاريخية بين الدروز والأشاعرة، إلى درجة منحه العمامة الخضراء في دمشق تكريماً له من علماء السنّة[1]. لقد وجد العثمانيون عند دخولهم المدينة عام 1516 بنية روحية مكتملة تقوم على السعة والاحتواء، فعملوا على تقنينها وتوسيعها لا على تأسيسها من جديد.

لا يمكن المبالغة في تقدير أثر ابن عربي على الحياة الفكرية العثمانية. فكما يبيّن حسين يلماز (2018)[2] وأحمد زيلدزيتش (2012)[3]، تعرّف العثمانيون الأوائل إلى مؤلفاته عبر تلامذة صدر الدين القونوي في قونية. وبحلول القرن الخامس عشر، كان المتن الأكبر للأكبريين- ولا سيما فصوص الحكم والفتوحات المكية– قد دخل مناهج المدارس الشرعية، ليشكّل أجيالاً من الفقهاء والمتصوفة على السواء. وقد تعامل مفكرون عثمانيون مثل داوود القيصري وشمس الدين فناري مع أنطولوجيا ابن عربي لا بوصفها تأمّلات باطنية معزولة، بل باعتبارها إطاراً لأخلاق الدولة والسلطنة: فإذا كان الوجود كله يصدر عن أصلٍ إلهي واحد، فإن تعدّد الشعوب والمذاهب والأديان داخل الدولة يمكن فهمه باعتباره تجليات لذلك الأصل، لا تهديداً له.

وكانت ذروة هذا التركيب الرمزي في قيام السلطان سليم الأول بترميم ضريح ابن عربي في دمشق. فوفقاً للمصادر العثمانية والروايات المحلية، وصل السطان إلى القبر المنسي بإلهام رؤيوي – الأسطورة الصوفية المعروفة بـ«دخول السين على الشين»، أي دخول سليم (السين) إلى الشام (الشين).[4] وسواء كانت القصة حرفية أم رمزية، فإنها تكشف عن المخيّلة العثمانية وهي تعمل: دمشق، مرة أخرى، موضعُ الفيض الإلهي. وأصبحت التكية السليمية مركزاً صوفياً وإعلاناً معمارياً أن شموليّة الروح كانت أساس الدولة.

إنّ مستقبل المنطقة لن تقرّره الجيوش، ولا خطوط الترسيم، ولا المؤتمرات التي تُعقد في العواصم الأجنبية، بل سيُصاغ في سؤال واحد: أيّ إسلامٍ سيحكم الشام والعراق وديار بكر واسطنبول؟ الإسلام الذي يرى التعدّد تهديداً، أم الإسلام الذي يرى في التعدّد وجهاً من وجوه الحقيقة؟

ومن خلال «تقديس» ابن عربي وإدخاله في قلب الهوية الفكرية للدولة، قام العثمانيون فعلياً بترسيخ ميتافيزيقا للتعايش. وعلى النقيض من اعتماد المماليك على الشكليات الفقهية الصارمة، ومن النزعة اللاحقة للوهابية نحو «نقاء العقيدة»، دمج العثمانيون التعدّد الصوفي في منظومة الحكم. لقد أضفى المبدأ الأكبري القائل إن «الله يُعرَف في كل صورة» شرعيةً على سياسةٍ إمبراطورية احتوت الفقه المحلي، والأولياء الإقليميين، والمجتمعات متعددة الأديان. وأصبحت هذه «سعة التصوّر» عقيدة دولة غير معلنة لكنها نافذة جعلت من دمشق محوراً روحياً وإدارياً يربط عالمَي العرب والأناضول داخل فضاء عثماني واحد. [5]

لم يكن تبنّي الدولة العثمانية لميتافيزيقا ابن عربي مجرّد تفضيل فكري أو روحاني، بل كان الهيكل الناظم للنظام الإقليمي كلّه. وبحلول القرن السابع عشر، كانت الزوايا والتكايا الصوفية ممتدّة عبر دمشق وحلب والقاهرة، تعمل كمؤسسات ناعمة للسلطنة. كانت هذه الشبكات تُحوِّل التجريد الصوفي إلى انضباط اجتماعي: تعليم، وساطة، وهيئة معنوية تتجاوز الحدود المذهبية والعشائرية. ومن خلال هذا النسيج الروحي، حقّق العثمانيون ما تعجز عنه دول «الحداثة» حتى اليوم: نظام تعددي راسخ في رؤية كونية مشتركة، لا في أيديولوجيا قسرية موحِّدة.

انهيار الجغرافيا المقدسة

لكن انهيار الإمبراطورية العثمانية مطلع القرن العشرين نسف تلك الرؤية من جذورها. فالشرق الجديد الذي نشأ تحت الوصاية الاستعمارية- نتيجة اتفاقية سايكس–بيكو وإدارة الانتدابين الفرنسي والبريطاني- استبدل الوحدة الميتافيزيقية بالتقطيع الإداري. حيث سعت الدولة العثمانية إلى الانسجام عبر تدرّج السلطة، عمدت القوى الاستعمارية إلى ترسيخ الانقسام عبر الهويات. وتحولت دمشق، التي كانت يوماً صِلَة الوصل بين الأناضول والجزيرة العربية، إلى عاصمة مبتورة محاصرة بحدود مصطنعة.

ومع إلغاء الخلافة عام 1924، تفتّت المركز الرمزي للإسلام أكثر. فالدولة القومية الحديثة حوّلت الدين إلى جهاز بيروقراطي، وأخرجت الروحانية والتصوّف من المجال السياسي. وأُعيد تصوير رؤية ابن عربي في تنوّع التجليات الإلهية كأدب روحي أو جماليات ثقافية، بينما ملأ الفراغ خطابٌ فقهي حرفي ترسّخ أولاً في ظل الاستعمار، ثم استُخدم لاحقاً كسلاح بيد الحركات الإسلامية.

وبحلول أواخر القرن العشرين، تحوّل هذا الفقر الروحي إلى ثنائية عنيفة: الإسلام مقابل الدولة، أو «السنة الصحيحة» مقابل «البدعة». وردّت الأنظمة البعثية في دمشق وبغداد على التوتر المذهبي بالقمع لا بالمصالحة، فيما سعت الحركات الإسلامية، وقد جُرّدت من عمقها الروحي، إلى النقاء من خلال النفي والإقصاء. ومع غياب «النحو الروحي المشترك» الذي ميّز عصر العثمانيين، أصبح العيش المشترك هشّاً؛ فما كان ممكناً تحت خيال ابن عربي الشامل، بات عسيراً في غيابه.

وسوريا اليوم هي التعبير الأوضح عن هذا الانهيار. فالحرب الأهلية- برغم أنها سياسية في ظاهرها- هي في جوهرها حرب على معنى الوجود الإلهي في العالم. تتقاتل العقائد المتنافسة (السلفية، والشيعية، والعلوية، والدرزية) لا على الأرض فقط، بل على حقّ تعريف حضور الله في التاريخ. وتواجه دمشق، التي كانت تُعرف بـ«دار الوحدة»، خطرَ التحوّل إلى مدفن الإرث الإسلامي التعددي. وإذا لم تنشأ هنا رؤية جامعة جديدة، سيظلّ المشرق أسير حرب إبادية تُرتكب باسم «السُّنَّة» أو «الحقّ».

السؤال الملحّ ليس ما إذا كان يمكن استحضار ابن عربي بوصفه رمزاً للتسامح، بل ما إذا كان بالإمكان إعادة تفعيل أنطولوجيا الوحدة التي طرحها كإطارٍ سياسي قادر على استيعاب الاختلاف دون إلغائه. وفي غياب هذا المركز الميتافيزيقي، ستتفتّت الخريطة الدينية للمنطقة أكثر، وتتحوّل إلى ميليشيات عقائدية، كلٌّ منها يدّعي احتكار الحقيقة الإلهية.

ابن تيمية وفقه الإقصاء

إذا كان العثمانيون قد جعلوا من ابن عربي النحو الروحي لإمبراطوريتهم، فإنّ المشرق ما بعد العثمانيين ورث فقهاً أقرب إلى نقيضه: الحرفية الفقهية الصارمة لابن تيمية. وُلد ابن تيمية عام 1263، وتشكّلت ثورته الفكرية على التصوّف الفلسفي والتأمل الميتافيزيقي في سياق الشام المملوكي، حيث الغزو المغولي والاضطراب الداخلي قد ضربا شرعية النخب الدينية التقليدية. كانت دعوته للعودة إلى السنّة الأولى (السلف) محاولة لإعادة تثبيت اليقين الإسلامي على أساسٍ نصّي نقيّ. لكن حملاته ضد التوسّل بالأولياء والشفاعة، وضد التأويلات الفلسفية، ستصبح لاحقاً المادة الخام التي بُني عليها الفقه الإسلاموي الإقصائي المعاصر.

ومن المهم التوضيح أنّ ابن تيمية لم يكن بالمقاتل المتطرّف الذي يتصوّره بعض الإسلاميين اليوم. وكما يُبيّن يحيى مشّو[6]، فإنّ كتاباته تجمع بين الدقّة والمرونة، وكان جهاده في معظم الأحيان دفاعياً. إلا أنّ نقل فكره إلى سياق سياسي منهار ومشحونٍ بالهواجس المذهبية حوّل تركيزه على «حدود العقيدة» إلى ميتافيزيقا للعداء. وبحلول القرن العشرين، بدأت الحركات الاسلامية من نجد إلى حلب في تسليح فكره. فقد أعادت السلفية–الوهابية تقديم ابن تيمية باعتباره «إمام التطهير»، بينما جردت حركات مثل “القاعدة” ثم “داعش” فكره من سياقاته الشرعية، وحوّلت منطقه إلى خوارزمية للتكفير.

وهكذا انقلب الفقه العثماني الى نقيضه. ففي حين رأى ابن عربي الله متجلّياً في كل صورة، ترى الحركات التكفيرية اليوم الشيطان في كل اختلاف. وانشغالها المرضي بإزالة أيّ غموض- في العقيدة، أو السلوك، أو الطقوس- تحوّل إلى مشروعٍ للإبادة. ففي سوريا، دمّر هذا الفهم المغلوط لابن تيمية البنية الروحية للإسلام نفسه: هُدمت الأضرحة الصوفية، قُصفت المساجد، واستُهدفت جماعات بأكملها- دروز جبل السماق والسويداء، علويّو اللاذقية، ومسيحيو معلولا- بوصفها «زنادقة».

إقرأ على موقع 180  انتخابات لبنان بين الصمت واستراتيجيّات التدمير!

حتى الأرثوذكسية السنيّة لم تسلم من هذا التمزّق. فأصبح علماء الأشاعرة، الذين كانوا ركناً رئيسياً من أركان العقيدة السنيّة، متّهمين اليوم بالبدعة. انهار المركز العقدي، وبات المشهد حلبةً لـ أرثوذكسيات صغيرة متناحرة. وأصبح العلماء السوريون الذين بقوا في الميدان يمشون على خيطٍ رفيع: يدينون التطرف ويحاولون تفادي غضب المسلحين الذين يدّعون احتكار النطق باسم الله.

هذه هي مأساة المشرق اليوم: فقهٌ وُضع للدفاع تحوّل إلى سلاحٍ للهدم الداخلي. فالأزمة ليست فقهية فحسب، بل وجودية أيضاً. ومع إلغاء إمكانية أن تتجلّى الحقيقة الإلهية خارج جماعة بعينها، شنّ التطرّف السنّي حرباً ليس فقط على الشيعة والمسيحيين، بل على مبدأ التعدّدية داخل الإسلام نفسه. وها هي دمشق، المدينة التي احتضنت ابن عربي وابن تيمية معاً، تعيش صدام رؤيتيهما اليوم دماراً ودماءً.

حاكم دمشق الجديد، أحمد الشرع، وبرغم نجاحه النسبي في إدارة توازن حذر على الصعيد الخارجي، عجز عن إنتاج “ثوبٍ رمزي” جديد لدمشق؛ رؤيةٌ تتجاوز الطائفة وتستعيد معنى العيش المشترك، أو تمنح الأكثريات والأقليات إطاراً جامعاً ينظّم وجودهم في دولة واحدة. وهكذا بدت دمشق، التي كانت عبر القرون مركزاً للمعنى وموئلاً لفقه مشرقي واسع، مدينةً بلا سردية، بلا محراب رمزي، وبلا مشروع روحي أو سياسي يلمّ شتات السوريين والمنطقة

إطار شرعي للأكثرية والأقلية!

عقب الاستفتاء الدستوري عام 2017، حين نال رجب طيب أردوغان صلاحيات تنفيذية واسعة وحوّل نظام الحكم في تركيا من برلماني إلى رئاسي، سعى إلى صياغة سردية رمزية توازي التحوّل السياسي العميق الذي شهدته الدولة. وفي سياق هذا البناء الرمزي، زار ضريح السلطان سليم الأول في إسطنبول، ووضع فوق القبر عباءة السلطان التقليدية الملطخة بالطين (طين العلماء) في طقسٍ استُحضر بوصفه امتداداً لإرث السلطان سليم الذي وحّد الأناضول وربط بينه وبين الشام ومصر، وأعاد إحياء ضريح الشيخ الأكبر محيي الدين ابن عربي في دمشق.[7] لم يكن الفعل بروتوكولياً بقدر ما كان محاولة لتأكيد أنّ تركيا- في عهده- ترى نفسها جزءاً من الفضاء السنّي الأوسع، وقادرة على لعب دور محوري في إعادة ترتيب المشرق، عبر الجمع بين شرعية انتخابية معاصرة ورمزيةٍ عثمانية راسخة.

وفي مقابل هذا التوظيف العثماني للرموز السنّية، لجأ وليد جنبلاط إلى أدوات رمزية موازية داخل فضاء الأقليات. فبناء مسجد شكيب أرسلان في المختارة عام 2016 لم يكن خطوة عمرانية عابرة، بل رسالة ديبلوماسية ناعمة حول شكل الإسلام الممكن في بيئة تعددية. فاختيار اسم شكيب أرسلان- المفكّر الاسلامي الدرزي الذي ربط مصير الدروز بالأكثرية السنيّة والخلافة، وقاد تحالفاً سياسياً وعسكرياً لمقارعة الاستعمار- يعيد وصل الجبل بمركزية الشام ويستحضر إرثاً يؤكّد أنّ الأقليات لا يمكنها أن تنجو خارج إطار مشرقي أوسع.[8] كما أن هذا التوظيف الرمزي لا ينفصل عن حسابات الجبل الداخلية ولا عن حاجة الزعامة الجنبلاطية إلى تثبيت موقعها داخل مشهد مشرقي متحوّل، حيث يصبح المسجد- بمعماره الحديث وإيحاءاته الهادئة- محاولة لرسم ملامح إسلام توافقي يطمئن الأقليات ولا يقطع خيطه مع الأغلبية.

بهذا المعنى، يصبح كلٌّ من أنقرة والمختارة لاعبَين في مشهد واحد: الأكثرية التي تبحث عن إطار شرعي جامع، والأقلية التي تبحث عن ضمانة في هذا الإطار نفسه. لكنّ الرمزين- ضريح سليم الأول في إسطنبول ومسجد شكيب أرسلان في المختارة- لا يعنيان بالضرورة وجود مشروع واحد أو موحّد. فأردوغان، برغم قدرته على تعبئة الرموز العثمانية، يبقى أسير حسابات القوة الداخلية والخارجية، وجنبلاط، برغم استحضاره لخطّ جده شكيب أرسلان، يبقى ممثلاً لطائفةٍ تعرضت وما تزال تتعرض لتهديدٍ وجودي. هذا الاستحضار للرموز لا يُبدّد الأسئلة الكبرى: ماذا تعني هذه الرموز لأهالي السويداء الذين فقدوا آلاف القتلى؟ أو لعائلات العلويين الذين أُبيدت قراهم في الجنوب؟ أو للسنّة والصوفيين الذين مُزّقت مساجدهم على يد جماعات تكفيرية؟ ومن يعيد الاعتبار أيضا لآلاف العائلات التي قتلها نظام الأسد؟ ببساطة، من يُرمّم السماء المثقوبة فوق الشام؟

لم يكن ابن عربي مجرّد متصوّف، بل كان مهندساً لمنظومة تُدرك أنّ التعدّد شرطٌ للوحدة، وأنّ الشريعة لا تستقيم من دون سعة التصوّر. وحين تخلّى المشرق عن هذا الإرث، وورث بدلاً منه حرفيةً صراعية تتغذّى على الخوف والفرز والتكفير، انهار المركز الروحي الذي وحّد لقرون بين دمشق والأناضول والجبل

دريان يُؤم المصلين في مسجد شكيب ارسلان بالمختارة

وما يزيد المشهد تعقيداً هو أن حاكم دمشق الجديد، أحمد الشرع، وبرغم نجاحه النسبي في إدارة توازن حذر على الصعيد الخارجي، عجز عن إنتاج “ثوبٍ رمزي” جديد لدمشق؛ رؤيةٌ تتجاوز الطائفة وتستعيد معنى العيش المشترك، أو تمنح الأكثريات والأقليات إطاراً جامعاً ينظّم وجودهم في دولة واحدة. وهكذا بدت دمشق، التي كانت عبر القرون مركزاً للمعنى وموئلاً لفقه مشرقي واسع، مدينةً بلا سردية، بلا محراب رمزي، وبلا مشروع روحي أو سياسي يلمّ شتات السوريين والمنطقة.

 نحو قبلةٍ روحية جديدة للمشرق

إنّ القراءة الهادئة لمسار الإسلام الشامي- من إرث ابن عربي إلى الصراع الطائفي الحالي، ومن توازن العثمانيين إلى فوضى ما بعد الاستعمار- هو أنّ المشرق لا يعاني فقط من أزمة سياسية أو جيوسياسية فحسب، بل من أزمة فقهية–روحية تضرب جوهر تصوّر الإسلام في هذه المنطقة. لم يكن ابن عربي مجرّد متصوّف، بل كان مهندساً لمنظومة تُدرك أنّ التعدّد شرطٌ للوحدة، وأنّ الشريعة لا تستقيم من دون سعة التصوّر. وحين تخلّى المشرق عن هذا الإرث، وورث بدلاً منه حرفيةً صراعية تتغذّى على الخوف والفرز والتكفير، انهار المركز الروحي الذي وحّد لقرون بين دمشق والأناضول والجبل.

إنّ مستقبل المنطقة لن تقرّره الجيوش، ولا خطوط الترسيم، ولا المؤتمرات التي تُعقد في العواصم الأجنبية، بل سيُصاغ في سؤال واحد:
أيّ إسلامٍ سيحكم الشام والعراق وديار بكر واسطنبول؟ الإسلام الذي يرى التعدّد تهديداً، أم الإسلام الذي يرى في التعدّد وجهاً من وجوه الحقيقة؟

لقد أدرك أسلافنا أي الطريقين أصلح، ولذلك وضعوا ابن عربي في قلب مخيالهم السياسي، وجعلوا من دمشق محراباً للوحدة قبل أن تكون مركزاً للسلطة. وإن كان الغبار قد غطى اليوم تلك الفكرة، فإنّ على المشرق- علماء وصُنّاع سياساته ونخبه- أن يزيحوه مرّةً أخرى، وأن نستعيد القبلة الروحية التي ضاعت بين فقه الإقصاء وتطييف السياسة.

فإما أن نعيد إحياء سعة التصوّر، أو نستعدّ لقرنٍ آخر من الفتن!

الهوامش:

[1] انظر هامش الرسالة الموسومة بنهر الجمان في شرح غريب أيات القران للسيد الأمير جمال الدين عبدالله التنوخي. تحقيق الشيخ فرحان العريضي والقاضي ربيع زهرالدين.

[2] يشير الباحث حسين يلماز، أستاذ الفكر السياسي في جامعة جورجتاون وأحد أبرز الدارسين للمخيّلة السياسية العثمانية، إلى أنّ التحوّل الفكري الذي شهده القرن السادس عشر لم يكن تحوّلاً سياسياً فحسب، بل كان انعطافة ميتافيزيقية أعادت تعريف معنى الخلافة والسلطة في العالم العثماني. ففي كتابه المهم «الخلافة المعاد تعريفها: الانعطافة الصوفية في الفكر السياسي العثماني» (Caliphate Redefined: The Mystical Turn in Ottoman Political Thought, 2018)، الصادر عن دار برنستون للنشر، يوضّح يلماز كيف تبنّى العثمانيون عناصر أساسية من التراث الأكبري لابن عربي، وحوّلوها إلى بنيةٍ سياسية وأخلاقية تبرّر فكرة الإمامة الجامعة وتوحيد المذاهب والمدن والأقاليم تحت مركزية واحدة. وبحسب يلماز، فإنّ هذا الامتزاج بين التصوّف الأكبري والشرعية السياسية هو ما سمح للعثمانيين بإنتاج تصور جديد عن الخلافة لا يقوم على القوة وحدها، بل على رؤية توحيدية تجعل السلطنة تجسيداً لـ”وحدة الوجود” في المجال السياسي. وهذا التحليل يفتح الباب لفهم أعمق لسياسات سليم الأول وتجلّياتها الرمزية — ومنها إحياء ضريح ابن عربي — بوصفها جزءاً من هندسة روحية للدولة، لا مجرد قرار إداري أو معمار ديني.

رابط الكتاب عبر Princeton University Press:
https://press.princeton.edu/books/hardcover/9780691174808/caliphate-redefined?srsltid=AfmBOorIqs9wmJH-FNuWAy4gaiZW57racCfMG5CO2RvvO_FBUdcROWBt

[3] أحمد حمدون زيلدزيتش، الصديق والعدو: الاستقبال العثماني المبكر لابن عربي، أطروحة دكتوراه، جامعة كاليفورنيا – بركلي، 2012.
متاح عبر الرابط https://escholarship.org/uc/item/6jn6f796

[4] إكرم بُغرا إكينجي، “السلاطين العظام على عرش الدولة العثمانية: السلطان سليم الأول”، ديلي صباح، قسم الفنون، 2017.
https://www.dailysabah.com/arts/portrait/mighty-sovereigns-of-ottoman-throne-sultan-selim-i

[5] ويليام تشيتيك، طريق المعرفة الصوفي: ميتافيزيقا الخيال عند ابن عربي،
(ألباني: منشورات جامعة ولاية نيويورك – SUNY Press، 1989).
https://www.amazon.com/Sufi-Path-Knowledge-Metaphysics-Imagination/dp/0887068855

[6]انظر أيضا، يحيى ميشو، «موقف ابن تيمية من الجهاد»، The Muslim World، 89 (1999)

[7] «أردوغان يضع عباءة السلطان سليم الأول على ضريحه»، ترك برس (TurkPress)، 6 آب/أغسطس 2017،
https://www.turkpress.co/node/33502

[8] ولعلّ المؤرّخ مايكل بروفنس، صاحب كتاب الجيل العثماني الأخير، كان ليجد في هذا المشهد ما يؤكّد أطروحته المركزية: أنّ النخب العثمانية لم تُشكّل فقط ملامح المشرق في مرحلة ما بعد الاستعمار، بل إنّ أثرها السياسي–الاجتماعي ما زال يعمل بقوة في الحاضر ويمتدّ إلى المستقبل. فالحركات، والزعامات، والرموز التي تتقدّم اليوم في تركيا ولبنان وسوريا —تتحرّك داخل فضاءٍ تاريخي لا يزال مشدوداً إلى منظومات الأفكار التي صاغها العثمانيون حول الجامعة الإسلامية، وتوازن الأقليات، ووحدة المشرق. فان ما سمّاه بروفنس ب “آخر جيل عثماني” لم يختفِ فعلاً؛ بل تحوّل إلى بُنيةٍ عقلية وسياسية تتجدّد في كل منعطف وتعيد إنتاج نفسها عبر تحالفات جديدة ورموز جديدة.

Print Friendly, PDF & Email
نزار غانم

مدير الأبحاث في معهد السياسة البديلة، لبنان

Download Best WordPress Themes Free Download
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  الصين والصهيونية بين الوهم والتحليل الطبقي: قراءة نقدية في السردية العربية