“سلامُ” واشنطن.. اسمٌ جديدٌ لمعنى قديم اسمه “الاستسلام”!

لم يكن قرار تسمية السفير اللبناني السابق سيمون كرم لرئاسة الوفد اللبناني المشارك في اجتماعات لجنة "الميكانيزم" وليد لحظة مفاجئة. إنّه تعبير عن مسار متدحرج منذ وقف النار قبل سنة، حيث كان الأميركيون يُذكّرون السلطة السياسية اللبنانية بوجوب الانتقال من التفاوض العسكري إلى التفاوض السياسي مع إسرائيل.. وصولا إلى تحقيق ما يسميه الأميركيون "فرص السلام" بين الجانبين!

منذ سنوات، تعمل الولايات المتحدة على إعادة تدوير فكرة الاستسلام من خلال كلمة واحدة فقط: السلام. هذه الكلمة التي تعرف واشنطن جيداً كم يُحبّها الناس، وكم يهرب الجميع إليها حين يُثقل الخوف حياتهم اليومية.

لكن المشكلة ليست في السلام نفسه، بل في الطريقة التي يُستخدم بها. أصبح المصطلح واجهة ناعمة لمشاريع تُريد تثبيت نتائج الحروب، لا وقفها. تُريد تطويع الشعوب، لا حماية حقوقها. تُريد إقناعك بأن التخلي عن جزء من كرامتك هو الطريق الوحيد لتعيش بسلام.

ما يجري في غزة هو النموذج الأكثر وضوحاً.

يقولون “اتفاق سلام”، بينما:

أكثر من نصف القطاع تحت الاحتلال المباشر.

السيطرة كاملة على الجو والبحر والمعابر.

اغتيالات يومية وقصف لا يتوقف.

ممنوع على الفلسطيني أن يقاوم، لأن المقاومة – بحسب الرواية – “تخرب السلام”.

أيُّ سلام هذا؟

إنه بوضوح محاولة لفرض واقع جديد على الفلسطينيين:

اقبلوا الاحتلال وسنطلق على ذلك اسم “سلام”.

لبنان… ضغطٌ اقتصاديٌّ وسياسيٌّ تحت عنوان “منع الحرب”.

الطريقة نفسها تُستخدم مع لبنان.

يأتي الأميركي اليوم إلينا بعنوان “حماية لبنان” و“وقف الحرب”، لكنّ المطلوب واضح:

تجريد المقاومة من سلاحها (إن لم نقل إعدامها) وتعديل قواعد الاشتباك بما يناسب الأمن الإسرائيلي.

تحويل المساعدات الاقتصادية إلى ورقة ابتزاز سياسي.

منع لبنان من استعمال قوته الوحيدة التي ردعت إسرائيل منذ العام 2006.

والمفارقة أن الشعب اللبناني، المرهَق اقتصادياً، أصبح أكثر قابلية لتصديق أي وعد بالاستقرار حتى لو كان الثمن هو التضحية بعناصر قوته الأساسية.

لكن الاستقرار الذي يُبنى على الضعف ليس استقراراً، بل مرحلة أولى من الانهيار.

الشعوب تريد اليوم فقط أن تبقى على قيد الحياة.

في زمن الحروب المتنقلة من أوكرانيا إلى فلسطين إلى البحر الأحمر، يتحول السلام من مشروع سياسي إلى حاجة وجودية.

الناس يريدون فقط أن يناموا ليلة بلا خوف.

هذه الحالة ليست طبيعية. إنها أقرب إلى ما يمكن وصفه بـ:

سلام الضرورة؛ سلامٌ يهدفُ إلى النجاة، لا إلى العدالة.

وهو سلامٌ هشٌّ لأنّه لا يقوم على حقوق، بل على التعب ومن ثم الإخضاع.

هنا تنشأ الحالة الأكثر خطورة:

مجتمعات تقبل الظلم فقط لأنها تريد أن تعيش يوماً إضافياً.

وجوب المقاومة ليس رأياً بل ضرورة.

في مواجهة هذا النمط من “السلام”، تصبح المقاومة – في غزة ولبنان وكل مكان – ضرورة لا يمكن التفاوض عليها. ليست موقفاً سياسياً، ولا شعاراً عاطفياً، بل نتيجة طبيعية لوجود احتلال يفرض نفسه بالقوة.

لماذا المقاومة واجبة؟

لأن القانون الدولي يضمن حق مقاومة الاحتلال.

المحتل لا يُمكن أن يتحول إلى صاحب حق، مهما تغيّر شكل الخطاب.

لأن الواقع يُثبت أن العدوان لا يتراجع إلا تحت الضغط.

لا يوجد احتلال انسحب من تلقاء نفسه.

موازين القوة هي التي تحمي، لا الوعود الأميركية.

وحين يفقد الناس إرادتهم، يفقدون كل شيء: أرضهم، حقوقهم، مستقبلهم.

لبنان مثالٌ حيٌّ.

كلما ضعف الردع، ازدادت الاعتداءات الإسرائيلية.

وكلما ازدادت قدرة المقاومة، تراجع التهديد.

هذه ليست قراءة سياسية؛ هذه تجربة عاشها اللبنانيون منذ أكثر من 40 عاماً.

الخلاصة؛ السلام الحقيقي لا يصنعه الضعفاء.

الولايات المتحدة تعرف جيداً أن كلمة “سلام” تُخدّر الشعوب.

لكن الشعوب التي تُسلّم بأنصاف الحلول ستجد نفسها أمام احتلال كامل بعد سنوات قليلة.

السلام الحقيقي لا يفرضه الأقوى على الأضعف، بل يفرضه القادر على حماية حدوده وحقوقه.

ولهذا كانت المقاومة – وستبقى – شرطاً لأي استقرار حقيقي، لأن الاستقرار الذي يأتي عبر نزع سلاح الشعوب هو شكل آخر للاستسلام.

السلام ليس مشكلة.. والتفاوض أيضاً ليس مشكلة.

المشكلة هي في تحويل السلام إلى غطاء لإلغاء حق الشعوب بالدفاع عن نفسها.

والمشكلة في أن يتحول التفاوض إلى فرصة لتعريتك حتى من ورقة التوت بدلَ أن تُحصّل حقوقك في الحياة الآمنة.. وتحصيل الحقوق يبدأ من عند استثمار نقاط قوتك، فإذا لم تكن موجودة وجبَ عليك أن تسعى لايجادها.

Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  هل تهب رياح الحرب من الحدود البحرية الجنوبية؟
أكرم بزي

كاتب وباحث لبناني

Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  نتنياهو يناور في واشنطن.. وفتح وحماس تتصالحان في بكين!