بدأت سرديات سياسية وفكرية متعددة تتناول ما تسميه “نظام القلّة”، أو ما اصطلح عليه في العلوم السياسية بـ”الأوليغارشية العالمية”، أي تحكّم فئة ضيقة من الفاعلين الاقتصاديين والماليين والإعلاميين بالسياسات الكوكبية. هذه السرديات لا تصدر فقط من الأكاديميين أو الناشطين في دول الجنوب، بل أيضاً من حركات تيارية صاعدة في الغرب نفسه، خصوصاً بعد الأزمة المالية العالمية 2008، وجائحة كورونا، والتوترات الجيوسياسية، وازدياد تأثير التكنولوجيا والبيانات على المجتمعات والانتخابات، ما أدى إلى علاقة جديدة معقدة بين الشعوب والمؤسسات.
هذا الجدل الذي يتخذ أشكالاً متعددة، ليست جذوره في الأحداث الراهنة فحسب، بل في تطورات تعود إلى نهاية الحرب الباردة، حين بدأت المؤسسات الدولية تكتسب نفوذاً جديداً بعد انهيار النظام الثنائي القطبية، وبدأ الحديث عن “النظام العالمي الجديد” بوصفه لحظة صعود العولمة، وانحسار حدود السيادة. في تلك المرحلة، تحولت الأمم المتحدة من منظمة أمن جماعي إلى مؤسسة لحوكمة التنمية والبيئة والمناخ والهجرة، وأُطلقت برامج كبرى ذات طابع كوني شملت أهداف الألفية ثم أهداف التنمية المستدامة 2030. في الوقت ذاته، ظهر منتدى دافوس، أو المنتدى الاقتصادي العالمي، كأحد أهم مراكز التفاعل بين الشركات الكبرى وصنّاع السياسات والخبراء والنخب السياسية والمالية. هذا التزامن بين صعود الأمم المتحدة كمنصة سياسية – تنموية، وصعود دافوس كمنبر للنخب الاقتصادية العابرة للدول، جعل كثيرين يرون أن هناك توازياً بين المشروعين، بل وحدةً في الأجندة العامة.
علمياً، يتطلّب هذا الادعاء وقفة تحليلية دقيقة. فالتقاطع بين أهداف التنمية المستدامة وبين مسارات العولمة الاقتصادية والتكنولوجية ليس أمراً مفاجئاً، ولا يمكن اعتباره دليلاً قاطعاً على وجود مركز واحد للتحكم، بل هو انعكاس طبيعي لعالم تتشابك فيه المصالح والتهديدات والمخاطر العابرة للحدود. الأمن الغذائي، ندرة المياه، المناخ، الفقر، التحول الرقمي، كلها مشكلات لا يمكن لأي دولة أن تتعامل معها بمفردها. لذلك، من الطبيعي أن تتقارب الخطط الأممية مع المبادرات الاقتصادية الكبرى. غير أنّ هذا التفسير لا يلغي العامل الآخر الأكثر حساسية المتصل في غياب التمثيل المتوازن للجنوب العالمي في مراكز صنع القرار، وهي مشكلة تاريخية ومعقدة، أسهمت في تعزيز شعور شعوب كثيرة بأن القرارات التي ترسم مستقبلها تُتخذ في أماكن بعيدة عنها، من دون مشاركة فعلية أو حس بالعدالة.
هذا الشعور يتعزز بفعل عاملين متلازمين: الأول هو سيطرة الشركات الكبرى على نسب هائلة من الثروة العالمية، والثاني هو انتقال مركز الثقل السياسي من الحكومات الوطنية إلى منظومات الحوكمة الاقتصادية والتكنولوجية والإعلامية. في أعقاب هذا التحول، بدأت تيارات فكرية جديدة تتحدث عن “اختطاف السيادة”، وعن “تفويض غير ديموقراطي لمصير العالم”. ومن هنا جاءت فكرة أن قادة دول كثيرة لم يعودوا قادة بالمعنى التقليدي، بل مجرّد مديرين أو منفذين لاتفاقات وتوجيهات سياسية واقتصادية عليا.
في أوروبا على وجه الخصوص، تعمّق هذا الشعور بعد أزمة اليورو، حيث وجد المواطن الأوروبي نفسه يشاهد مؤسسات غير منتخبة، مثل البنك المركزي الأوروبي وصندوق الاستقرار الأوروبي، تحدد سياسات مالية واجتماعية تطال حياته اليومية، من دون أن يستطيع التأثير فيها عبر صناديق الاقتراع. ومن هنا نشأت سردية أن رئيس الوزراء والمستشار والرئيس لم يعودوا أصحاب القرار النهائي، بل مجرّد موظفين في نظام مركّب يقوده من فوق فاعلون ماليون واقتصاديون (لوبيات) يمتلكون القدرة على الضغط والتمويل والتأثير.
في هذا السياق، جاء انتخاب دونالد ترامب عام 2016 في الولايات المتحدة. لم يكن ما جرى هو مجرد تغيير لشخص الرئيس، بل شهدنا تغييراً للمعادلة النفسية التي اعتادت أن ترى أن مسار السلطة محكوم مسبقاً بالتوازنات الداخلية والخارجية للنخب. كانت التوقعات السياسية السائدة قبل الانتخابات تشير إلى أن الطريق شبه ممهّد لوصول هيلاري كلينتون، لا لأن النظام خطّط لذلك بالضرورة، ولكن لأن مؤسسات استطلاع الرأي والإعلام والتحالفات الحزبية اعتقدت أن المسار مؤكّد. لذلك بدا فوز ترامب وكأنه تمرّد غير متوقع على الشبكات التقليدية التي اعتادت التحكّم بمدخلات الرأي العام، ما فتح الباب أمام موجة جديدة من النقد الشعبي للمؤسسات الإعلامية والسياسية والمالية الكبرى.
هذا الحدث لم يغير الولايات المتحدة فقط، بل أعاد فتح النقاش العالمي حول مسألة النفوذ النخبوي، ودفع إلى طرح أسئلة كبرى؛ من يتحكم بمن؟ من يقود من؟ من يضع أولويات العالم؟ وهل يصبح السياسي المنتخب أعلى سلطة، أم أن السلطة الحقيقية باتت في مكان آخر؟
من الناحية الفكرية، هناك ثلاثة اتجاهات رئيسية في تفسير هذا الصراع:
الاتجاه الأول يرى أن النظام الدولي اليوم هو نتيجة تطور طبيعي لعالم مترابط، وأن المؤسسات الدولية والنخب الاقتصادية ليست مؤامرة، بل آليات ضرورية لإدارة التعقيد العالمي.
الاتجاه الثاني يرى أن المشكلة تكمن في خلل بنيوي في توزيع السلطة والموارد، وأن إعادة هندسة هذه المؤسسات على نحو أكثر ديمقراطية وعدالة هو الحل.
الاتجاه الثالث يذهب أبعد من ذلك، فيعتبر أن هناك مشروعاً فوق-سيادي يسعى إلى إحلال حوكمة نخب عالمية محل الحكومات الوطنية، وأن هذه العملية تجري تدريجياً، ليس فقط عبر الاقتصاد، بل أيضاً عبر الثقافة والسياسات الاجتماعية والبيئية والتربوية.
هذا الاتجاه الثالث، تحديداً، هو الذي يؤدي إلى انتشار روايات أكثر تشاؤمية عن النظام العالمي، والتي تزعم وجود خطط كبرى تستهدف التحكم بالثروات وبالبشر وبمصير الإنسانية. بعض هذه الروايات يذهب إلى أن النظام النخبوي لا يبحث فقط عن السيطرة السياسية، بل عن قدرتين إضافيتين: التحكم بالمشاعر، والتحكم بالمعنى. بمعنى أن الخطر الأكبر ليس اقتصاديًا أو سياسيًا فقط، بل روحي-أنثروبولوجي، يهدف إلى خلق إنسان لا يملك مشاعر ولاء، ولا إحساساً بالخير والجمال، لأن الإنسان القادر على الحب والجمال هو، وفق هذه السردية، خارج السيطرة.
وبرغم أنّ هذه السرديات تحمل طابعاً رمزياً أو ميتافيزيقياً في بعض جوانبها، إلا أنها تكشف بدقة عن أزمة هوية تعيشها البشرية في هذا الزمن. لقد فقد الإنسان الكثير من قدرته على فهم موقعه داخل عالم معقد، وتكسّرت الهويات التقليدية، وتراجع دور الدين والأسرة والجماعة المحلية، فخلقت العولمة فراغاً وجودياً، ملأته هذه السرديات.
على المستوى العلمي، يعرف مؤرخو الفكر السياسي أن انهيارات المنظومات الكبرى لا تحدث فجأة، بل عبر سلسلة من التحولات الطويلة المدى. ولذلك يصعب الجزم بأن النظام العالمي الحالي بصدد الانهيار، كما يصعب الجزم بأنه بصدد الترسخ. ما يمكن الجزم به أكاديمياً هو أن العالم في مرحلة انتقالية غير محسومة، وأن إعادة تعريف السيادة هي جوهر اللحظة.
السؤال المركزي إذن ليس: هل هناك قلة تريد تدمير الخير والجمال؟
السؤال الحقيقي هو: كيف نعيد إدخال الإنسان في المعادلة؟ كيف نعيد للسيادة معناها دون أن نغلق العالم؟ وكيف نعيد للعولمة معناها دون أن نُلغي الشعوب؟
إن معركة السيادة والعولمة ليست معركة ضد العالم، بل معركة من أجل العالم. ليست رفضاً للتعاون، بل دفاعاً عن التوازن. ليست رفضاً للمؤسسات الدولية، بل مطالبة بإصلاحها. ليست ثورة على التقدم، بل حماية للإنسان من أن يتحول إلى رقم أو ملف أو بيانات في منظومة لا ترى فيه إلا وظيفته الاقتصادية.
المستقبل لن يُصنع بالنفي، بل بالصياغة. لن يُبنى بالصدمات، بل بالوعي. ولن يستقر إذا ظل الإنسان يشعر أنه مستبعد من اتخاذ القرار في وطنه أو في العالم.
لهذا، فإن الجواب ليس في الصراخ، بل في المعرفة. وليس في الانسحاب، بل في المطالبة والضغط والمشاركة. الطريق لا يبدأ بإنكار المؤسسات، بل بإصلاحها.
فالسيادة، في معناها الأصيل، ليست سلاحاً ضد العولمة، بل توازناً معها. والعولمة، في معناها الصحيح، ليست عبداً للنخب، بل إطاراً لتعاون الشعوب.
أما المعركة الحقيقية، فهي أن يبقى الإنسان في المركز.
