قبل ذلك، كانت المبعوثة الأميركية مورغان أورتاغوس، قد أعلنت منذ توليها مسؤولية الملف اللبناني، عن ضرورة “الانتقال إلى المفاوضات السياسية” كإحدى الشروط التي تفرضها الولايات المتحدة على لبنان بالإضافة إلى النقطة الأساسية وهي حصر السلاح بيد الدولة اللبنانية على كل الأراضي اللبنانية.
في كل تلك الفترة، كان لبنان الرسمي، كما حزب الله، يناوران بالسياسة في محاولة واضحة لشراء الوقت، مع اختلاف منطلقات كلّ منهما. فالدولة اللبنانية كما هو معلوم تواجه تحدّيات كثيرة أبرزها نقص العديد والعتاد للجيش والخوف من احتمال وقوع أي تصادم مع حزب الله في الداخل في حال فرض حصر السلاح بالقوة وبالتالي الدخول في سيناريوهات أمنية أعادت إلى الأذهان محطات في تاريخ الحرب الأهلية في لبنان. أما حزب الله، فكانت تصريحات أمينه العام الشيخ نعيم قاسم بالإضافة إلى نواب كتلته والمسؤولين والإعلاميين الذين يدورون في فلكه، تتأرجح بين التصعيد تارة بالبعد الوجوديّ والعقائديّ وبين المناورة بالسياسة تارة أخرى ولكنها جميعها تصبّ في خانة خلاصة واحدة، وهي رفض تسليم السلاح.
رسائل.. سياسية وأمنية!
لبنان الخاسر في الحرب والمفتقر لأي أدوات ضغط فعلية في ظلّ وضع اقتصادي يعاني من انهيار بفعل النهب الممنهج في الدولة اللبنانية، وجد نفسه أمام معادلة واضحة: تطبيق الشروط الأميركية أو أن إسرائيل ستوسّع اعتداءاتها، بحيث تطال كلّ الأراضي اللبنانية وأي هدف ترى إسرائيل أنه يُشكّل تهديداً لها.
في هذا السياق، التقى المبعوثون الغربيون والعرب، على اختلاف بلدانهم، عند نقطة واحدة، وهي التحذير من انهيار تامٍّ لوقف إطلاق النار لا يعيد لبنان إلى حرب الـ٦٦ يوماً لكن ربما يُحوّله إلى “غزة ثانية”.
هذه الرسائل السياسية-الأمنية أعادت إلى الذاكرة المشهد نفسه قبيل حرب العام الماضي. وقتذاك، لم تقرأ الحكومة والحزب المشهد جيداً، فتمّ وضع هذه الرسائل في خانة “التهويل السياسي والإعلامي”. غير أن العامل الأساسي ربما لتحرّك رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون هو ما نُقلَ عن ضربة محتملة لمقرّات الجيش ليس فقط في الجنوب بل في بيروت أيضاً بالإضافة إلى مقرّات رسمية للدولة اللبنانية.
في ظلّ كل هذا المشهد، كان الحزب يناور ويراهن على خرق في العلاقات الإيرانية-الأميركية عن طريق الوساطة السعودية لمحاولة إعادة فرض نفسه لاعباً أساسيّاً وطرفاً مباشراً في المفاوضات التي تقودها الدولة مع الأطراف الدولية والإقليمية الممسكة بالملف اللبناني، وكان يحاول بالسياسة العودة إلى الوضع القائم في العام ٢٠٠٦ لجهة الاحتفاظ بسلاحه مقابل عدم ظهور نشاطه العسكريّ وهو ما يُفسّر قول أمينه العام إن المستوطنات الشمالية آمنة وأن الحزب يلعب دوراً دفاعيّاً فقط.
مبادرة عون بغطاء بابوي
في المقابل، كان رئيس الحكومة نواف سلام يستمرّ في خطابه الثابت بأن الدولة تعمل على حصر السلاح وفق خطة الجيش، في حين- وهنا الأبرز- كان رئيس الجمهورية يُمهّد الطريق للحظة إرسال الموفد السياسي بتصريحاته لا سيّما في خطاب عيد الاستقلال عندما أطلق المبادرة الخماسية وأشار فيها بصراحة إلى التفاوض كخلاص وحيد للدولة ثم في خطابه أثناء استقبال البابا لاوون الرابع عشر في القصر الجمهوري، من دون إغفال أهمية الغطاء الشرعيّ المسيحيّ الذي وفّرته له الزيارة البابوية.
معادلة الخطوة مقابل خطوة التي طرحها المبعوث الأميركي توم برّاك تصلح اليوم لرصد المسار اللبناني في التعامل مع الضغوط الأميركية والإسرائيلية، فالهدف أولاً وأخيراً بالنسبة إلى الرؤساء الثلاثة في لبنان هو وقف الاعتداءات الإسرائيلية؛ استعادة الأسرى واستعادة الأرض بانسحاب الاحتلال منها والتفاوض لتثبيت كامل حدود لبنان البرية. فكيف سيدير لبنان هذه المرحلة؟ وكيف سيكون ردّ حزب الله؟
وفي لحظة تقاطع بين الوساطات العربية مع الولايات المتحدة وإسرائيل من جهة، وبين التهديدات الإسرائيلية التي بلغت حدّها الأقصى من جهة ثانية، وبين عجز إيرانيّ عن المواجهة ورغبة في التفاوض وإبرام تسوية من جهة ثالثة، أقدم لبنان ممثّلا برؤسائه الثلاثة على اتخاذ هذا القرار التاريخي الذي يتعدّى في رمزيّته وتبعاته قرار الحكومة في ٥ آب (أغسطس) 2025 برفع الغطاء السياسي عن المقاومة، ولو أن الخطوتين تُكمّلان بعضهما البعض.
مفاوضات على وقع الاعتداءات!
ما هي سيناريوهات المرحلة المقبلة في لبنان؟
أولاً؛ إن خطوة لبنان في التفاوض السياسي المباشر مع إسرائيل لا تعني توقّف الاعتداءات الإسرائيلية أو حصول لبنان على دعم أميركيّ مطلق. فإسرائيل كما راعيتها الولايات المتحدة الأميركية يعتبران بأن القضية الأساسية لم يعالجها لبنان بعد، وهي حصرية سلاح الدولة اللبنانية في كل لبنان. غير أن لبنان يراهن من خلال هذه الخطوة، ومن دون أية ضمانات، على إعادة الضغط الأميركي لاستمرار سياستها في ضبط إيقاع ونطاق الاعتداءات الإسرائيلية وليس وقفها، أي منع تنفيذ إسرائيل تهديدها الكبير قبل أن تنتهي المرحلة الأولى من خطة الجيش اللبناني في نهاية السنة الحالية والقاضية بانجاز عملية حصر السلاح في منطقة جنوب نهر الليطاني، لا سيّما في ضوء الاتهامات والتهديدات الإسرائيلية والأميركية إلى الجيش اللبناني واعتبار مؤسسة الجيش وغيرها من دوائر الدولة هدفاً مشروعاً بالنسبة إلى إسرائيل عندما تُقرّر توسيع عدوانها. فإسرائيل ماضية في اعتداءاتها أكان في قصف المواقع العسكرية أو الأنفاق أو المنازل المدنية أو الاغتيالات التي قد يتوسّع نطاقها وطبيعتها في المرحلة المقبلة في لبنان. وهنا، لا بدّ من إعادة التذكير بما صرّحه المسؤولون الإسرائيليون مراراً بأن الحكومة فشلت في تنفيذ مهمّتها التي توعّدت بها لجهة نزع سلاح حزب الله على كامل الأراضي اللبنانية، وكيف يسوّق هؤلاء اعتداءات إسرائيل اليومية لدى الأميركيين بالقول لهم إن تل أبيب “تنفذ المهمة بالنيابة عن الدولة اللبنانية” لا بل “إنهم يقدمون الدعم لها”، بحسب تعبيرهم.
التفاوض المفتوح
ثانياً؛ تحاول إسرائيل استثمار هذه الخطوة في الداخل الإسرائيلي كما تسويقها لدى الولايات المتحدة. من هنا، يتقاطع الطرفان في استمرار الضغط على لبنان للدفع أكثر باتجاه توسيع هذه المفاوضات لتطال ملفات تتجاوز الحدود والأسرى والانسحاب، إلى ما يشبه الترتيب السياسي والاقتصادي بين البلدين. في هذا الإطار، لا يمكن فصل الصراع الدولي والإقليمي على الغاز والنفط في المنطقة.. ولبنان هو جزءٌ منها لا سيّما في ما يتعلّق بالترسيم وآليات التنقيب عن النفط والغاز ودور إسرائيل في خط الغاز الذي تتصارع عليها القوى الإقليمية الفاعلة، بالإضافة إلى طرح ما يسمّى بـ”مشروع ترامب الاقتصادي” في الجنوب والمنطقة العازلة التي تعمل إسرائيل على فرضها، وهذا ما يفسّر سرعة نتنياهو في التصريح أن المباحثات مع الجانب اللبناني يتضمن ما اعتبره “المصالح الاقتصادية”.
إيران وأميركا وبينهما لبنان
ثالثاً؛ بانتظار موقف حزب الله الرسميّ بعد بدء التفاوض السياسي بين لبنان وإسرائيل، يستمرّ الحزب ومعه الدولة في الرهان على تسوية إيرانية-أميركية بوساطة سعودية لكبح جماح نتنياهو وتخفيف الضغط عن لبنان وعن الحزب نفسه. غير أن معظم المعلومات والمعطيات تشير إلى أن أي تسوية محتملة بين البلدين، تهدف أولاً للضغط على إيران للتخلّي نهائيا عن برنامجها النووي. من هنا، فإن نزع سلاح حزب الله في المقاربة الأميركية يُعتبرُ أمراً واقعاً ولا مجال للنقاش فيه، بل قد يكون المقدّمة لأية مباحثات أميركية جدية مع إيران، وبالتالي أية وساطة سعودية هي فقط لمناقشة دور ونفوذ الشيعة في دول المنطقة ومنها بطيعة الحال لبنان لجهة عدم التعرّض لتمثيلهم ووجودهم السياسي. من هنا، تشير المعلومات إلى أن الرهان على عودة الأمور إلى العام ٢٠٠٦ أشبه بضرب من الخيال لا سيّما في ظلّ التفوّق الإسرائيلي الميداني وفي ظلّ التحولات التي تشهدها المنطقة والتوجّه العربي إلى تسوية الحروب من دون التنازل عن المسلّمات.
يمرّ لبنان بشكل جديّ وحقيقيّ في أخطر مرحلة من مراحل تاريخه الحديث. وفي حين أن البعض يُشبّه ما حدث بمرحلة اتفاق ١٧ أيار (مايو) 1983، فإن الحدثين يختلفان في التوقيت والسياق واللاعبين، وبالتالي لا يمكن إسقاط تلك المرحلة على واقعنا الحالي. ولعلّ معادلة الخطوة مقابل خطوة التي طرحها المبعوث الأميركي توم برّاك تصلح اليوم لرصد المسار اللبناني في التعامل مع الضغوط الأميركية والإسرائيلية، فالهدف أولاً وأخيراً بالنسبة إلى الرؤساء الثلاثة في لبنان هو وقف الاعتداءات الإسرائيلية؛ استعادة الأسرى واستعادة الأرض بانسحاب الاحتلال منها والتفاوض لتثبيت كامل حدود لبنان البرية. فكيف سيدير لبنان هذه المرحلة؟ وكيف سيكون ردّ حزب الله في الداخل اللبناني المنهك والمتشظي، كما في التجاوب مع مطلب السلطة السياسية في لبنان، أي التعاون في موضوع حصرية السلاح على كامل الأراضي اللبنانية؟ للحديث تتمة.
